حول الإجراءات المُتَّخَذة لمواجهة أزمة كورونا: كيف تتحوّل الأزمة إلى فرصة لإرضاء جشع رأس المال؟


2021-01-29    |   

حول الإجراءات المُتَّخَذة لمواجهة أزمة كورونا: كيف تتحوّل الأزمة إلى فرصة لإرضاء جشع رأس المال؟
(وكالة الأناضول)

تصاعد الخطاب الليبرالي مع تفشّي وباء كورونا، ليحوّل هذه الأزمة إلى فرصة لإنقاذ الشركات الرأسمالية من أزمة تتواصل منذ سنوات. لم يكن كورونا سبباً لها بل مجرّد الشرارة التي أبرزتها بشكل واضح. هذا الخطاب، عبّرت عنه بكلّ وضوح افتتاحية مجلة “التايمز” البريطانية بتاريخ 19/03/2020 والتي ورد فيها ما يلي: “هناك أهداف حيوية لصنّاع السياسة يمكنهم وبواقعية التركيز عليها: أولاً، عليهم منع هذا التدهور الاقتصادي من التحوّل إلى حالة كساد اقتصادي؛ ثانياً، عليهم إثبات أنّ الأسواق الحرّة والتجارة المفتوحة هما النموذج الاقتصادي الأفضل القادر على توليد الثروة وتحسين حياة البشرية. وإن فشلوا في هذين الهدفين وغيرهما سيسمحون للأفكار الخطيرة، مثل الحمائية التجارية والدولة الاشتراكية، بالبروز”.

لم تكن الإجراءات “الاقتصادية والاجتماعية” المتّخذة في تونس التي أعلن عنها رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ خارجة عن هذا السياق. كان من المفروض بالكلمة التي ألقاها إبّان بداية الجائحة كما سُوِّق لها، أن تكون تفسيراً للإجراءات المنبثقة عن قرار “الحجر الصحّي الشامل” الذي أعلن عنه رئيس الدولة. ولم يكن من باب الصدفة أن تستبق القنوات التلفزية الخاصّة هذا “التفسير” وتفسح المجال لبعض رموز لوبيّات المال والتجارة الذين تحدّثوا مطوّلاً عن “تضحياتهم” و”الحظر الذي يهدّد مؤسّساتهم” بما يستوجب تدخّل الدولة لإنقاذهم رافضين في الوقت نفسه أيّ مساهمة في تعبئة الموارد الضرورية لمواجهة الأزمة. لذلك، كانت الإجراءات التي أقرّتها الحكومة، في جزئها الأكبر، حماية لمصالحهم وإرضاء لجشعهم.

الفئات الهشّة تدفع الثمن الأكبر للجائحة

في الكلمة التي ألقاها يوم 21 مارس 2020، وبعد مقدّمة إنشائية مطوّلة حول “خطورة الأزمة” و”آثارها على الاقتصاد” و”التضامن الجماعي” و”الوحدة الوطنية”، استعرض رئيس الحكومة حينها جملة من “الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية” قُدِّرت كلفتها الجملية بـ 2500 مليون دينار. وسنحاول في هذه المقالة الرجوع إلى هذه الإجراءات لكشف زيف الخطاب الحكومي والمقولات الواهية التي يتستّر خلفها.

في باب “الإجراءات الاجتماعية”، إلى جانب تأجيل أقساط خلاص القروض البنكية بستّة أشهر بالنسبة للأجراء الذين لا يتجاوز دخلهم 1000 دينار شهرياً، خُصِّصَ مبلغ 450 مليون دينار موزّع بين 300 مليون دينار مساعدات لفائدة العمّال المُحالين على البطالة الفنّية و150 مليون دينار اعتمادات استثنائية لفائدة الفئات الهشّة ومحدودي الدخل وذوي الاحتياجات الخاصّة.

لم يكن من باب الصدفة أن يقع التركيز عند استعراض هذه الإجراءات والتسويق لها، على المبالغ في صيغتها الجملية (300 مليون دينار و150 مليون دينار)، فهي تبدو “مبالغ ضخمة” لغير المختصّين وغير المعتادين على التعاطي مع الأرقام، وتُعبّر عن “مجهود جبّار” تقوم به الحكومة لحماية الفئات الهشّة. إلّا أنّ تفاصيلها تكشف زيف الخطاب الحكومي وتُبيّن أنّ الاعتمادات المرصودة ليست سوى فتات ومسكّنات توظّفها الحكومة للدعاية لا غير.

الاعتمادات المرصودة لفائدة الفئات الهشّة ومحدودي الدخل وذوي الاحتياجات الخاصّة (150 مليون دينار) تتوزّع كما يلي: مساعدة لفائدة 623 ألف عائلة محدودة الدخل بمعدّل 200 دينار لكلّ عائلة، ومساعدة لفائدة 26 ألف عائلة معوزة بقيمة 50 دينار لكلّ عائلة. إذا ما اعتمدنا إذن على المساعدة المخصّصة لكلّ عائلة تبدو المبالغ ضئيلة جدّاً خاصّة وأنّ واقع الأزمة وإجراءات الحجر الصحّي ستُنتج بالضرورة نفقات إضافية نتيجة الاحتكار وارتفاع الأسعار والكلفة المنجرّة عن الوقاية. حتى أنّ المنحة (200 جينار) المُسنَدة للعائلات ذات الدخل المحدود، أي الدخل غير القارّ، تبدو مقبولة نسبياً، لكن هذه العائلات ستفقد دخلها (المحدود) بفعل الأزمة وستجد نفسها مُجبَرة على الإيفاء بكلّ حاجيّاتها اعتماداً على المساعدة الممنوحة فقط. لكن الأهمّ، أنّ هذه المساعدة ستُسنَد لمرّة واحدة فقط في ظلّ أزمةٍ طالت.

من ناحية أخرى، خُصِّصَ مبلغ 300 مليون دينار مساعدات لفائدة العمّال المُحالين على البطالة الفنّية، أي البطالة المنجرّة عن إيقاف نشاط المؤسّسات الخاصّة، لكن من دون تقديم أيّ تفصيل حول منهجيّة تقدير هذا المبلغ وآليّات توزيعه وحجم المساعدة المخصّصة لكلّ عامل يجد نفسه في وضع البطالة الفنّية. منطقياً، ينبغي أن تكون المنهجيّة المُتَّبَعة في مثل هذه الحالة معاكِسة تماماً، فيُحدَّد أوّلاً المبلغ الضروري الذي يؤمّن الحدّ الأدنى المعيشي للعامل وعائلته (مثلاً الاعتماد على الأجر الأدنى المضمون). ويمثّل هذا المبلغ المنحة أو المساعدة الشهرية التي تعوّض العامل عن راتبه في حالة البطالة الفنّية وطيلة مدّة البطالة. بالتالي لا يمكن تحديد الاعتماد الجملي مسبقاً بل لاحقاً، باعتبار عدد العمّال المحالين على البطالة الفنّية ومدّة بطالتهم. في فرنسا مثلاً، اعتُمدت آليّة “البطالة الجزئية” (chômage partiel) حيث يتمكّن كلّ عامل توقّفت المؤسّسة التي تشغّله عن النشاط بسبب فيروس كورونا من منحة شهرية تعادل 84% من أجره الشهري الصافي. هذه المنحة تتكفّل بها المؤسّسات ثم تتدخّل الدولة لاحقاً لتعويضها. أمّا المبلغ الجملي للتعويضات فيرتبط بعدد المحالين على البطالة الفنّية ومدّة بطالتهم.

في تونس، يشغّل القطاع الخاصّ نحو مليون و500 ألف أجير، إلّا أنّ الحكومة لم تحدّد آليّات توزيع المبلغ المرصود ولا المنحة المُسنَدَة لكلّ عامل ولا مدّة التمتّع بهذه المنحة، ما يطرح إشكاليّات جدّية تتعلّق بإمكانيّة تطبيق الحجر الشامل. إذا اعتبرنا مثلاً أنّ المنحة المسندة لكلّ عامل في وضع بطالة فنّية تُعادل الأجر الأدنى (400 دينار تقريباً) ولشهر واحد فقط، واعتماداً على المبلغ الجملي المرصود (300 مليون دينار) يصبح عدد العمّال المحالين على البطالة الفنّية في حدود 75000 عامل، أمّا البقيّة (750000) فأُجبِروا على مواصلة العمل بكلّ ما يحمله ذلك من مخاطر عليهم وعلى عائلاتهم.

السّخاء الحكومي المختلّ

تضمّنت “الإجراءات الاقتصادية” الموجَّهة للمؤسّسات حزمةً أولى تمثّلت في تأجيل دفع الأداءات لمدّة ثلاثة أشهر، تأجيل خلاص أقساط القروض البنكية لمدّة ستّة أشهر، التمكين من استرجاع فائض الأداء على القيمة المضافة في أجل أقصاه شهر، إعفاء المؤسّسات التي أبرمت صفقات عمومية من خطايا التأخير لمدّة أقصاها ستّة أشهر. تبدو هذه الإجراءات عموماً مقبولة، حيث تؤمّن للمؤسّسات السيولة الضرورية لمواصلة نشاطها من دون تأثير كبير على موارد ميزانيّة الدولة. لكن كان لا بدّ من إرفاقها بجملة شروطٍ أهمّها: حصر التمتّع بهذه الإجراءات على المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة، نظراً إلى هشاشتها وضعف مواردها المالية؛ استثناء كلّ المؤسّسات المُتخلِّدة بذمّتها ديون جبائية أو ديوانية؛ وأخيراً وضع آليّة لجدولة تسديد الأداءات وأقساط القروض المتأخّرة بعد انتهاء مدّة التأجيل حتّى لا تجد هذه المؤسّسات (الصغرى والمتوسّطة) نفسها مُجبَرة على تسديد المستحقّات المتخلّدة بذمّتها في فترة وجيزة وتتعقّد بذلك وضعيّتها المالية. أمّا الحزمة الثانية من الإجراءات، الموجَّهة تحديداً للمؤسّسات الكبرى، فهي الأكثر أهمّيّة والأكثر خطورة لذلك سنتناولها بتفصيل أكثر.

يتمثّل الإجراء الأوّل في جدولة الديون الجبائية والديوانية لمدّة سبع سنوات. وحسب تقديرات وزارة المالية فإنّ حجم هذه الديون يبلغ 10.000 مليون دينار، أي ما يعادل 21% من مجمل ميزانيّة الدولة و27% من الموارد الذاتية و31% من الموارد الذاتية لسنة 2020 وأربع مرّات حجم الاعتمادات المرصودة لمجمل الإجراءات (2500 مليون دينار). لكن السؤال الذي يُطرَح هنا: ما علاقة هذا الإجراء بأزمة كورونا؟ هل تفشّي هذا الوباء هو ما منع هؤلاء من تسديد ديونهم الجبائية والديوانية؟ طبعاً، لا علاقة لأزمة كورونا بكلّ هذه الديون المتخلّدة منذ سنوات والتي تعكس تهرّب اللوبيّات من الإيفاء بتعهّداتها تجاه الدولة. أكثر من ذلك، لولا تهرّب هذه اللوبيّات لكانت الدولة أكثر قدرة على دعم المرفق العمومي (الصحّة العمومية تحديداً) ولَكُنَّا أكثر قدرة على مجابهة هذا الظرف الاستثنائي. وتكفي الإشارة فقط إلى أنّنا نواجه هذه الأزمة بقطاع صحّة عمومية مترهّل (400 سيارة إسعاف و331 سرير إنعاش) في حين تبلغ الديون المتخلّدة بذمّة اللوبيّات 10000 مليون دينار، أي أنّ تهرّبهم هو أحد أسباب الأزمة وليس نتيجة لها. كان يُفترض إذن ونحن نمرّ بظرف استثنائي أن يقع إجبار المتهرّبين على تسديد ولو جزء من الديون المتخلّدة بذمتهم. إلّا أنّ حكومة الكومبرادور الرثّ ارتأت غير ذلك وكافأت لوبيّات التهرّب الضريبي بإعادة جدولة هذه الديون لمدّة سبع سنوات. ليس هذا الإجراء في الواقع إلّا تشجيعاً على التهرّب الضريبي ومكافأة للمتهرّبين، أمّا تمديد مدّة الجدولة إلى حدود سبع سنوات فليس إلّا تحضيراً لإسقاط هذه الديون نهائياً وهو ما يطالب به الكومبرادور الرثّ منذ سنوات.

ويتمثّل الإجراء الثاني في إحداث خطّ ضمان بـ500 مليون دينار لتمكين المؤسّسات من قروض جديدة، وهو إجراء يطرح بدوره العديد من الإشكالات. أوّلاً، إنّ تحديد حجم القروض الجديدة يتوقّف على تحديد الحاجيّات المالية للمؤسّسات أي بعد تجاوز الأزمة وتقييم آثارها ولذلك لا يستند تحديده المسبق إلى أيّ منطق. وقد يفتح المجال لعمليّات التلاعب والفساد وتضخيم المؤسّسات لاحتياجاتها المالية. ثانياً، لماذا استُثنِيَتْ المؤسّسات العمومية ولم يُخصَّص أيّ إجراء لفائدتها وكأنّها لن تتأثّر بهذه الأزمة. ثالثاً، هذه القروض ستكون موجَّهة للتصرّف والأشغال أي أنّها لن تؤدّي إلى استثمارات أو خلق للثروة ومَواطن الشغل. أمّا الإشكال الرابع فهو أنّ هذا الإجراء سيمكّن المؤسّسات من الحصول على قروض بضمان الدولة، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة ذلك الحجم الهائل من القروض التي نهبها أصحاب الأعمال وتمّ تسديدها على حساب ميزانيّة الدولة، أي على حساب دافعي الضرائب، تحت غطاء إعادة رسملة البنوك العمومية. أخيراً، حسب معطيات البنك المركزي، بلغ حجم القروض البنكية المسندة للقطاع الخاصّ سنة 2018 نحو 60 مليار دينار (مقابل 5 مليارات دينار فقط للمؤسّسات العمومية). لكن الأهمّ أنّ المجموعات الكبرى استحوذت على 34 مليار دينار تقريباً، أي أنّ خمس عائلات نافذة استحوذت على 57% من القروض البنكية في حين لم ينلْ القطاع الفلّاحي مثلاً، على أهمّيّته، سوى 4% من مجموع هذه القروض. من المؤكّد إذاً، أنّ العائلات النافذة نفسها ستستحوذ على الجزء الأكبر من خطّ الضمان هذا. بالطبع وككلّ مرّة، لن تسدّد هذه القروض فتتحمّل الشرائح المهمّشة والمفقّرة الكلفة.

أمّا الإجراء الثالث، فيتمثّل في إحداث صندوق بـ700 مليون دينار لهيكلة ورسملة المؤسّسات المتضرّرة. يطرح هذا الإجراء الإشكالات السابقة نفسها، من حيث استثنائه للمؤسسات العمومية والتحديد المسبَق لحجم الأضرار. كما أنّه لا يضع أيّ آليّة لتقييم هذه الأضرار، ولا يحدّد الجهة المسؤولة عن التقييم أو الفترة المرجعية لهذا التقييم ولا يضع شروطاً محدّدة للانتفاع بهذا الإجراء. وعليه، إنّه يفتح الباب أمام كلّ أشكال المحاباة والفساد والتلاعب بالمال العامّ. لكن الأخطر، أنّ هذا الإجراء يأتي في ظلّ وجود آليّة أخرى لدعم الاستثمار الخاصّ المتمثّلة في “قانون الاستثمار”. وللتذكير، تُقدَّر المنح المسندة تحت غطاء تشجيع الاستثمار بـ2850 مليون دينار سنوياً، وإذا احتسبنا فقط الفترة بين سنوات 2011-2019 يصبح المبلغ الجملي 25650 مليون دينار أي تقريباً 42% من مجمل الديون التي اقترضتها الدولة في الفترة نفسها. هذا بدون اعتبار الإعفاءات الجبائية وتكفّل الدولة بالأعباء الاجتماعية وتهيئة المناطق الصناعية وغيرها من الامتيازات والخدمات. هذا مع العلم أنّ 10% من الشركات (المجموعات الكبرى والشركات الأجنبية) استحوذت على 90% من المنح. أمّا المؤسّسات الصغرى التي تساهم بنصيب أكبر في التشغيل ويذهب إنتاجها لتلبية حاجيّات التونسيين فلم يبقَ لها سوى الفتات. عموماً، تجاوزت نسبة التحفيز[1] 45% أي أنّ نصف ما يُحتسَب استثماراً خاصّاً تقريباً هو في واقع الأمر تمويل من الدولة. رغم كلّ هذه الحوافز، لم ترتفع نسبة الاستثمار ولم يساهم القطاع الخاصّ بشكل جدّي في استحداث مَواطن شغل. يعود هذا إلى الطبيعة الطفيلية للكومبرادور الرثّ الذي يجني أرباحه أساساً من المنح والامتيازات والإعفاءات الجبائية. لن يتغيّر الأمر مع إحداث هذا الصندوق الجديد: نفس اللوبيّات والعائلات النافذة ستستحوذ على الجزء الأكبر وسيتحوّل هذا الصندوق إلى امتياز جديد يُضاف إلى الامتيازات المضمّنة في قانون الاستثمار.

ويتمثّل الإجراء الرابع في تمكين المؤسّسات من إعادة تقييم العقارات المبنية وغير المبنية حسب قيمتها الحقيقية في موازناتها. يبدو هذا الإجراء في ظاهره “تقنياً” ولا تأثير له على ميزانيّة الدولة لكنّه في الحقيقة قد يكون من أخطر الإجراءات المُتَّخذة وأكثرها تشجيعاً على التهرّب الضريبي (الكادر المرفق).

عليه، يُعَدّ هذا الإجراء إعفاءً مقنّعاً لهذه المؤسّسات من أداء الواجب الضريبي. في الحقيقة، الإجراء موجّه تحديداً للبنوك وشركات التأمين والشركات الصناعية الكبرى والفضاءات التجارية التي تحتكم على عقارات تُقدَّر بمئات إن لم تكن آلاف المليارات. وللقارئ أن يتخيّل حجم الأرباح التي ستراكمها هذه اللوبيّات وفي المقابل حجم الخسائر التي ستتكبّدها ميزانيّة الدولة. من ناحية أخرى، لا يمكن تبرير هذا الإجراء بأيّ شكل من الأشكال، فلا القيمة الأصلية للعقارات ولا قيمتها الراهنة لها علاقة بأزمة كورونا. لذلك ليس هذا الإجراء في جوهره إلّا توظيفاً للأزمة في اتّجاه تمكين اللوبيّات والعائلات النافذة من مراكمة الأرباح على حساب ميزانيّة الدولة، والفئات والجهات المُفقَّرة والمهمّشة التي ستتحمّل الكلفة في نهاية الأمر.

ختاماً، تمحور الإجراء الأخير في السماح للشركات المصدّرة كلّياً بالترفيع في نسبة البيع على السوق الداخلية من 30% إلى 50%. أوّلاً، تجدر الإشارة إلى أنّ الصعوبات التي تعرفها هذه الشركات لا ترتبط بأزمة كورونا بل باشتداد المنافسة وتراجع الطلب في الأسواق العالمية نتيجة للأزمة التي تشهدها المنظومة الرأسمالية منذ سنوات. فهو ليس إلّا توظيفاً لأزمة كورونا لتمكين هذه الشركات من تصريف فوائضها ما قد يؤثّر سلباً على المؤسّسات الُمنتِجة للسوق المحلية (الصغرى والمتوسطة) مع العلم أنّ الشركات المصدّرة كلّياً معفاة من الأداء على الربح وهو ما يجعل قدرتها التنافسية أكبر. من ناحية أخرى تنقسم الشركات المصدّرة كلّياً إلى نوعين: المقيمة وغير المقيمة. هذه الأخيرة ليست مُلزَمة إدخال العملة الصعبة الناتجة عن صادراتها، وتتمتّع، بمقتضى قانون الاستثمار، بحرّيّة تحويل أرباحها إلى الخارج بما في ذلك المُحقَّقة في السوق الداخلية. لذلك فإنّ الترفيع في نسبة البيع على السوق الداخلية بالنسبة لهذه الشركات، بالإضافة إلى انعكاساته السلبية على المؤسّسات المحلية، يشكّل استنزافاً للعملة في ظرف استثنائي تحتاج فيه الدولة إلى تأمين توريد الموادّ الأساسية، الغذائية والطبّية تحديداً.

التمويل “السهل” للإجراءات الحكومية

ينكشف جوهر الإجراءات الحكومية وانحيازها للوبيّات المتنفّذة أكثر إذا ما تطرّقنا لمسألة التمويل: كيف ستُموَّل الاعتمادات المرصودة (2500 مليون دينار)، وهي اعتمادات استثنائية أي غير مبرمجة في ميزانيّة الدولة؟

كان يُفترض إحداث ضريبة استثنائية على المؤسّسات الكبرى وبخاصّة البنوك وشركات التأمين والمساحات التجارية الكبرى. تحقّق هذه المؤسّسات أرباحاً هائلة رغم الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد منذ سنوات، وذلك نظراً إلى الامتيازات التي تمتّعت بها والسياسات والقوانين الاقتصادية التي كانت في أغلبها موجّهة لحماية مصالحها. لكن، اختارت الحكومة نهج “التسوّل” والتعويل على “التبرّعات” وتحوّلت العمليّة إلى مشهد فلكلوري يسعى فيه البعض إلى تلميع صورته عبر التبرّع بمبلغ كان قد نهب أضعاف أضعافه على حساب ميزانيّة الدولة. مهما كان الأمر، الدولة ليست جمعيّة خيرية ولا يمكن أن تبني برامجها على التبرّعات بل على موارد واضحة وثابتة. ومهما كان حجم هذه التبرّعات، فلن تفي بالحاجة وستطرح ضرورة مسألة تمويل جملة الإجراءات المتّخذة. لكن أمام انحياز الحكومة الواضح للوبيّات المال والتجارة تنحصر الحلول بتجميد الأجور أو الاقتطاع منها، وبخاصّة أنّ البيروقراطية النقابية مهّدت لهذا الحلّ؛ التفويت في بعض المؤسّسات العمومية، الترفيع في الأداءات غير المباشِرة وما يعنيه ذلك من تدهور للقدرة الشرائية لعموم التونسيين أو المزيد من التداين الذي بلغ بطبيعته نِسَباً مخيفة. عموماً كان جواب رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ واضحاً، حيث اختتم كلمته بالقول إنّنا بعد مرور الأزمة سنكون أقوى للقيام بكلّ الإصلاحات الكبرى. ليست هذه الإصلاحات سوى الإملاءات التي تعهّد بتنفيذها لدى المؤسّسات المالية العالمية.

يبدو جليّاً أنّه مقابل الفتات الذي رُصد للأجراء والفئات الهشّة ولحماية حياة التونسيين عموماً، كانت الحكومة سخيّة إلى أبعد الحدود مع المؤسّسات الكبرى واللوبيّات المتنفّذة. بالتالي، ليست شعارات “الوحدة الوطنية” و”التضامن الاجتماعي” التي ترفعها الحكومة إلّا شعارات يتخفّى وراءها انحيازها التامّ لهذه اللوبيّات على حساب فئات الشعب المهمّشة والمفقَّرة. من ناحية أخرى، في مواجهة وباء كورونا يُفترض أن تكون حماية أرواح التونسيين الهدف الرئيسي الذي يجب أن تُرصد له كلّ الاعتمادات. صحيح أنّ هذه الأزمة خلّفت آثاراً اقتصادية مفزعة وألحقت الضرر ببعض المؤسّسات، لكن هذه مسألة كان يمكن إرجاؤها إلى حين الخروج من الأزمة والتصدّي للوباء. لكن الحكومة ارتأت غير ذلك ورصدت الجزء الأكبر من الاعتمادات “لحماية المؤسّسات” ومنحت اللوبيّات جملة من الامتيازات لا يمكن تبريرها بأزمة وباء كورونا. الأمر الذي يعني أنّ الحكومة السابقة أو التي تلتها لم تقم في نهاية الأمر سوى بتوظيف الأزمة لإرضاء جشع الكومبرادور الرثّ. أما حماية أرواح التونسيين فهي مسألة متروكة للقدر.

 

***

كيف يؤدّي السماح بإعادة تقييم العقارات المبنيّة وغير المبنيّة إلى الإعفاء الضريبي؟

لفهم ذلك، نفترض على سبيل المثال أنّ شركة ما انطلقت في نشاطها سنة 2010. تمتلك هذه الشركة عقاراً قيمته 100 ألف دينار في سنة 2010. في موازناتها المالية، تسجّل الشركة “الاستهلاك السنوي” في خانة الأعباء. لنفترض أيضاً أنّ استهلاك هذا العقار يمتدّ 10 سنوات أي أنّ الشركة تسجّل 10 آلاف دينار سنوياً عبئاً ناجماً عن هذا العقار. في سنة 2020 (أي بعد عشر سنوات) تنتهي المدّة الجملية لاستهلاك العقار ما يعني عدم تسجيل الشركة في موازناتها أيّ عبء ناجم عن استغلال العقار أي أنّ ربحها السنوي سيزيد 10 آلاف دينار (على اعتبار أنّ عناصر الموازنة الأخرى لا تتغيّر). وإذا اعتبرنا أنّ الشركة خاضعة للأداء على أرباح الشركات بنسبة 35% فهذا يعني أنّها ستدفع أداء إضافياً يبلغ 3500 دينار. وإذا قرّرت الشركة بيع العقار المذكور فإنّها تحقّق ربحاً استثنائياً يعادل ثمن البيع تخصم منه القيمة المحاسبية الصافية (تصبح صفراً بعد انقضاء العشر سنوات). إذا كان ثمن البيع مثلاً 200 ألف دينار فإنّ الربح الاستثنائي = 200 ألف دينار -0 = 200 ألف دينار ما يعني دفع أداء على الربح بنفس النسبة العامّة (35%) أي 70 ألف دينار.

إذا أخذنا الآن بعين الاعتبار الإجراء المتمثّل في تمكين الشركة من إعادة تقييم العقار حسب قيمته الحقيقية وإذا افترضنا أنّ هذه القيمة تعادل 200 ألف دينار سنة 2020 ستصبح قيمة العقار الممكن تسجيلها في الموازنة بهذا القدر، وهو ما سيمكّن الشركة من التمديد في مدّة الاستهلاك وتسجيل أعباء سنوية بـ 10 آلاف دينار لمدّة عشر سنوات إضافية. في هذه الحالة ستتخلّص الشركة من دفع أداء يعادل 3500 دينار عن كلّ سنة. وإذا قرّرت الشركة التفويت في العقار فإنّ الربح الاستثنائي = ثمن البيع -القيمة المحاسبية الصافية = 100 ألف دينار. في هذه الحالة، ستدفع الشركة أداء يقدّر بـ 35 ألف دينار (35% من الربح الاستثنائي 100 ألف دينار) عوضاً عن 70 ألف دينار في غياب هذا الإجراء. صحيح أنّ المذكّرة التفصيلية لهذا الإجراء الصادرة عن وزارة المالية اشترطت عدم التفويت، لكنّها لم تحدّد مدّة هذا الشرط.

 

لقراءة المقالة مترجمة إلى اللغة الانكليزية

 

  1. مثّلت حوافز الاستثمار 45% من قيمة الاستثمارات الجملية في القطاع الخاصّ في تونس البالغة 1506 مليون دينار حتّى موفى سبتمبر 2020، بحسب معطيات قانون الماليّة لسنة 2020، والإجراءات الحكومية خلال جائحة كورونا ومعطيات الهيئة التونسية للاستثمار.
انشر المقال

متوفر من خلال:

اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة ، مجلة تونس ، سياسات عامة ، مؤسسات عامة ، جائحة كورونا ، فئات مهمشة ، مجلة لبنان ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني