حوار مع ماهر حنين، الباحث في مجال الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع: “الحراكات الاجتماعية جعلت من الدستور أفقها، ومن فصوله وسيلة نضال”


2021-03-05    |   

حوار مع ماهر حنين، الباحث في مجال الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع: “الحراكات الاجتماعية جعلت من الدستور أفقها، ومن فصوله وسيلة نضال”

تميّزت حراكات سنة 2020، سواء التي نظّمتها هياكل تقليدية مثل النقابات والتنسيقيّات والجمعيّات، أو العفوية التي اتّخذت من وسائل التواصل الاجتماعي شارعاً لها، بقدرتها على التأثير على الأجندة التشريعية. فقد نجحت هذه الحراكات في إجبار البرلمان على التراجع عن عرض مشاريع قوانين عديدة مثيرة للجدل على التصويت. حتّى أنّ حراك المعطَّلين عن العمل استطاع، في مرحلة أولى، أن يقتلع من الكتل النيابية التقدّم بمقترح قانون ويفرض المصادقة عليه، وذلك، بغضّ النظر عن مدى دستوريّته وجدواه وقابليّته للتنفيذ. التقت المفكّرة القانونية الباحث في مجال الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع ماهر حنين، الذي يتناول أهمّ الحراكات الاجتماعية والثقافية في تونس في كتابه “مجتمع المقاومة: ما بعد الإسلاموية، ما بعد البورقيبية، ما بعد الماركسية” الصادر سنة 2019 عن دار “كلمات عابرة”. وذلك، سعياً منها إلى فهم أبعاد هذه العلاقة بين الحراكات الاجتماعية والافتراضية من جهة، والمؤسّسة البرلمانية والعمليّة التشريعية من جهة أخرى، ولاستطلاع الآفاق الممكنة لهذه الحراكات.

 

المفكّرة القانونية: مضت سنة من عمر البرلمان المنتخَب في خريف 2019. تميّزت هذه السنة، بالإضافة إلى الخطاب العنيف والانقسامات السياسية، بوجود عدد كبير من مشاريع قوانين كانت جاهزة لتصويت الجلسة العامّة لكنّها لم تمرّ بسبب الجدل الذي أثارته لدى الرأي العام، كتلك المتعلّقة بجوازات السفر الدبلوماسية للنوّاب، وزجر الاعتداءات على الأمنيين، وتنقيح المرسوم 116، وغيرها. فهل هذا نتيجة قوّة الشارع أم ضعف البرلمان؟

ماهر حنين: أرى أنّ المسألة تندرج في إطار عامّ يتعلّق بمأزق الديمقراطية التمثيلية بصفة عامّة، وهي مسألة عالمية. اليوم، لم يعد كافياً انتخاب ممثّلين في محطّات انتخابية دورية، حيث أصبحت التمثيليّات غير قادرة على الاستجابة لمطالب المجتمع. وتتلخّص هذه الأزمة في شعار “أنتم لا تمثّلوننا، نحن الـ99% وأنتم تخدمون مصالح الـ1%”، الذي برز في حراك “احتلّوا وول ستريت” (Occupy wall Street). أي أنّ صلاحيّة الديمقراطية التمثيلية كطريقة حكم أصبحت مهدّدة، والأسباب متعدّدة. فمن جهة، تقلّص دور الانتخابات شيئاً فشيئاً كمركز للعمليّة الديمقراطية، وصارت الحياة العامّة تؤدّي دوراً أكبر، وكذلك الإعلام، خصوصاً منذ بروز الإعلام المرئي ثمّ الافتراضي، بدون أن ننسى المجتمع المدني والشارع الاحتجاجي. ومن جهة أخرى، صار يُراد لبعض القضايا، خصوصاً الخيارات الاقتصادية الكبرى، أن تخرج من التداول الديمقراطي بوصفها مسائل تقنية علمية يحسمها الخبراء ولا تُناقَش ديمقراطياً. فيحلّ الخبراء محلّ التفاوض البرلماني أو المجتمعي، تحت ضغط الإيديولوجيا النيوليبرالية، ما يُضعف بدوره تأثير الانتخابات على السياسات الكبرى.

فالمطلوب اليوم تعزيزُ الديمقراطية التمثيلية لتصبح أكثر تشاركيّةً وأكثر تمثيلاً للناس. لذلك، من الطبيعي في تجربة ديمقراطية ناشئة كما في تونس، أن تكون المجالس المنتخَبة وِجهةً لضغط الشارع الذي يشهد، بدوره، حالة غليان وتحوّلات عميقة. كما أنّ الضغط على البرلمان لا يقتصر على الشارع أو الرأي العامّ، حيث تؤثّر لوبيّات القطاع الخاصّ كذلك على التشريعات. نتذكّر مثلاً ما حصل في نقاش قانون الماليّة قبل سنتين أو ثلاثة عندما مرّ مقترح أداء استثنائي على المساحات التجارية الكبرى والبنوك وشركات الاتّصالات وغيرها من أصناف الشركات التي تحقّق أرباحاً طائلة، ثمّ تمّ التراجع عنه تحت ضغط هذه اللوبيّات. فالجميع يضغط على التشريع، من منظمات المجتمع المدني إلى اللوبيّات القطاعية مروراً بالنخب. لكن عندما تضغط الحركات الاجتماعية، يُوصَف ذلك بالخروج عن الإطار الديمقراطي. وأبرز مثال هنا هو “مانيش مسامح” التي تمّ التصدّي لها بشعار “بالديمقراطية سيمرّ”. أي أنّ هناك مَن كان يعتقد أنّ الديمقراطية هي اتّفاق أحزاب سياسية في لحظة ما لمصلحة ما لتمرير ما تريد، أي تجميع كمّي للأصوات في صندوق الاقتراع، ثمّ تجميع كمّي للنوّاب، لتفعل ما تشاء، في حين أنّ الديمقراطية أعمق من ذلك بكثير. من هنا كان التصادم بين روح الديمقراطية التي تجسّدها مانيش مسامح، والفهم الإجرائي السطحي للديمقراطية، الذي يمكن أن يؤدّي إلى نفي الديمقراطية نفسها.

 

المفكّرة : تحدثّتم عن ضغط اللوبيّات. هنالك مثال آخر حصل في بداية سنة 2020، حين عُرض مشروع قانون حقوق المرضى والمسؤوليّة الطبّية على الجلسة العامّة، فتمّت إعادته إلى لجنة الصحّة بضغط من لوبيّات القطاع الخاصّ، ولا يزال في انتظار تمريره مرّة أخرى على الجلسة العامّة. هل البرلمان، بالانقسامات التي تشقّه، أضعف من أن يقاوم أيّ ضغط، سواء كان ضغط الشارع أو الرأي العامّ أو الحراكات، أو حتّى اللوبيّات؟

حنين : أعتقد أنّه ينبغي التمييز بين لحظة الانقسام حول تصوّر الدولة ومرجعيّاتها وعلاقتها بالدين، التي عشناها بين 2011 و2013 وخرجنا منها بكلفة باهظة – لكنّها أقلّ بكثير ممّا حصل في دول عربية أخرى – ومختلِف الانقسامات والحراكات التي تحصل منذ 2014. فالتحرّكات الحالية جميعها تنخرط ضمن إطار الدستور، والخلاف ليس على المعاني العامّة للدولة ولحقوق الإنسان، وإنّما على المصالح وعلى مربّعات الثورة والنفوذ والريع. يشقّ التناقض الاجتماعي هذا المجتمع بطريقة أفقية، فحلّ محلّ التناقض الثنائي الهووي. عندما تسعى الثورة إلى تغيير تراتبيّة المجتمع وليس طريقة الحكم فقط فإنّها تدخل مرحلة جديدة، وهي بالضرورة مرحلة صعبة. مثال مصالح أطبّاء القطاع الخاصّ صحيح، ولا شكّ أّننا سنجد التجنّد نفسه للدفاع عن النفوذ إذا حاولنا إصلاح نظام فتح الصيدليّات الخاصّة الذي يشكو من عدم مساواة صارخة في مصلحة الأثرياء وأبناء الصيدليين. وقد شاهدنا المعارضة نفسها كلّما حاولت الحكومة إصلاح جباية المهن الحرّة، من أطبّاء ومحامين وغيرهم. حتّى أنّنا نجد في ديمقراطيّات عريقة كالولايات المتحدة لوبيّات لتجّار التبغ وحتّى تجّار السلاح، تنجح في فرض تشريعات تحمي مصالحها، على حساب الحقّ في الصحّة وحتّى الحقّ في الحياة.

لكن رغم كلّ شيء، يبيّن هذا الأمر أنّ الانتقال الديمقراطي التونسي دخل مرحلة مهمّة جدًّا، تسييس النضالات الحقوقية والكفاحات الاجتماعية عبر تحويل الصراع الاجتماعي إلى الفضاء السياسي الأوّل، أي البرلمان.

 

المفكّرة: هنالك أيضاً مثال مقترَح تنقيح المرسوم 116، الذي أصرّت الأغلبيّة البرلمانية على تمريره، لكنّها اضطرّت في النهاية إلى التراجع بعد تحرّك قوي للهياكل النقابية التقليدية (نقابة الصحفيين وجامعة الإعلام) والشارع الافتراضي في الوقت نفسه. هل كان عدم تمريره انتصاراً لهذا التحرّك، أم أنّ تعهّد رئيس الجمهورية باستعمال صلاحيّة الردّ، خصوصاً في ظلّ استحالة الوصول إلى أغلبيّة ثلاثة أخماس، كان عمليّاً هو الحاسم؟

حنين: برأيي، إنّ الصراع حول تنقيح المرسوم 116 أفضل مثال يبيّن المنطقة الحرجة التي دخلنا إليها في التجربة الديمقراطية التونسية، إذ يُظهر تَعدُّد اللاعبين السياسيين واختلاف خلفيّاتهم السياسية، وإلى أيّ مدى المشهد السياسي متحرّك. فجزء من داعمي تنقيح المرسوم كانوا قد ساندوا رئيس الجمهوريّة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، ليتحوّلوا بعد الانتخابات إلى ألدّ أعدائه ويتحالفون مع خصمه نبيل القروي. كما يُظهر هذا المثال قوّة منظّمات المجتمع المدني، وتحديداً نقابة الصحفيين ونقابة الإعلام، وحماس الحركة المواطنية التي تفاعلت مع الهياكل النقابية. غير أنّ هذه المبادرة تُبيّن أيضاً وجود نزعات تسلّطية لدى من اقترحها ودافع عنها، لأنّ الأنظمة التسلّطية تقوم بالأساس على التحكّم في المشهد الإعلامي، ولا معنى لحرّيّة الرأي والتعبير إذا كان مصدر المعلومة مِلكاً لمجموعات معيّنة تجمع بين النفوذ السياسي والإمكانيّات المالية. كذلك، يطرح هذا المثال قضيّة التقارب بين المال والإعلام، فالمنوال الاقتصادي للمؤسّسات الإعلامية يقوم على تقديم بضاعة لمستهلك، وأيضاً بين الإعلام والسياسة، حيث أنّ معظم القنوات لها تموقع سياسي أو مصالح مع بعض الأحزاب.

برأيي، هنالك مَن ضاق بالمشهد الإعلامي المتعدّد، ولديه مصالح مالية مباشِرة في تمويل وسائل إعلامه بطرق ملتوية وغير خاضعة للرقابة، ومصالح سياسية لتوجيه الرأي العامّ كما يشاء. لكن، مرّةً أخرى، هذه الإشكالية تتجاوز تونس، إذ نلاحظ أنّ الإعلام السمعي البصري، حتّى في الديمقراطيات العريقة كأمريكا وفرنسا، تملكه رؤوس الأموال الكبرى التي تستعمله لتوجيه الرأي العامّ في اتّجاهات تخدم مصالحها.

 

المفكّرة: كان الاحتجاج عبر وسائل التواصل الاجتماعي ناجعاً بحدّ ذاته في منع تمرير مشروع قانون جوازات السفر الدبلوماسية للنوّاب خلال الجلسة العامّة، وسحب مقترح قانون تجريم القذف الإلكتروني. لكنّ وسائل التواصل الاجتماعي نفسها تشجّع الكتل الأكثر عنفاً في المجلس على استفزاز بعضها البعض. فهل نحن إزاء ظاهرة صحّية تعني وجود رأي عامّ مهتمّ بالشأن السياسي، أم أنّنا نجني ثمار خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تشجّع الخطاب العنيف والقوي والمُنذِر بالخطر وتغذّي الانقسام؟

حنين: منصّات التواصل الاجتماعي، خصوصاً فيسبوك، في تونس هي نفسها حلبة صراع. وهو صراع غير متكافئ، فمَن يملك المعدّات التقنية واليد العاملة والنقود للترويج لمنشوراته يسبق غيره. وتتميّز وسائل التواصل الاجتماعي بالتأثير الحيني، فعندما تُتَداوَل فكرة أو صورة تنتشر بصورة حينية ما يُحدث ارتباكاً لدى ضحاياها، من السياسيين تحديداً، ولا يتيح لهم فرصة بناء استراتيجيات ردّ الفعل. لذلك مثلاً، اضطرّ النائب مبروك كرشيد إلى سحب مقترح قانون تجريم القذف الإلكتروني الذي تقدّم به بعد الجدل الذي أُثيرَ حوله.

 

المفكّرة: هل يمكن لهذه التحرّكات الافتراضية أن تبني شيئاً ما؟ أم أنّ دورها يقف عند المعارضة والتصدّي للمخاطر؟

حنين: أوّلاً، لا شكّ أنّ الجانب العفوي والتلقائي بالذات في هذه الحراكات سيبقى قائماً، أي أنّ بإمكان كلّ مواطن الانخراط في أيّ معركة افتراضية، وِفق منظوره وشروطه، ودون أن يعني ذلك التزاماً بالمواصلة. كأن ينخرط، مثلاً، فرد في مدينة الشابّة في تحرّك افتراضي نصرة لجمعيّته الرياضية، بدون أن يعني ذلك التزاماً أكبر. فميزة الفضاء الافتراضي تكمن في أنّه يجعل الالتزام مفتوحاً وحرّاً للجميع.

لكن في الوقت نفسه، هنالك إمكانيّة وفرصة لتحقيق تقارب بين الحراك الافتراضي ومنظّمات المجتمع المدني والإعلام البديل، لتشكيل إعلام بديل ينخرط في معركة التغيير، ممّا قد يساهم في منافسة الإمكانيّات الكبرى لوسائل الإعلام التلفزية وتغيير موازين القوى. يكفي أن نرى أمثلة بعض الإذاعات الجمعيّاتية، كإذاعة المعهد العربي لحقوق الإنسان أو إذاعة منظّمة أنا يقظ، وحتّى بعض المحاولات من بعض الجمعيّات والحراكات لاستعمال التقنيّات الحديثة للصورة والفيديو. يدلّ هذا كلّه على إمكانيّة استعمال الفضاء الافتراضي بطريقة أكبر ولأهداف حقوقية.

 

المفكّرة: استطاع حراك أصحاب الشهائد المعطَّلين عن العمل فرض مقترح قانون للانتداب الاستثنائي لمَن طالتْ بطالتهم ثمّ المصادقة عليه. تناولتُم هذا الحراك بالدرس في كتابكم “مجتمع المقاومة”، وخلصتم إلى أنّه يحمل طاقة مقاومة كبيرة وأنّه قوّة تغيير ممكنة، لكن في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية. في المقابل ثمّة آراء ترى أنّ تحقيق مطلب الانتداب المباشِر بفعل هذا الحراك ضربٌ لمبدأ المساواة أمام الوظيفة العمومية، ولقيمة وجودة المرفق العامّ.

حنين: أنا أعتبر هذا القانون حلقة في سلسلة قوانين بادر إليها المجتمع المدني ومرّت بضجيج أقلّ، كقانون القضاء على جميع أشكال العنف ضدّ المرأة، وقانون مكافحة التمييز العنصري، وحتّى قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. نحن هنا أمام حراكات اجتماعية أو مدنيّة جعلت من الدستور أفقها، ومن فصوله وسيلة نضال، ونجحت تدريجياً في الانتقال من الاحتجاج إلى تسييس المطلب. أي أنّ الحرّيّة لم تعد فقط “سلبية”، بمعنى غياب القيود على ممارستها، وإنّما حرّيّة إيجابية تتمثّل في امتلاك التأثير على السياسات العامّة في صراع اجتماعي من أجل التغيير.

يبرز أيضاً في هذا المثال التعارض الذي يشقّ المجتمع وطبقاته ونخبه كلّما تعلّق الأمر بالحراكات الاجتماعية، بين مَن اعتبر هذا القانون، كما اتّفاق الكامور أو ترسيم عمّال الحضائر، انتصاراً للحركة الاجتماعية وتقدّماً في العمليّة الديمقراطية بدخول حراكات اجتماعية إلى الفضاء العمومي الذي كانت مقصيّة عنه، ومَن يعتبرها إضعافاً للدولة وهتكاً للميزانيّة وتشجيعاً على الكسل والبخل والتواكل. نحن إزاء رؤيتين مختلفتين لدور الدولة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والصراع الاجتماعي والتفاوض السياسي.

تُبيّن اليوم بعض المؤشّرات بالفعل أنّ الحراك الاجتماعي في تونس يتّجه نحو الاضطلاع بدور سياسي، وهي الفرضيّة التي كنت وضعتها منذ سنة في “مجتمع المقاومة”. طبعاً، هذا الأمر لا يُرضي الجميع، فهنالك من يعتبر أنّ حقوق الإنسان جيّدة عندما تُعلَن في النصوص، لكنّها تصبح مقلقة عندما تحملها فئات اجتماعية وتنتزع بها مكاسب وتغيّر القوانين. لكنّني أعتبره تطوّراً إيجابياً يتمثّل بأنّ “مَن لا صوتَ لهم” صاروا يمتلكون بدورهم القدرة على التأثير، وليس النخب والخبراء وسكّان المدن الكبرى وحسب.

 

المفكّرة: هل تعتبرون أنّ نجاح حراك المعطَّلين عن العمل في تقديم مبادرة تشريعية، ثمّ فرض مناقشتها والمصادقة عليها، تجربة قابلة للاستننساخ في مشاريع قوانين أخرى ذات طابع حقوقي؟ ذكرتم أمثلة قانون القضاء على جميع أشكال العنف ضدّ المرأة ومكافحة التمييز العنصري والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، لكنّها، بدون الانتقاص من قيمتها أو من الدور المحوري للمجتمع المدني في صياغتها، لم تكن قوانين تُقلِق السلطة بل حظيَتْ بتشجيع دولي وتساهم في الترويج للنموذج التونسي.

طبعاً، إنّ إمكانيّات الضغط والتعبئة لتغيير القوانين في اتّجاه أكثر عدلاً وأكثر إدماجاً هي أكبر اليوم، سواء في مناطق الصراع الاجتماعي والطبقي، كالميزانيّة واقتصاد الريع والمديونية، أو في مطالب الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة، كالمرأة الفلّاحة أو المرأة العاملة في قطاع النسيج أو حتّى في مطالب أكثر نخبوية. فالمعارك هي في الآن ذاته سياسية وتشريعية واجتماعية، والبرلمان إحدى ساحاتها الأساسية، لكنّه ليس فضاءها الوحيد.

تحتاج هذه المعارك لخوضها قدرة على الابتكار والمبادرة، وقدرة على التعبئة، وقدرة على التفاوض، في عمليّة جدلية هدفها تحويل الاحتجاج من تعبير عن الغضب والسخط وعدم الرضا، إلى احتجاج يسعى إلى تغيير سياسي واقتصادي لكيفيّة إنتاج الثروة وتوزيعها بين الناس وعلاقات الهيمنة.

إنّ ما حصل مؤخّراً في تشيلي مثال بارز على آفاق الحراكات الاجتماعية، حيث بدأ الحراك باحتجاج الطلبة على الترفيع في كلفة التنقّل، وانتهى بإسقاط دستور بينوشي، المطلب الذي عجزت عمليّة الانتقال الديمقراطي في تشيلي عن تحقيقه. كان هذا النجاح نتيجة قدرة المجتمع والنخب التشيلية وحتّى الكنائس في تحويل الحراك إلى معركة سياسية. فالسؤال الاستراتيجي في عمليّة التغيير الديمقراطي في العالم هو كيف يمكن للحراكات الاجتماعية القادرة على الحشد وتجميع عشرات الآلاف من المواطنين في معركة ضيّقة معيّنة، أن تتحوّل إلى معارك سياسية شاملة؟ في تونس، يراد للحراكات الاجتماعية أن تغادر المجال السياسي، وهي تصرّ على تأدية دورها وافتكاك تشريعات. هي معركة صعبة وفيها كسر عظام، لأنّ العشرة بالمائة الأثرى ليسوا مستعدّين للتنازل عن جزء من امتيازاتهم لفائدة الـ40 بالمائة الأفقر.

 

المفكّرة: يميّز البعض بين لحظتين ثوريتين، لحظة 17 ديسمبر، بما ترمز إليه من حراك اجتماعي بالأساس، ولحظة 14 جانفي التي كان مطلبها الأساسي سياسياً حقوقياً. عشر سنوات بعد الثورة، هل تقدّمنا في اتّجاه توحيد الحراكين الحقوقي والاجتماعي بهدف بناء مشروع تغييري، يستفيد من التراكمات النضالية لكلّ منهما، وكذلك من ضعف الساحة السياسية، ليصوّب المسار ويستعيد أهداف الثورة، لا كشعار سياسي في يد الأطراف الأكثر رجعيّة، وإنّما كمرجع مشترَك وتجسيد تونسي لمبادئ الحرّيّة والمساواة والعدالة الكونية؟

حنين: أريد أوّلاً أن أؤكّد أنّ الثورة التونسية ليست، كما يقال، ثورة بلا تاريخ أو نشأت صدفة. فقد راكم المجتمع من أجلها على مدى عقود، من الحركة الوطنية إلى الحركات النقابية والطلابية والحقوقية والنسوية وغيرها. وهي ثمرة انتقال الصراع الاجتماعي من صراع السبعينيات بين “الخدامة” من جهة، والحكومة ورأس المال من جهة أخرى، إلى صراع بين الجهات الداخلية، التي تكثّفت فيها كلّ مظاهر الفقر والإقصاء الرمزي والاجتماعي، ومنظومة الحكم المركزي. كان البُعد الجغرافي هذا حاضراً بقوّة في الثورة، من دون أن ننسى دور النقابيين والحركات الفئوية، من المعطَّلين عن العمل وصولاً إلى المحامين وغيرهم، وكذلك النخب السياسية. عندما تكثّفت شعارات الانتفاضة في مطالب الحرّيّة والتشغيل ومكافحة الفساد، أصبحت ثورة ذات مضمون اجتماعي، ومضمون سياسي ومضمون أخلاقي.

لكن للأسف، ونحن نحتفل بالذكرى العاشرة للثورة، لا بدّ أن نعترف بأنّنا لم نتقدّم كثيراً في الربط بين هذه المضامين الثلاثة للثورة. يوجد بعض عمليّات التشبيك والتنسيق، كما حصل مثلاً عبر دعم المجتمع الحقوقي لاعتصام الهوايدية حول الحقّ في الماء. لكن بصفة عامّة، لا يزال كلّ حراك معزولاً عن البقيّة، وحتّى الالتقاء النسبي بين جزء من النخب والحراك الاجتماعي، إبّان الاستقطاب الحادّ في سنوات 2012 و2013، انفرط سريعاً. توجد صعوبة كبيرة لصياغة أرضيّة سياسية مشترَكة تقوم على الحقوق والحرّيّات والعدالة الاجتماعية ورفض التمييز مهما كان نوعه، وهي صعوبة ميدانية واقعية وحتّى نظرية.

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، البرلمان ، تونس ، دستور وانتخابات ، حراكات اجتماعية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني