حوار مع الجامعي والباحث في العلوم السياسية محمد الصحبي الخلفاوي: انتخابات 2019 كانت بمثابة “ثورة الأطراف على المركز”


2020-03-11    |   

حوار مع الجامعي والباحث في العلوم السياسية محمد الصحبي الخلفاوي: انتخابات 2019 كانت بمثابة “ثورة الأطراف على المركز”

رغم أن عمليات سبر الآراء كانت تنذر بنتائجها قبل أشهر، شكلت الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 زلزالا سياسيا أفرز مشهدا جديدا ومفتوحا على احتمالات عديدة. في هذا الإطار، التقت المفكرة القانونية، في آخر شهر جانفي 2020، بمدرس علم الاجتماع السياسي في جامعة جندوبة، والمختص في العلوم السياسية وعضو المرصد التونسي للانتقال الديمقراطي، محمد الصحبي الخلفاوي، لكي يشاركنا قراءته للمشهد الجديد الذي أفرزته الانتخابات والمسار المتعثر لتشكيل الحكومة.

 

المفكرة: كيف تصف المشهد البرلماني الجديد؟

الخلفاوي: هو أولا برلمان مفتت، متشظٍّ، بأحزاب ضعيفة. لا توجد كتلة كبيرة قادرة على بناء أغلبية واسعة وقادرة على الحكم، حيث لا يتجاوز حجم الكتلة الأكبر (حركة النهضة) 54 نائبا (مقارنة ب 89 مقعدا للنهضة في 2011 و86 مقعدا لنداء تونس في 2014).

يتميز المشهد أيضا بوجود كتلتين مهمتين تقدمان نفسيهما، كل منهما على طريقته، على أساس معاداة المنظومة، وهما كتلتي الدستوري الحر (17 نائبا) وائتلاف الكرامة (21 نائبا)، إضافة إلى ببروز الكتلة الديمقراطية، التي تجمع التيار الديمقراطي وحركة الشعب وبعض المستقلين لتحتل المرتبة الثانية ب 41 نائبا، والتي قد تعطي بعض الاستقرار للمشهد.

هو أيضا مشهد يغيب عنه اليسار الراديكالي، مثلما تغيب عنه أطروحات اقتصادية واجتماعية واضحة. لكن هذا البرلمان هو الأكثر تمثيلية، فتركيبته هي أكثر تركيبة تشبه الشعب التونسي، مقارنة مع مشهدي انتخابات 2011 و2014، باستثناء الغياب شبه الكلي لأقصى اليسار.

المفكرة: هل تعتبرون أن هذا البرلمان أكثر يمينية من سابقيْه؟

الخلفاوي: بالفعل، المشهد برمته انتقل خطوة إلى اليمين، إذ غاب أقصى اليسار، وأصبح الوسط أو وسط اليسار يمثل اليسار (الكتلة الديمقراطية). ومن كان يصنّف على أنه «أقصى اليمين»، أي حركة النهضة، تجد نفسها في وسط اليمين بوجود قوتين سياسيتين على يمينها، وهما ائتلاف الكرامة وحزب الرحمة. الجديد أيضا هو أن أكثر كتلة معادية للإسلام السياسي في البرلمان (الدستوري الحر) هي مجتمعيا محافظة. وبالتالي هذا البرلمان هو الأكثر يمينية، على الأقل على المستوى المجتمعي. أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فإن غياب البرامج لدى مختلف الأحزاب يجعل السياسة الاقتصادية التي تتحدد خاصة عبر قانون المالية تعدها الإدارة في وزارة المالية، وليس الأحزاب.

المفكرة: من هم، حسب رأيكم، أبرز المنتصرين في هذا المشهد؟

الخلفاوي: المنتصر الأول في التشريعية هو حركة النهضة. رغم خسارتها لنصف الأصوات التي تحصلت عليها في الانتخابات التشريعية الفارطة، إلا أنها تقريبا الناجية الوحيدة من مشهد 2014 الذي أفرزته صناديق الاقتراع. حركة النهضة بقيت في قلب العملية السياسية بقدرة كبيرة على المناورة والتفاوض. إذ أنها، بتمثيلية برلمانية لا تتجاوز الربع، أخذت رئاسة المجلس لرئيسها راشد الغنوشي، مع شبه استحالة لتكوين حكومة بدون موافقتها. الأمر الوحيد الّذي تغيّر بين الفترة الأولى المتعلقة بتشكيل حكومة الحبيب الجملي وتكوين الحكومة الحاليّة هو فقدانها للمبادرة السياسية اذ أنها تحولت من الحزب القائد للائتلاف الحكومي الى حزب يشارك، مع أطراف أخرى، في هذه الحكومة.

هناك قوى سياسية قد تعد ضمن المنتصرين. كانت تمثيليتها منعدمة (الدستوري الحر وائتلاف الكرامة) أو ضعيفة (التيار الديمقراطي وحركة الشعب)، وأصبح لديها كتل مهمة قادرة على التأثير. دون أن ننسى قلب تونس الذي تأسس أشهرا قبل الانتخابات، وفرض نفسه كثاني قوة سياسية في البلاد.

غير أن البرلمان محكوم حسب رأيي بموازين ضعف وليس بموازين قوى. وبالتالي، أهم الرابحين في المشهد ككل يبقى رئيس الجمهورية قيس سعيد، إذ لا يزال يحافظ على شعبية قوية جدا، في مقابل أحزاب سياسية ضعيفة وغير قادرة على فرض قياداتها كزعامات ذات شعبية كبيرة. المشهد البرلماني الحالي سيعطي صورة سيئة على العمل البرلماني والعمل الحكومي، خاصة مع ما شاب مسار مفاوضات تشكيل الحكومة. رغم أن ما يحدث ضروري ومعمول به في كل الديمقراطيات البرلمانية، إلا أنه يعطي صورة عن مساعٍ لتقسيم كعكة الحكم، مما قد يؤدي إلى تعزيز صورة رئيس الجمهورية. يبدو أن هناك مزاجا شعبيا لا يرى فائدة في البرلمان والمنظومة الحزبية وينتظر الكثير من رئيس الجمهورية.

المفكرة: ماهي قراءتكم لنتائج الانتخابات الرئاسية؟

الخلفاوي: الدور الثاني للانتخابات الرئاسية عرف اكتساحا غير مسبوق لقيس سعيد، بأكثر من 72% من الأصوات مع مشاركة كبيرة. أعتقد أن التصويت لقيس سعيد في الدور الثاني كان في جزء كبير تصويتا ضد نبيل القروي. كان بمثابة “استفتاء على الفساد”. لكن أيضا لا يجب أن نستهين بصورة أستاذ القانون النزيه، نظيف السيرة مقابل طبقة سياسية فاقدة لجزء كبير من مصداقيتها.

لكن لا يمكن فهم نتائج الانتخابات الرئاسية بالرجوع فقط إلى نتائج الدور الثاني. الدور الأول عرف تفتتا كبيرا. حتى قيس سعيد لم يحصل على أكثر من 600 ألف صوت، أي 18%من الأصوات، وبالكاد أكثر من نصف الأصوات التي حصل عليها المنصف المرزوقي عندما حل ثانيا في الدور الأول لرئاسيات 2014. هناك تطلعات مختلفة لدى الناخبين التونسيين، انعكست في خيارات متعددة ونتائج متقاربة في الدور الأول.

ما ميز انتخابات 2019 هو أن كل المرشحين والأحزاب تقريبا تخلّوا عن استراتيجية “الخيمة الكبيرة”التي تسعى لجذب كل الناخبين، لصالح استراتيجيات تركز على خطاب معين، كمكافحة الفساد أو القضاء على الفقر، وتتوجه لطبقة معينة من الناخبين.

المفكرة: هل ستتغير ممارسة النظام السياسي بعد هذه الانتخابات؟

الخلفاوي: النظام السياسي التونسي متميز بأنه متحرك (هندسة متغيرة). من سيشكل الأغلبية البرلمانية سيحكم، أيا كان موقعه. في 2014، كان رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي هو زعيم الأغلبية البرلمانية، فكان الحكم لديه، والنظام أقرب للنظام الرئاسي. لكن، في وسط العهدة البرلمانية، انقلب المشهد ليصبح زعيم الأغلبية هو رئيس الحكومة يوسف الشاهد، فأصبح النظام يغلب عليه الطابع البرلماني.

حاليا، رئيس الجمهورية غير ممثل في البرلمان، وبالتالي، نظريا، لن يؤثر بطريقة مباشرة على الحكومة. لكن الدستور يعطيه صلاحيات هامة للتأثير، باقتراح مشاريع قوانين، بترؤس المجالس الوزارية، وامكانية رد القوانين إلى البرلمان للتصويت عليها بأغلبية ثلاثة أخماس، وهو ما سيكون صعبا جدا على الأغلبية النيابية القادمة في ظل تشظي المشهد البرلماني.

التحالف الحكومي سيجمع على الأقل 3 كتل، وغالبا أكثر. لا يبدو أن رئيس الحكومة المكلف سيكون قادرا على تزعم الائتلاف الحكومي بالفعل. التحالف الحكومي الجديد يبقى رهين إرادة حركة النهضة في المشاركة أو عدمها في حكومة لا تضمّ حزب قلب تونس. حركة النهضة لا ترغب في تقاسم الحكم مع أحزاب تستطيع فرض توجهات هي تعتبرها طفوليّة وبعيدة عن واقع الممارسة واكراهاتها. حركة النهضة لا تريد أيضا ترك قلب تونس في المعارضة مما يخلق تقاربا بينه وبين العدو اللدود للحركة، الحزب الدستوري الحر وزعيمته عبير موسي. هي إذا أمام ثلاث فرضيات. حكومة تتحالف فيها أحزاب ما سميّ بالخط الثوري أو بالأحرى حكومة الأحزاب التي دعت للتصويت للرئيس قيس سعيّد في الدور الثاني من الرئاسيّات أو حكومة وحدة وطنيّة يشارك فيها الجميع تقريبا أي أنها لن تكون سوى حكومة رئيسها الياس الفخفاخ أو الخيار الأمر أي الذهاب لانتخابات تشريعيّة سابقة لأوانها.

إذن، سنكون أمام نظام سياسي بمنظومة برلمانية وحكومية هشة ومفتتة وضعيفة، وبرئيس قوي، ليس بالضرورة سياسيا أو دستوريا ولكنه قوي شعبيا، وهو ما أثبتته ليس فقط نتائج الانتخابات، وإنما كذلك استطلاعات الرأي الجديدة حول الثقة في الشخصيات السياسية. وبالتالي، ستكون ممارسة النظام السياسي مرتبطة بشكل كبير بخيارات وتكتيكات رئيس الجمهورية قيس سعيد.

في جميع الحالات، لا معنى حسب رأيي لتعديل الدستور لمراجعة النظام السياسي. حتى الأصوات التي كانت تنادي بذلك وبتبني نظام رئاسي خفتت الآن، عندما اتضح لها أن الانتخابات الرئاسية قد تأتي بشخص كقيس سعيّد لقصر قرطاج. قد يكمن جزء من الحل لتفتت المشهد البرلماني في مراجعة نظام الاقتراع. لكن ليس في اتجاه إيجاد “أغلبيات”من لون سياسي واحد. هل نريد برلمانا يمثل الشعب، أم برلمانا مستقرا؟ هذا السؤال الذي يتوجب على النخب السياسية طرحه. خيار نظام الاقتراع مرتبط بالإجابة على مثل هذه الأسئلة.

المفكرة: ماذا عن امكانية حل البرلمان؟ هل ترون أنها واردة؟

الخلفاوي: امكانية حل البرلمان قد تكون واردة، لكن ليس على المدى القريب. كل الأطراف السياسية غير مستعدة الآن للمراهنة على إعادة الانتخابات، وبالتالي سيتم إيجاد الأغلبية العددية اللازمة لنيل الحكومة الثقة. حتى التيار الديمقراطي الذي يحظى بأكبر منسوب ثقة حسب استطلاعات الرأي قد لا تكون من مصلحته إعادة الانتخابات، لأن قيس سعيد ينافسه على نفس الجسم الانتخابي.

تلعب حركة النهضة هذه الورقة لفرض شروطها التفاوضية داخل حكومة الياس الفخفاخ وهو بدوره يستعمل ذات الورقة لتكوين حكومة تنقذ مجلس نواب الشعب من فرضية اعادة الانتخابات. لا أعتقد أن الوضع الحالي للدولة التونسية وإدارتها وحكومتها يسمح بالذهاب لانتخابات جديدة ما يجعل الحكومة الجديدة غير قابلة للتشكل قبل شهر سبتمبر القادم.

لكن قد نذهب إلى انهيار حكومي بعد سنة أو سنة ونصف، وعندها قد تكون إعادة الانتخابات واردة. الأكيد أن حل البرلمان وإعادة الانتخابات التشريعية سيسمح لرئيس الجمهورية، إن أراد، بدعم قائمات قد يكون بإمكانها اكتساح المشهد البرلماني القادم بما لا يقل عن 90 مقعدا، على حساب تشكيلات عديدة موجودة في المشهد الحالي. العقدة، بالنسبة لمعظم الأحزاب، هي شعبية قيس سعيد.

المفكرة: هل كانت انتخابات 2019 ترسيخا للديمقراطية أم تهديدا لها؟

الخلفاوي: هل أن الديمقراطية التونسية مهددة؟ نعم، خاصة في غياب فاعلين ديمقراطيين بالمعنى الكامل للكلمة، وبقناعات ديمقراطية راسخة وواضحة. لكن الانتخابات في حد ذاتها لا يمكن أن تكون تهديدا للديمقراطية. يبقى أن ثمة دروسا يجب أن تستخلص منها. ومن بين الاستنتاجات هو خروجنا من مركزية الساحل والعاصمة. لدينا رئيس جمهورية أصيل محافظة نابل، منافسه في الدور الثاني من بنزرت، رئيس مجلس نواب الشعب من قابس، ورئيس الحكومة المكلف الأول من القيروان والثاني من صفاقس. أي أننا خرجنا من ثنائية الساحل والعاصمة كمعاقل تقليدية لإنتاج النخب.

ورغم أننا لا نملك بعد معطيات تحليل سوسيولوجية لتصويت التونسيين، إلا أنها تبدو لي في قراءة أولية ثورة الأطراف أو الهامش على المركز، أو ثورة النخب المهمشة على النخب القديمة المتواجدة في الحكم وحتى في المعارضة.

يبدو أن فعل التصويت أصبح أكثر وعيا. لا يعني هذا أن العاطفة غائبة تماما، ولا بالضرورة أن خيارات الناخبين صحيحة، لكن فكرة عقاب الأحزاب التي كانت في الحكم حضرت بقوة هذه المرة. خرجنا من منطق التصويت في 2011 و2014، ودخلنا في المنطق العادي للديمقراطية، وهو أن يعاقب الناخب من يعتبره فشل في الحكم.

  • نشر هذا المقال في العدد | 17 | فيفري 2020، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

  • لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:

Mohamed Sahbi Khalfaoui: The 2019 Elections Were a “Revolution of the Periphery Against the Center”

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني