حقوق المودعين: حرية اقتصادية أم عدالة اجتماعية؟


2020-04-27    |   

حقوق المودعين: حرية اقتصادية أم عدالة اجتماعية؟

في مقابلة تلفزيونية للمخرج المصري الراحل يوسف شاهين، يسأله وكيل كلية الحقوق في جامعة عين شمس محمد عمران عن رأيه في معضلة قانونية تواجه قطاع الإسكان في مصر. ما العمل، يسأل عمران، عندما يقوم مالك شقة قيد الإنشاء بإبرام أكثر من عقد إيجار لأكثر من شخص من دون علم الآخرين، فيكتشف هؤلاء ذلك بعد توقيع العقد وفي بعض الأحيان عند انتقالهم إلى الشقة نفسها؟ يرُدّ شاهين فيؤكد بداية على “سيادة القانون”، ولكن يضيف أنّه لو وجب عليه إصدار حكم في هكذا مأزق، فعليه أن يعرف ما هي ظروف كل من المستأجرين، أي من منهم أكثر احتياجاً: هل هم عائلة يفترشون الشارع ويبحثون عن مأوى أم شخص يبحث عن شقة ثانية للترفيه أم أنّ المستأجر صاحب عمل سيُدِرُّ مدخولاً للدولة عبر استئجاره؟ يعترف عمران أنّ شاهين اقترح حلاً قد لا يخطر ببال أهل القانون، لأنّه، أي شاهين، نظر إليها من بُعد اجتماعي لا قانوني. فالقانون، يشرح عمران، يمنح الحق لمن له أسبقية العقد. وعليه، ينصح عمران المشاهدين بالتأكّد من صحّة العقد فور توقيعه في الدوائر الرسمية.

ما يقوم به المالك من احتيال غير قانوني يشبه في أحد أبعاده ما تقوم به المصارف بشكل قانوني. فهي بشكل أساسي تمنح قروضاً تفوق ما تحتفظ به من ودائع. الفارق أنّها تراهن على عدم مطالبة المودعين بأموالهم دفعة واحدة، كأن يراهن المالك أن يزور المستأجرون الشقة في أوقات مختلفة. وفيما ينكشف أمر المالك فوراً عند التسليم، تربح المصارف الرهان في معظم الأوقات إلى أن تهتز الثقة لسبب ما ويتوافد المودعون لسحب أموالهم دفعة واحدة. حينها، ينكشف الأمر. ومع ذلك، قد لا يعي المودعون أنّ أموالهم، كونها – بخلاف الشقة – ملكية غير عينية، ليست محفوظة بشكل منفصل بل باتت جزءاً من قُجّة موحّدة، كنقطة الماء عند سقوطها في بركة، أي أنّ سحب أموال أحدهم يؤثّر بشكل مباشر على قدرة الآخرين على سحب أموالهم.

تكتسب هذه المعضلة أهميتها عند الوقوف على المقاربات المختلفة للحملات الشعبية والقرارات القضائية والمواقف النقابية الداعمة لحقوق المودعين في لبنان. إلى أيّ مدى تعتمد هذه المواقف على مبدأ العدالة الاجتماعية مقابل مبدأ الحرية الاقتصادية والحقوق الفردية؟ وهل تصبّ هذه المقاربات في المواجهة المفتوحة مع السلطة المالية والنظام الاقتصادي الحامي لها أم أنها لو بشكل غير مقصود أو مباشر، تتبنّى أيديولوجيته وتعزز من المنافسة السلبية بين المواطنين لاستحصال حصتهم من القُجّة؟

على الصعيد النقابي، شَكّل بيان نقيب المحامين ملحم خلف الصادر في 3/1/2020 علامة فارقة في شجبه للإجراءات المصرفيّة التعسّفية تجاه المودعين والتأكيد أنّ جمعية مصارف لبنان غير مخوّلة وضع قيود على حركة الأموال. لكن اللافت أنّ خلف أعلن الحرية الاقتصادية المتمثّلة بنظام لبنان الليبرالي الحر – بما فيها حرية التداول والتحاويل – كأساس لتبرير المطالبة بحقوق المودعين. بل ذهب أبعد من ذلك وأعلن أنّ اللبنانيين يعتبرون أنّ هذا النظام “يشكل ميزة تفاضلية لا يمكن التفريط بها” وهي “ثوابت” تتمسّك بها النقابة ولا تحيد عنها. هكذا باتت الأزمة، التي تسبّب بها هذا النظام الليبرالي الحر الذي سمح لكبار الأثرياء بسحب مليارات الدولارات نتيجة حرية التحاويل تلك، مناسبة للدفاع عن هذا النظام نفسه وتعزيز سطوته على اللبنانيين بدل اغتنام الفرصة لتقويضه والمطالبة بنظام أكثر عدلاً. واللافت أيضاّ أنّ مقدّمة الدستور اللبناني نفسها التي يشير إليها خلف كسند قانوني من أجل الدفاع عن مبادئ الاقتصاد الحر تتضمن بنداً – لا يذكره خلف – يؤكّد أنّ لبنان جمهورية تقوم “على العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمايز أو تفضيل” (وهو بند، بالمناسبة، سابق للبند الذي يكفل النظام الاقتصادي الحر والمبادرة الفردية).

أمّا على الصعيد القضائي، فقد تباينت المبررات بين قرار وآخر. تُحمِّل قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شوّاح المصارف مسؤولية الأزمة في قرارها الصادر في 3 كانون الثاني والذي يُلزِم بنك البحر المتوسط بتحويل مبلغ مالي إلى الخارج من أجل دفع أقساط وتأمين سكن أحد أبناء المودعين لدى المصرف. تلوم القاضية، ومن دون مواربة، المصارف لأنها اختارت أن تستثمر أموال المودعين بفوائد مرتفعة وجني “الأرباح الخيالية” من دون أن تستخدم هذه الأموال البتّة في المساهمة في علاج الأزمة. بكلام آخر، وكما تشير شوّاح، تنحصر الخيارات بحسب المصارف بين الربحيّة في غياب الأزمات وحجز أموال المودعين بحضورها. تسلّط ملاحظة شوّاح تلك الضوء على مبدأ جوهري قلما يتم التركيز عليه ألا وهو أنّ المبدأ الناظم لعمل المصارف خاصة والقوى الرأسمالية عامة هو مبدأ الربحية لا الحرية الاقتصادية. عندما تساعد الحرية الاقتصادية على جني الأرباح، تتغنّى بها المصارف وتحارب أيّ تدخل للدولة أو القانون. وعندما تؤذي الحرية الاقتصادية الأرباح، تستنجد المصارف بالدولة، أو حتى في حالة لبنان، تفرض قيوداً على السوق بنفسها. بالرغم من هذا التمييز المهم بين الربحية والحرية الاقتصادية، تعود شوّاح وتُعزِّز مبدأ الحرية الاقتصادية كأساس لحفظ حقوق المودعين. فتعتبر أنّ “أيّ قيد لحق الفرد بالملكية من شأنه أن يشكل مخالفة لقاعدة دستورية” وهي، أي القواعد الدستورية، الأسمى في الهرم التشريعي.

بخلاف بيان النقيب وقرار شوّاح، تقع العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية في صلب القرار الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أحمد مزهر. ففي آخر شهر تشرين الأول ألزم مزهر بنك بيبلوس تسليم المستدعية مبلغاً مالياً مودعاً من قبل إبنها لدى بيبلوس وذلك من أجل أن تتمكّن من دفع تكاليف علاجها. لم يكتفِ مزهر بالإشارة إلى المواثيق الدولية التي تكفل الحق في الصحة والحصول على الطبابة، بل اعتبر أنّ “أيّ فعل أو امتناع عن فعل يحرم إنساناً بشكل مباشر أو غير مباشر من الحصول على علاجه الطبي يُعتبر من قبيل الفعل غير المشروع… الذي يؤثّر على حق الإنسان في الحياة وهو الحق الذي لا يدانيه أيّ حق آخر بأهميته، ولا يمكن السماح بالمساس به”.

بعيداً عن القضاء والقانون، يلجأ المودعون إلى أساليب شتى لاسترجاع أموالهم، تتراوح بين استخدام الواسطة والنفوذ من جهة والإعتصام السلمي وفي بعض الحالات التهديد الجسدي من جهة أخرى. وإن كان الفارق شاسعاً بين من يستخدم نفوذه الطبقي أو السياسي لتهريب أمواله، ومن يعتمد على حملات شبابية شجاعة ومثيرة للتوعية لإجبار المصرف على دفع الأموال لأحدهم – غالباً من الأصدقاء والنشطاء – يبقى هناك قاسم مشترك، وهو أنّ هذه المقاربات جميعها تقوم بتفضيل حق فردي لشخص واحد تمكّن من قضم حصّة من القجّة. أي أنّ الخلاص فردي، ولو كانت الوسيلة جماعية ذات خطاب تقدّمي.

خلاصة

هذا الواقع الموضوعي الذي يضع المودعين في وجه بعضهم البعض مهما تعدّدت أساليبهم لسحب أموالهم هو نتيجة تشابك علاقات الدَّين التي يخلقها المصرف. وعليه، فإنّ أي حلّ جماعيّ عليه أن يأخذ بعين الاعتبار هذا التشابك وتداعياته وما إذا كانت الحرية الاقتصادية والفردية، أو العدالة الاجتماعية، هي الناظمة لهذا الحلّ. قد تتمكن مقاربة حقوق المودعين من منظور الحرية الاقتصادية والفردية من حفظ حقّ مودع هنا أو مودع هناك، لكنها في الوقت نفسه تشرعن حرية سحب الأموال إلى الخارج بالإضافة الى الأرباح الخيالية التي جَنَتها الطبقة الأوليغارشية قبل وبعد 17 تشرين. في ظل نظام ليبرالي حرّ، يصبح مفهوما سيادة القانون واستقلالية القضاء المجرّدان عن مفهوم العدالة الاجتماعية أداتَي تمييز لا مساواة، ذلك أنّ تطبيق القانون يعني بالمقام الأول حماية من يملك الثروة لا إعادة توزيعها.

أما مبدأ العدالة الاجتماعية، فهو يعيد ترتيب الأولويات القضائية والقانونية، فيرتكز الحلّ على توزيع الخسائر بحسب الوضع الاجتماعي ونسبة المسؤولية في التسبّب بالأزمة، ويصبح ضمان الودائع تحت سقف معيّن وفرض الضرائب فوق سقف معيّن مبرراً بل مطلوباً لحلّ الأزمة على المستوى الوطني لا الفردي. على أنّ الضمان الأوّل والأخير هو شبكة الأمان الصحّية والتعليمية والسكنية التي تجعل من المال المودَع نفسه فائض حاجة بدلاً من حبل النجاة الوحيد لتأمين العيش. لا تحتاج مقاربة العدالة الاجتماعية هذه إلى أيّ تعديل دستوري أو قانوني، بحيث أنّ ذكرها في مقدمة الدستور سابق على ذكر طبيعة النظام الاقتصادي الحر. حتى اليوم، هي غائبة – أو مغيّبة – تماماً في التعليلات القضائية وغالباً لصالح مبدأ الحرية الاقتصادية. فهل تنعكس الآية قريباً، بما أنّ ما بعد 17 تشرين ليس كما قبلها.

  • نشر هذا المقال في العدد | 64 | نيسان 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

قبح النظام في مرآة المصارف

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني