حصانة رجل الدين في لبنان كظاهرة طوطمية


2013-11-01    |   

حصانة رجل الدين في لبنان كظاهرة طوطمية

ليست قضية الأب منصور لبكي حالة فريدة يشهدها لبنان، بل هي ظاهرة منتشرة في غالبية بلدان العالم، وتصيب رجال الدين على اختلاف مذاهبهم. لكن فرادة هذه الظاهرة يجب أن نبحث عنها في العلاقة بين المجتمع اللبناني والتاريخ. فمسألة صلاحية المحاكم الوضعية لمحاكمة رجال الدين كانت في لب الصراع الذي نشأ في الغرب بين الكنيسة والدولة. وقد حسم هذا الصراع نهائيا لما فيه مصلحة الدين وخير المجتمع من خلال الفصل الكامل بين المحاكم الروحية ومحاكم الدولة والتأكيد على حصرية وشمولية اختصاص هذه الأخيرة.

غير أن "لبنان المجتمعي" يصر على القطيعة مع التاريخ ومنح المؤسسة الدينية امتيازات لا يقرها القانون بل هي تضعف الدولة وتقتطع من اختصاصها لمصلحة محاكم لا تصدر أحكامها باسم الشعب اللبناني كما تنص عليه المادة 20 من الدستور. والغريب أن الدولة في لبنان هي ضحية المجتمع الطائفي الذي ما فتئ يطعن بمبدأ المواطنة من جهة ويطالب بتقوية الدولة من جهة أخرى.

 فقضية الأب لبكي، بغض النظر عن حقيقة اقترافه للجرم المنسوب اليه، تظهر لنا مدى قدرة المنطق الطائفي من تحويل الجريمة الفردية إلى وصمة عار جماعية تصيب كل الذين ينتمون لدين المتهم. وهكذا تذوب فكرة المسؤولية الفردية لتحل محلها مسؤولية الجماعة، أي الطائفة التي لا يمكن لها بأي شكل من الأشكال أن تخضع للمحاكمة أمام مؤسسات الدولة  كونها تتمتع بحصانة المجتمع. وانتقال المسؤولية من الفرد إلى الجماعة هو من السمات التي تطبع مجتمع القبائل حيث يتم أخذ الثأر ليس من الانسان المذنب بل من عشيرته ككيان جماعي. وهكذا نفهم لماذا تتحول الجرائم العادية في لبنان إلى فتن طائفية تهدد العيش المشترك المزعوم. وغالبا ما تنتهي هذه الجرائم بتسوية تسمى في لبنان مصالحة ووحدة وطنية بينما هي في حقيقة الأمر نوع من "دفع الدية" الذي يسود بين القبائل.

ويمكن لنا، من أجل فهم محورية الموقع التي تتمتع به المؤسسة الدينية في العالم العربي من استعارة بعض المفاهيم من علم الانسان حتى لو أدخلنا عليها بعض التعديلات الضرورية. فرجل الدين هو للطائفة ما يشكله الطوطم للقبيلة. فكما أن الطوطم هو الرمز الذي يسمح لكل فرد أن يحدد هويته المتماهية كليا مع الجماعة كذلك يشكل رجل الدين، ليس بشخصه بل بموقعه، الرمز الذي يختصر الهوية الدينية.

الطوطم مقدس وهو يخلع طابعا من القداسة على كل شيء يحتك به. كذلك رجل الدين عندما يخرج إلى الحيز العام فهو يربط المقدس بتصرفاته فيتحول كل نقد يوجه له إلى نقد للمقدس. والذي يجب التنبه له هو عدم الوقوع في فخ التمييز بين الدين ورجاله لأن الاشكال لا يكمن مع رجل الدين هذا أو ذاك بل هو في الحقيقة مع المقدس أي الطوطم الذي يرمز اليه رجال وعلماء الدين. فالمقدس هو المتنازع عليه وهو النقطة التي يحاول البعض تمويهها عبر خديعة التمييز بين الدين الطاهر والمثالي و"تجاوزات" بعض أفراد المؤسسة الدينية. ونحن بكلامنا هذا لا نهدف الى تسفيه المقدس أو نكران وجوده لكننا نركز على فكرة أساسية ألا وهي أن المقدس مسلمة لا يمكن برهنتها وهي تتبدل حسب الأديان والمجتمعات.

فوجود المقدس ينقل رجل الدين من حالة المواطنة حيث يتساوى الجميع أمام القانون إلى حالة الطوطم الذي يستمد منه الكل شرعيته. لذلك كان من الضروري ليس فقط محاكمة الأب لبكي أمام المحاكم الوطنية من أجل العودة إلى مبدأ المواطنة بل أيضا بغية كسر الحصانة التي يؤمنها الطوطم أولا ومنع المقدس من تعطيل المسؤولية الفردية بحجة "شرف الجماعة" ثانيا.

ولا بد لي أن أعترف أن المقاربات التقليدية للنظام الطائفي كتلك التي تقدمها العلوم السياسية والاجتماعية أو حتى النظريات الفلسفية لم تعد كافية لفهم مختلف تجليات نظامنا السياسي. وقد أظهرت قضية منصور لبكي حالة من العصاب الجماعي حيث يرفض العقل الطائفي فكرة تدنيس المقدس والمس بشرف الطوطم. لذلك بات من الضروري الاستعانة بعلم النفس لتحليل كل مركبات الذنب والعقد الكامنة في تنشئتنا نتيجة العامل الطائفي.

وقد يذهب بي الأمر إلى التأكيد على أن الغاء النظام الطائفي يحتاج قبل اقرار قانون انتخابي جديد وتبني أحوال شخصية مدنية إلى علاج نفسي يحرر الفرد من عقدة الجماعة. وقد قال فرويد في كتابه الشهير "الطوطم والحرام" أن الدين يقوم أساسا على الاحساس بالذنب وضرورة التوبة. والعقل الطائفي يحمل ذنب الطائفة ويحتاج دائما إلى التكفير عن ذنبه هذا عبر التأكيد الدائم والمستمر على حرمة المقدس وشرف الطوطم. منصور لبكي هو الطوطم، فلنكسره كي نتحرر من ذنبنا ومن سجننا الطائفي.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني