حرية تعبير القضاة في المغرب


2018-09-21    |   

حرية تعبير القضاة في المغرب

تعتبر حرية التعبير من الحقوق الكونية التي تضمنها كل المواثيق الدولية والدساتير الوطنية، لكونها تعد وسيلة لمشاركة الجميع في قضايا تسيير الشأن العام بشكل أو بآخر خارج نطاق المؤسسات الرسمية. ومن المعلوم أن ممارسة هذه الحرية تأخذ أشكالا مختلفة: فقد يتم ذلك بالكتابة أو بالإبداع الفني بمختلف أنواعه؛ ويفترض في الدول الديمقراطية أن تتم ممارسة هذه الحرية من دون قيود، باستثناء القيود التي يضعها القانون حماية لحقوق أو مصالح عامة أخرى. ولذلك تم تمجيد الحرية من طرف الفلاسفة والمفكرين في مختلف العصور والأزمنة واعتبروها أهم من قضايا المعيش اليومي. كما اعتبروا أن نجاح خطط التنمية لا يتعارض مع الحرية والديمقراطية، بل يبقى وقفا على توفرها.

وعلى الصعيد القضائي وفي مختلف دول العالم، لا يمكن أن نتحدث عن استقلال القضاء في غياب هذه الحرية التي تضمن للعنصري البشري وهم القضاة حرية التعبير والانتماء إلى التجمعات المهنية التي تدافع عن مصالحهم واستقلالهم، مهما كانت قوانين تلك الدول ودساتيرها متقدمة.

فما هي العلاقة التي تجمع بين حرية تعبير القضاة واستقلال القضاء؟ وما هي حدود هذه الحرية؟

أولا: العلاقة بين حرية تعبير القضاة واستقلال القضاء:

العلاقة التي تجمع بين حرية تعبير القضاة واستقلال القضاء وطيدة جدا. فمشاركة القضاة في النقاشات العامة إما كأشخاص او كهيئات تمثيلية (نقابات وجمعيات..) أو كمؤسسات قضائية (مجالس عليا …)، من شأنها أن تؤدي إلى عدة فوائد، منها كشف التدخلات في القضاء مثلا ومن أي جهات حتى ولو كانت داخلية أي من الجسم القضائي نفسه والقدرة على مواجهتها ما دام أن القضاة كلهم كأشخاص أو كجمعيات يستطيعون أن يتحدثوا، فضلا عن فائدة المشاركات العلمية والإسهام في تجويد النصوص القانونية التي يتعاملون معها كل وقت وحين.

ولهذه الأسباب نصت العديد من المبادئ الدولية بضرورة ضمان الدول لمبدأ حرية تعبير القضاة في دساتيرها وقوانينها الوطنية، ومن ذلكم مجموعة المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية الصادرة عن الأمم المتحدة بمقتضى القرار 146-40، المؤرخ في 13-12-1985 ودليل حقوق الإنسان الخاص بالقضاة والمدعين العام والمحامين، الصادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة سنة 2003 والميثاق الأوروبي حول نظام القضاة .

وبالفعل، كرست دول عدة هذه الحقوق في دساتيرها وقوانينها الوطنية، ومنها التشريع المغربي ابتداء من دستور سنة 2011 الذي كرس هذا الحق بشكل واضح في  فصله 111  الذي نص على أن “للقضاة الحق في حرية التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية” والقانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة في مادته 37 التي نصت على ما يلي: “تطبيقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 111 من الدستور، للقضاة الحق في حرية التعبير… “.

لكن ورغم التطور الحاصل على صعيد النصوص والممارسة، لا تزال مسألة حرية التعبير مطروحة وتعتريها تجاذبات عدة، أبرزها استدعاء قضاة ومحاسبتهم على خليفة ممارسة حقهم في حرية التعبير، ولا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي. وقد وصل عدد القضاة الذين تمت محاسبتهم بسبب ذلك يصل إلى أزيد من ثمانية حالات[1]، آخرها ما قام به المجلس الأعلى للسلطة القضائية ولأول مرة في عهده من أمر المفتشية العامة للشؤون القضائية التي تتبع له بالاستماع إلى خمسة قضاة على خلفية تدوينات لهم على الفايسبوك تناقش قضايا مهنية. وهذا ما وثقه نادي قضاة المغرب في بلاغ استغرب فيه مثل هذه الإجراءات[2].

لكن ، ما هي حدود  حرية التعبير بالنسبة للقضاة؟ وما هو وجه الإشكال في الاستماعات التي تقوم بها المفتشية العامة للشؤون القضائية  بالمغرب؟

ثانيا : حدود حرية تعبير القضاة:

الهدف من حرية التعبير كما قلنا هو ضمان أن يشارك القاضي في النقاشات العامة وخاصة التي تمس قضايا العدالة، وكذا ضمان وجود نوع من الشجاعة الأدبية (وهي خصلة تنص عليها بعض مدونات السلوك العربية كالمدونة اللبنانية بشكل نظري)، لديه للانتفاض ضد كل تدخل في قراره القضائي. فالنقاش يضمن معايشة القاضي لهموم مجتمعه والوعي بها وهو ما سينعكس على اجتهاداته وفقا لروح القوانين الملتزم بها. ولذلك فإن الأصل في السلوك القضائي هو ضمان حرية التعبير، والتقييد لا يجب أن يكون إلا بنص واضح غير قابل للتأويل، ومن ذلك خرق الواجبات القانونية الواضحة، مثل إبداء رأي في ملف معروض عليه (بالنسبة للقانون المغربي) أو الرأي الذي يكتسي صبغة سياسية بمعنى الانحياز لطرف سياسي  معين.

ولكن ما يلاحظ هو أنه في بعض الأحيان، يتم تقرير مبدأ حرية التعبير في الدساتير أو القوانين. لكن تتم مصادرته في القوانين بإضافة عبارات فضفاضة يمكن استعمالها كل وقت وحين، مثل مع مراعاة واجب التحفظ  دون بيان حدود هذا الواجب أو مراعاة الاخلاقيات القضائية أو الوقار أو هيبة القضاء، على نحو قد يؤدي إلى تقويض حرية التعبير أو التضييق منها بشكل غير مبرر. وما يزيد من هذه المخاطر، هو غياب الرصيد الاجتهادي للمجالس العليا للقضاء بتفسير هذه العبارات المطاطة.

وفي الحالة المغربية الحالية، نعيش نفس الإشكال، بحيث تم في القوانين التنظيمية للسلطة القضائية إضافة مثل هذه العبارات. كما أننا لا زلنا نعيش مرحلة تأسيس المؤسسات[3]. كما أننا ننتظر صدور مدونة للسلوك القضائي مبنية على الاستشارات الواسعة لتحديد السلوكات المقبولة وغيرها. كما يقتضي العمل على إنضاج عدد من النقاشات، وخصوصا في مجال تعاطي القضاة مع وسائل التواصل الاجتماعي التي هي ظاهرة كونية يصعب الحسم فيها بإجراءات تأديبية خشية أن يقودنا ذلك إلى هدم الأصل الذي هو حرية التعبير. فالإشكال عندنا هو قلة القضاة الذين يمارسون هذه الحرية وليس العكس. وبالتالي من الأولى أن تسن إجراءات لتشجيع القضاة على الكلام لكون الصمت لم ولن يكون ظاهرة صحية إطلاقا، دون الأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه الإجراءات تضرب سمعة المؤسسات القضائية لأنها أحيانا تستهدف قضاة معروفين في الوسط أو على الصعيد الوطني بعملهم الجاد ونزاهتهم واجتهاداتهم.

مقالات ذات صلة:

تصوّر لمدونة أخلاقيات قضائية في المنطقة العربية: في اتجاه مدونة قادرة على تطوير البيئة القضائية

حين تجمّع القضاة في لبنان

 


[1] – ما بين قضاة تمت احالتهم إلى المجلس الأعلى للقضاة للمحاكمة التأديبية وقضاة تم الاستماع اليهم من طرف المتفشية القانونية .

[2] – انظر بلاغ نادي قضاة المغرب في موقعه الرسمي على الرابط الآتي : https://www.club-magistrats-maroc.com/archives/1723

[3]  فالمفتشية العامة من الناحية القانونية لا يحق لها مباشرة أي إجراءات من شانها المساس بحقوق القضاة في المحاكمة التأديبية. فالمادة 53 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أحالت على قانون سيصدر وهو الذي سيحدد اختصاصها وهذا النص لم يصدر بعد

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني