حراك المودعين تحت رحمة المصارف إلى أن يستقلّ القضاء


2021-06-21    |   

 حراك المودعين تحت رحمة المصارف إلى أن يستقلّ القضاء
وقفة احتجاجية للمودعين أمام مصرف لبنان

قبل اثني عشر عاماً استأمن المودع الأردني فضل حلتة (38 عاما) أحد المصارف اللبنانية أمواله ليستفيد من الفوائد العالية التي تقدّمها، فيؤمّن بذلك مصروف والده المسنّ. كانت علاقته مع المصارف اللبنانية جيدة جداً حتى خريف 2019. بدأت حكاية “الذلّ”، كما يصفها فضل، عندما رفض المصرف تحويل الفائدة أو مبلغاً من الوديعة المتوسطة بالدولار إلى حسابه في الأردن. وكان في ذلك الوقت بحاجة ماسّة إلى المال ليغطّي تكاليف علاج والده المصاب بالسرطان. وما زاد الطّين بلة التهديدات التي لا تزال تصله بفصل أولاده من المدرسة إذا ما سدّد الأقساط المدرسية. “سكّرت الدنيا بوجهي”، يشكو “للمفكرة القانونية”. وما عاد أحد يقرضه مالاً لتسيير أموره. عندما أصيب والده بفيروس كورونا وشارف على الموت، استنجد حلتة بمديرة المصرف و”حلّفها بربّها وبمن تحب”، وأغرقها بالتقارير الطبية ومقاطع الفيديو التي تصوّر حالة الوالد الصحّية الصعبة، فتعاطفت معه وحوّلت إليه مبلغ 1500 دولار من الفائدة. وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي تحوّل إلى فضل أموال خلال الأزمة. لم ييأس فضل من محاولة استرجاع حقّه الذي تم السطو عليه، لكنه يتأسّف على الحال التي وصل إليها: “أنا انذلّيت بشكل قاسٍ جداً ويساورني الخوف من أن يفارق والدي الحياة غير راضٍ عنّي لأننّي مقصّر في علاجه”.

لطالما اجتذبت المصارف اللبنانية الودائع بفضل الفوائد العالية التي تمنحها للمودعين قبل أن تنفجر الأزمة المصرفية والمالية في وجه هؤلاء الذين استفاقوا فجأة على أكبر عملية استباحة لجنى عمرهم وتحوّلوا إلى “كبش محرقة”. ولم يطل الأمر قبل أن يوقن المودعون أنّهم وحيدون في معركتهم مع المصارف في ظلّ تقاعس مجلس النواب عن القيام بدوره التشريعي للجم الأزمة المالية وتخفيف الاحتقان، لا سيما على أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة، وتباطؤ القضاء في اتّخاذ قرارت تنصف المودعين وتجرّم ممارسات المصارف المخالفة للقانون.

يتناول هذا التحقيق حراك المودعين: كيف نظّموا أنفسهم في جمعيّات ما الأدوات التي استخدموها في معركتهم مع المصارف، لا سيّما الطرق القانونية والتحرّكات الشعبية، وما الظروف التي أدّت إلى استخدامها، وهل تمكّنوا من تشكيل قوّة ضاغطة في وجه المصارف سعياً لانتزاع حقوقهم المنهوبة؟ وسنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال متابعة مسار ولادة ونشاط “رابطة المودعين”، و”جمعية المودعين اللبنانيين”، إضافة إلى “لجنة المحامين للدفاع عن المودعين”، لدراسة فعاليّتها في ظل قضاء “غير مستقلّ”، كما يصفه المحامون في اللجنة.  

لجنة المحامين: دعاوى المودعين يعرقلها “التباطؤ والتأجيل”

عام 2015 تأسّست لجنة للدفاع عن المتظاهرين ومتابعة ملفات الموقوفين خلال تظاهرات 17 تشرين الأول. ومع بدء تكشّف الأزمة المصرفية، انبثقت من اللجنة لجنة أخرى سمّيت “لجنة المحامين للدفاع عن المودعين” ضمّت 12 محامياً من المهتمّين بملف المودعين وصراعهم مع المصارف. بدأت عملها في “البحث والدراسات وإعطاء المشورة في المشاكل التي يواجهها الأفراد مع المصارف، وتطوّر عملها مع تطوّر حاجات الناس وتعسّف المصارف المستمر في حق المودعين سيما أصحاب الودائع الصغيرة؛ فتوسّع عمل اللجنة وبموافقة نقيب المحامين وأصبحت تترافع عن أصحاب الودائع الصغيرة الذين يلجأون إليها بدون أي مقابل وفق معايير محددة وهي حماية الموظفين في رواتبهم، حماية المرضى والطلاب والمهاجرين بغية العمل في الخارج والتي لا تتجاوز إيداعاتهم حداً معيّناً”، بحسب ما جاء في كلمة للجنة تلتها المحامية فيها مايا الدغيدي خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد بتاريخ 3 شباط 2020 في “المفكرة القانونية”.

رفعت اللجنة عدداً كبيراً من الدعاوى “وصدرت قرارت عن قضاة الأمور المستعجلة في النبطية وبيروت والمتن وزحلة، أنصفت المودعين وألزمت المصارف بدفع أو تحويل مبالغ إلى الخارج، نافيةً وجود قوّة قاهرة تتذرع بها المصارف، ومقرّة بأن هذه الممارسات مخالفة للقوانين المرعيّة الإجراء وأنها، أي هذه الممارسات بحاجة إلى قانون يقرّ من السلطة التشريعية يكون عادلاً ومنصفاً”، بحسب الدغيدي.

ولكن نتيجة ما تصفه الدغيدي في حديث إلى “المفكرة”: “خذلان القضاء لنا وفقدان المحامين الأمل في قضاء عادل ومنصف”، تراجع عدد الأعضاء الناشطين في اللجنة اليوم إلى أربعة وتقلّص عدد الدعاوى القضائية التي ترفعها، لتقتصر على الحالات الملحّة. فرغم جهود المحامين في اللجنة التي تؤتي ثمارها في بعض الأحيان، إلّا أنّه “لا يعوّل على القضاء في معركة المودعين مع المصارف”، كما تقول الدغيدي، بسبب “التباطؤ والتأجيل” اللذين يحكمان هذه الدعاوى. العقبة الأولى كانت صدور قانون تعليق المهل طوال فترة الإغلاق العام الذي فرضته جائحة كورونا. ويقضي هذا القانون بتعليق جميع المهل القانونية والقضائية والعقدية الممنوحة لأشخاص الحقّين العام والخاص بهدف ممارسة الحقوق على أنواعها سواء كانت هذه المهل شكلية أو إجرائية. بعد “فك الحصار عن العدالة” وتوقيف قانون تعليق المهل، أضرب الموظفون في المؤسّسات القضائية ثم المحامون، “فلم تعد تعقد الجلسات أساساً”. لتذليل العقبات التي فرضها تعطيل المحاكم، لجأ المحامون إلى خيار طلب الأوامر على العرائض. ففي حال الخطر الداهم أو التعدّي على الحقوق المشروعة يسمح القانون لقاضي الأمور المستعجلة أن يتلقّى طلب أمر على العريضة ليتّخذ قراره على الفور. لكن “القضاة كانوا يرفضون تسجيل أوامر على العريضة على المصارف باعتبار أنّه يجب تقديم دعاوى عادية في ما يخصّ هذه القضايا”.

تؤخذ بعض القرارات لصالح المودع لكنها لا تنفّذ. تروي الدغيدي ما حدث في إحدى الدعاوى: “ربحنا الأمر على العريضة، لكن المصرف قام بالاستئناف فعطّل علينا تنفيذ القرار. وعلماً أنّ قانون تعليق المهل أوقّف تنفيذه في ذلك الوقت، ممّا يعني وجوب تنفيذ القرار فور صدوره. لكن محكمة الاستئناف قرّرت إعادة إبلاغ المصرف، مما يزيد الأعباء المادية على كاهل المودع، وقرّرت عقد جلسة تعلم مسبقاً أنّها لن تعقد”.

في بعض الحالات النادرة تمكّن المحامون من انتزاع حقوق بعض المودعين. على سبيل المثال، “طلبت سيدة مبلغ خمسة آلاف دولار أميركي من وديعتها لتشتري آلة غسل الكلى لوالدتها المسنّة تقيها خطر الإصابة بفيروس كورونا في المستشفيات. لكن المصرف لم يكتفِ برفض طلبها بل استهزأ بها لأنّه، برأيه، هذه الآلة غير ضرورية والوالدة صارت في الخامسة والثمانين! تقدّمنا بطلب عريضة فرفض الكاتب تسجيله،  فأصرّيت أن أقابل القاضية، وسألتها: كيف تتحفّظون كقضاة عن اتّخاذ قرارات قد ترتبط بحياة إنسان أو حاجة ملحّة؟”. استجابت القاضية بعدها لطلب المودع وأعطت المصرف مهلة أربع وعشرين ساعة لتنفيذ القرار بتحويل الأموال. امتثل المصرف للقرار ووافق على التحويل فوراً.

الحائط المقابل لمصرف لبنان

“رابطة المودعين” رفعت 300 دعوى قضائية ضدّ المصارف

يعود تاريخ تأسيس “رابطة المودعين” إلى تشرين الثاني من العام 2019. كان أحد مؤسّسي الرابطة هادي جعفر في صراع مع المصرف الذي أودعه أمواله. استطاع جعفر بعدها أن ينتزع حقّه الذي سلبه المصرف بالقوّة “عملت مشكل مع المدير” يقول، على غرار ما فعل عدد من أصدقائه. لكن، “كيف سيتمكّن بقيّة الناس من استرجاع ودائعهم؟”، راود هذا السؤال جعفر ورفاقه، فسارعوا إلى تأسيس “حملة الدفاع عن المودعين”،  التي أصبحت لاحقاً “رابطة المودعين” التي تتألّف من جناحين أساسيين: لجنة المحامين ولجنة السياسات والاقتصاد. “تضمّ الأولى حوالي 20 محام، والثانية ثمانية عشر عضواً بين اختصاصيين في الاقتصاد وناشطين سياسيين. وهناك لجنة إعلامية من أربعة أعضاء ولجنة تنظيم من ستة أعضاء”، وفق ما يقول جعفر لـ”المفكرة”.

المهمّة الأولى للرابطة كانت إرسال كتاب إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في كانون الأوّل من العام 2019، يضمّ جملة من المطالب “المتواضعة”، كما يصفها جعفر. لكن الحاكم لم يردّ على الكتاب، فرفعت الرابطة أوّل شكوى قضائية لدى النيابة العامّة التمييزية. ثم أطلقت الرابطة الخط الساخن على تطبيق “واتساب”، ورقمه: 81649527، حيث كانت ولا تزال تتلقّى الاتّصالات من المودعين وتقدّم استشارات قانونية مجانية. وتقوم الرابطة بتوكيل محامين لرفع دعاوى قضائية مجانية للمودعين على المصارف اللبنانية بالإضافة إلى توجيه إنذارات إليها. “وصل عدد الدعاوى إلى 300 دعوى قضائية”. لم تكتف الرابطة بفتح “جبهة داخلية” فحسب، بل تقدّمت بشكوى إلى “هيئة الرقابة المالية” في سويسرا، طالبتها فيها بـ”إجراء تحقيق معمّق مع المصارف السويسرية بهدف معاقبة المصارف والأفراد المحتمل تورطهم في مساعدة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومقرّبين منه بحفظ أموال يزعم أنّها غير مشروعة تدفّقت من سويسرا أو خارجها”. كلّ ذلك طبعاً يترافق مع تظاهرات ووقفات احتجاجية في الشارع. 

اليوم الرابطة في صدد تنظيم انتخابات داخلية وفتح باب الانتساب للمودعين لكي ينتخبوا من يمثّلهم في جمعية عمومية. وباء كورونا وفرض الحجر المنزلي عطّلا ولادتها. لكن، بحسب جعفر، “الرابطة قريبة جداً من التحوّل إلى مؤسسة تمثيلية مع انحسار وباء كورونا، ولقد وردنا ما يزيد عن خمسة آلاف طلب انتساب”. الغاية من هذا التحوّل هو “خلق قوّة منتخبة ديمقراطياً تمثّل المودعين لانتشالهم من براثن المصارف خلال الأزمة المالية الراهنة”. هذا في المدى القريب. لكن الرابطة تطمح “ألّا يتكرر ما نعيشه اليوم في المستقبل فلا نعد نصدق الأكاذيب التي سوّقوا لها على غرار: الليرة بخير، ونملك أفضل قطاع مصرفي وحاكم مصرف”.  

“جمعية المودعين”: “مقاومة ضدّ ظلم المصارف”

كانت الرابطة أوّل كيان يجمع المودعين قبل أن تولد “جمعية المودعين اللبنانيين” من مبادرة فردية قام بها الشاب حسن مغنية في أيار من العام 2020. في ذلك الوقت، طلب مغنية من المصرف الذي أمّنه على وديعته مبلغ 15 ألف دولار أميركي بهدف إجراء عملية جراحية لوالدته المصابة بالسرطان. رفض المصرف طلبه رغم تلقّيه كتاباً من مغنية مرفقاً بتقارير طبية تؤكّد حاجته الملحّة إلى المال. عندها لجأ ابن مدينة صور إلى القضاء، وربح الدعوى في المحكمة الابتدائية. ثم دخلت الدعوى في الغيبوبة عندما وصلت إلى الاستئناف. فنزل إلى المصرف يحمل جنزيراً أغلق به أبوابه ، في 8 نيسان 2020، “حابساً الموظفين من الثامنة صباحاً إلى الثامنة مساء على مرأى القوى الأمنية التي لم تتدخل”. “أنا صاحب حق”، كرّر مغنية أمام المصرف. على إثرها، انتزع مغنية من قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح أمراً على عريضة قضت بمنع السفر لرئيس وأعضاء مجلس الإدارة ومدير عام المصرف. لم يمضِ يومان على الحادثة حتى حصل على مبلغ الـ15 ألف دولار أميركي الذي طلبه، وأجرى العملية الجراحية لوالدته. لكنّها توفيت بعد حوالي الشهرين من إجراء العملية لأنّه “تأخر في تأمين كلفتها”، برأيه. لذا يحمل مغنية حقداً عارماً على القطاع المصرفي في لبنان الذي “خسّره والدته”.

أنشأ مغنية صفحة على فيسبوك باسم: “جمعية المودعين اللبنانيين”. لم يكن ينوي وقتها أن ينشئ جمعية إنّما صفحة فيها منشورات توعوية حول قضية المودعين. بعد يومين، “الموضوع كبر”، يقول مغنية في حديث إلى “المفكرة” الذي هاله عدد الإعجابات بالصفحة الذي تخطّى خمسة آلاف، والذي يزيد اليوم عن الأربعين ألفاً. شجع ذلك مغنيّة على التفكير في إنشاء جمعية فعلية، “جمّعنا بعضنا وأنشأنا فريقاً من عشرة أعضاء بينهم محامون ومتخصّصون في الاقتصاد، ثم تقدّمنا بطلب العلم والخبر إلى وزارة الداخلية”، يفيد مغنيّة. لكن وزارة الداخلية رفضت طلبهم بناء على “مكتوب أرسله وزير المالية غازي وزني إلى وزارة الداخلية يرفض فيه منح الجمعية إذن علم وخبر بحجّة أنّ الدولة اللبنانية وحدها المسؤولة عن حماية المودعين”.

الصفحة الثانية من كتاب وزير المالية ويظهر سبب رفض تسجيل الجمعية (من صفحة الجمعية على فيسبوك)

هكذا صار عمل الجمعية “لمّ شمل” المودعين عبر شبكات التواصل الاجتماعي وتقديم التوعية لهم على حقوقهم وخصوصاً لدى صدور تعاميم من مصرف لبنان ونصائح واستشارات قانونية مجانية عبر محاميها وتنفيذ وقفات احتجاجية أمام مصرف لبنان وفروع المصارف وإصدار بيانات ضدّ سياسات المصارف.  

لكن نتيجة “اليأس من الاستنجاد بالقضاء غير المجدي”، على حد تعبير مغنية، تعمل الجمعية على حلّ المشاكل الفردية للمودعين مع المصارف عبر توجّه عدد من أعضائها إلى الفرع برفقة المودع وطلب تنفيذ رغبته. يضرب مغنية مثلاً على ذلك: “رفض أحد المصارف أن يضع شيكاً مصرفياً وهو راتب لموظف في حسابه، فرافقته وخمسة من الشباب إلى المصرف، وبعد تهديده بإغلاقه، أجبرناه أن يستجيب لطلب المودع” وقد تكرّر هذا الأمر حيث استطاعت الجمعية عبر “الضغط” في الاستحصال على حق مودع من هنا ومال مودع من هناك في حالات مثل إغلاق حسابات مودعين ورفض إيداع شيكات مصرفية وإجبار الدائن على تسديد دينه بالدولار وغيرها. ليست هذه بالطبع الطريقة القانونية والمثالية لحلّ المشاكل مع المصارف، ولكن في مقابل ضرب المصارف للقوانين عرض الحائط وتقاعس القضاء والمجلس النيابي عن القيام بدورهم لحماية المودعين، ارتأت الجمعية انتهاج “المقاومة ضدّ ظلم المصارف” من الآن فصاعداً.

انشقّ البعض من “جمعية المودعين اللبنانيين” وأنشأوا جمعية “صرخة المودعين”. وكرّت مسبحة الجمعيات للدفاع عن المودعين. يقول جعفر إنّ عددها اليوم يفوق الخمس عشرة جمعية. بعضها ينشط ويسجّل تحرّكات والبعض الآخر مجرّد صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. وصار للمودعين اتحاد جمعيات يضمّ كلّاً من: “ودائعنا حقّنا، صرخة المودعين، لجنة حقوق المودعين، والجمعية اللبنانية للدفاع عن المودعين”. وتعدد الجمعيات، برأي جعفر،  “يضرّ بلف المودعين لأنه يعيدنا إلى تجربة ثورة 17 تشرين عندما ظهرت صعوبة في مواجهة المجموعات العديدة للسلطة. كما يسمح هذا التقسيم للسلطة بخلق جمعيات أبواق لها باسم المودعين”.

“الرابطة” و”الجمعية” يداً بيد لتصعيد التحرّك في الشارع

تنسّق الرابطة مع “جمعية المودعين اللبنانيين” وتحثّ على المشاركة في التظاهرات التي تدعو إليها الجمعية، كما “نتواصل بشكل دائم ونناقش المواضيع ونتوصّل إلى القرارات سوياً”، وفق مغنية. المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقدته “رابطة المودعين” و”جمعية المودعين اللبنانيين” في 23\2\2021 يظهر الانسجام التي يتحدّث عنه مغنية بين الكيانين ويؤكد على ضرورة توحيد الرؤى في قضية المودعين وتنظيم الجمعيات في ما بينها كما جاء في البيان المشترك الذي تلي في المؤتمر: “نجد أنفسنا اليوم ومع تكاتف المصارف ومصرف لبنان والسلطة السياسية الحاكمة بحاجة إلى تنظيم أنفسنا والضغط بكل الوسائل بهدف الوصول إلى توزيع عادل للكلفة، وإعادة هيكلة الدين”.                         

وقرّرت الرابطة و”الجمعية” تصعيد التحرّك أكثر في الشارع الذي صار “الآن هو الوسيلة الأنجع بعد أن حاولنا عبر القضاء الضغط لتحصيل الحقوق”، كما جاء في بيانهما المشترك. ووجّها دعوة إلى تظاهرة في 26\2\2021، “شارك فيها حوالي ألف وخمسمائة شخص”، بحسب مغنية. انطلقت التظاهرة ظهراً من ساحة رياض الصلح، مروراً بمجلس النواب ووزارة الاقتصاد والتجارة وجمعية المصارف، وصولاً إلى مصرف لبنان، تحت شعار: “لن ندفع الثمن، أموالنا عند المصارف، ونريد استرجاعها.” عبّر المحتجّون خلالها عن غضبهم من التعميم 151 الذي يقضي بحجز ودائعهم بالدولار الأميركي، وإيجاز سحب جزء منها بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف 3900 ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد وليس على سعر الصرف الرسمي 1507 ليرة لبنانية ، بينما الدولار في السوق السوداء وصل، في ذلك الوقت، إلى 9700 ليرة، وفي حين أنّ “أصحاب المراكز والمناصب والمسؤولين، مصرفياً وسياسياً، هرّبوا أموالهم إلى الخارج”، كما ندّدوا في التظاهرة.

تعاميم المصرف المركزي تستفزّ التحرّكات الشعبية

يترجم التنظيم الحاصل داخل كلّ من الرابطة والجمعية والمجموعات الأخرى والتنسيق بينهما من خلال تطوّر الوقفات الاحتجاجية والتحرّكات التي نفّذها المودعون أمام مصرف لبنان وجمعية المصارف وقصر العدل لتحرير أموالهم. فأي تظاهرة تدعو إليها إحدى الجمعيات تنشر دعوتها باقي الجمعيات على صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي وتحثّ على المشاركة فيها.

تعاميم مصرف لبنان كانت محطة استفزاز المودعين، والشرارة التي تخرجهم إلى الشوارع. تقول الدغيدي إن “العلاقة بين المودع والمصرف تستند إلى قانون النقد والتسليف، وقانون الموجبات والعقود، والعقد الذي أبرمه الطرفان. أما هذه التعاميم التي تقضم الوادئع وتسلمها بالتقطير فغير ملزمة وتثير غضب المودعين الذين لن يثقوا بعد الآن بصدقية التعميم الأخير 158 ما إذا كان سيسري لأكثر من شهرين بعد أن خسروا فجأة كل أموالهم”. من أبرز التحرّكات التي نفذها المودعون على خلفية إصدار المصرف المركزي تعاميمه:

في 3\6\2021 علّق المصرف المركزي التعميم 151 بناء على قرار إعدادي صادر عن مجلس شورى الدولة، مما أثار موجة احتجاجات تخللها قطع طرقات بإطارات مشتعلة في عدة طرقات من العاصمة بيروت ومدينة طرابلس شمال لبنان. على خلفية غضب الشارع، أعلن المصرف المركزي أنه سيعيد النظر في القرار بعد مراجعته لدى شورى الدولة. وفي اليوم الثاني من إصدار القرار، أعلن رئيس الجمهورية أنّ التعميم 151 ساري المفعول.

بعد أقلّ من يومين على صدور قرار مجلس شورى الدولة، أصدر حاكم مصرف لبنان في 4\6\2021 بياناً يلزم بموجبه المصارف التجارية بدفع 400 دولار أميركي شهرياً نقداً وبالدولار الأميركي و400 دولار بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الذي تحدّده منصة الصيرفة أي 12000 ليرة مقابل الدولار الواحد، وذلك من الحسابات المفتوحة قبل تشرين الأول 2019. إلّا أنّ رد جمعية المصارف جاء سريعاً معلناً عدم إمكانية دفع أي مبالغ بالعملات الأجنبية. سرعان ما أصدرت رابطة المودعين بياناً تدعو فيه الناس إلى النزول إلى الشارع فوراً للضغط نحو “حلّ مالي عادل وشامل”. وأوضحت في بيان لها “وجوب أن تردّ الوديعة كما هي وبالعملة المتّفق عليها بين المتعاقدين، كما ورد في قانون النقد والتسليف”، مطالبة المصارف المتوقفة عن الدفع، بإعلان إفلاسها. كما حمّلت السلطة السياسية مسؤولية استفحال الأزمة، مطالبة القضاء بلعب “دوره الوطني”. وحدّدت الرابطة مبادئ الحل للأزمة المالية اللبنانية عن طريق “الإقرار بالخسائر الحاصلة عبر تدقيق جنائي للمصرف المركزي والمصارف، تتبعه خطة مالية إصلاحية شاملة، عادلة، شفافة تقوم بإعادة هيكلة الدين العام وإعادة تكوين القطاع المصرفي مع محاسبة الأشخاص والمؤسّسات المسؤولة عن الانهيار”.

نهار الجمعة في 11\6\2021 شارك عدد من المودعين في وقفة احتجاجية أمام مصرف لبنان بدعوة من “جمعية المودعين اللبنانيين”، احتجاجاً على التعميم 158. كان الحشد هزيلاً، وذلك يعود بحسب رئيس الجمعية حسن مغنية، إلى “سوء اختيار التوقيت في نهاية الأسبوع وفي ظل انقطاع المحروقات وتسكير الطرقات”. لكن “الحق لن يموت ما دام هناك واحد منّا يطالب فيه”، كما تناقل المودعون في ما بينهم. على وقع أناشيد ثورية، حمل المتظاهرون لافتات كتب على أحدها: “دعم الكهرباء من الجباية وخزينة الدولة وليس من مال المودعين”. وكتبوا على الحائط الذي يفصلهم عن المصرف المركزي: “محكومون بالأمل”، و”الفاسد كالعميل”. على الحائط نفسه علّقوا أوراقاً تحمل صور حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف سليم صفير كتب عليها: “قانون النقد صار ممسحة”، “منصّات فاشلة ما بتجيب هدف”، “أموالنا مش للدعم”، و”ما أخذ بالقوّة لا يستردّ إلّا بالقوّة”. 

أبو كفاح يتضامن مع المودعين

كان في التظاهرة الأخيرة يوم الجمعة رجل سبعيني ذو ملامح هادئة يتّكئ على الحائط المقابل للمصرف المركزي يحمل لافتة كتب عليها: “حذار من المسّ بودائعنا، حذار حذار من سرقة أموالنا”. جاء “أبو كفاح” ليطالب بجنى عمره الذي جمّعه طوال أربعين عاماً في بلاد الاغتراب وأودعه في المصارف اللبنانية. يتأسّف بصوت خافت، وبعينين دامعتين: “لقد جمّعت قرشي الأبيض ليومي الأسود. فجاء اليوم الأسود ولم أجد قرشي الأبيض”.

لا وديعة إذاً لأبي كفاح في المصارف اللبنانية. ورغم ذلك يشارك الرجل بشكل مستمرّ في تظاهرات المودعين لسببين. أوّلهما “الإطاحة بالنظام المصرفي وعلى رأسه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لأنه نظام نصب وسرقة وتآمر”، كما يقول لـ”المفكرة”. والسبب الثاني الذي دفعه للتضامن مع المودعين الذين “تآكلت مدخراتهم وتعويضاتهم” هو “الإنسانية”، “ليكون للظالم خصماً وللمظلوم عوناً”. يستشهد أبو كفاح بعبارة شهيرة للثائر تشي غيفارا: “إذا فرضت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرّد سيفقد إنسانيته شيئا فشيئاً”. 

خاتمة

يؤمن المودعون والجمعيات التي تساندهم في حراكهم أنّه لا بدّ من المحاربة بالوسائل المتاحة لاستعادة حقهم الذي سلب في أكبر عملية احتيال يتعرّضون إليها. حتى الآن نجاحات حراك المودعين متواضعة، وتتمثل بإيجاد حلول للمشاكل الفردية لبعض المودعين. لم يتوصّلوا إلى حلّ شامل وعادل للجميع كما لم يحصلوا على خطة ترسم طريق إعادة أموالهم وتخفف احتقانهم. بمنظور الدغيدي إنّ “معركة المودعين مع المصارف لن تجدي نفعاً في ظلّ منظومة سياسية تحاصر القضاء وتشدّ الخناق عليه”. فمن دون قضاء مستقلّ، “كيف يمكن للمودع أن يحصل على حقّه في دولة قانون ومؤسسات؟”، تسأل الدغيدي، وتحصر حلّ قضية المودعين “بانهيار المنظومة السياسية الراهنة وبناء منظومة جديدة قائمة على أساس فصل السلطات لتحرير السلطة القضائية من براثن الطبقة السياسية. وإلا سيبقى المودعون تحت رحمة المصارف”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، قضاء ، حراكات اجتماعية ، سياسات عامة ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، تحقيقات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، محاكم جزائية ، انتفاضة 17 تشرين ، البرلمان ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، مصارف ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني