حراكات حقوقية في تونس-2018 (2): الحريات والحقوق الفردية، صراعات إيديولوجية حتمية؟


2019-04-26    |   

حراكات حقوقية في تونس-2018 (2): الحريات والحقوق الفردية، صراعات إيديولوجية حتمية؟

أمس، نشرنا الحلقة الأولى عن الحراكات الحقوقية حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مع مقدمة عن الحراكات الحقوقية الحاصلة في 2017. ننشر هنا الحلقة الثانية التي تتناول الحراكات الحاصلة حول الحقوق المدنية والسياسية (المحرر).

يستند الحراك حول الحريات والحقوق الفردية في تونس إلى نضالات الجمعيات النسائية في هذا البلد، وفي طليعتها نضالات جمعية النساء الديمقراطيات اللواتي كان لهن فضل كبير في إقرار قانون حماية النساء من العنف، والذي يشكل من حيث مضمونه أفضل قانون في المنطقة العربية. ومن دون التقليل من أهمية هذه النضالات، فإن شعلة الحراكات بهذا الشأن في هذه السنة ارتبطت بشكل كبير بالمبادرة التي كان أطلقها رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي خلال خطابه يوم 13 أوت 2018 والذي شكل بموجبه لجنة رئاسية استشارية. وفيما جاء في الخطاب الرئاسي أن هذه اللجنة ستعمل فقط على ضمان المساواة في المواريث، فإن مهامها شملت بقرار تعيينها من ثم دراسة الخروقات والفراغات القانونية فيما يدعم ويطور المنظومة القانونية الخاصة بالحريات والمساواة في تونس.

وقد شكل إنشاء هذه اللجنة محورا ومحفزا لجهود العديد من الجمعيات والمنظمات الحقوقية التي عملت على إيصال مقترحاتها وتوصياتها للجنة ليتم درسها وتضمينها في تقريرها. وقد انضوت هذه المنظمات ضمن ائتلافين بارزين: “الإئتلاف المدني للحريات الفردية” الذي تناول هذه الحقوق بشكل شامل، وإن كان الأمل الأكبر للإئتلاف من هذه المبادرة تنحية فصل 230 الذي يجرم المثلية الجنسية وإلغاء عقوبة الإعدام و”الإئتلاف من أجل المساواة في الإرث” والذي ركز أعماله على المساواة في المواريث.

وفيما أعلنت اللجنة انتهاء أعمالها في الشهرين الأولين من سنة 2018، فإنها آثرت أن تنشرها بعد الانتخابات البلدية، تحديدا في 8 جوان 2018، تحسُّباً لأي ربط بينه وبين الاستحقاق الانتخابي وما يرافقه من تجاذب سياسي.

وقد شمل تقرير اللجنة إصلاحات عديدة تخص قضايا كانت قد أثارتها وناصرتها منظمات المجتمع المدني منذ سنوات بشكل واسع وضمن ائتلافات.

ومن أبرز الحقوق التي تناولها التقرير، الحق في الحياة والحق في الكرامة والحرية الأكاديمية وحرية البحث العلمي والحق في الأمان والحرية والحق في سرية المراسلات والإتصالات والحق في حماية الحياة الخاصة والحرمة الجسدية وحماية المعطيات الشخصية وحرية المعتقد والفكر والضمير والحرية الأكاديمية والبحث العلمي والحق في الثقافة وحرية الفنون وحرية التنقل والإقامة.

كما تضمن مراجعات تجرم التمييز بكل أنواعه وتعتبر المساعدة على الإنتحار جريمة. بالإضافة إلى مقترحات عديدة تخص مراجعة للعديد من التعريفات على غرار مصطلح التعذيب والتمييز.

وفيما ساد بعد ذلك ترقُّب لمعرفة المنحى الذي ستتخذه الأمور على الصعيد الرسمي وبخاصة التشريعي، فاجأ الباجي السبسي في يوم المرأة التونسية 13 أوت 2018 بنيته حصر مبادرته التشريعية بتحقيق المساواة في الإرث، أي في البند الذي يكاد يكون الأكثر حساسية من مجمل البنود التي تناولها تقرير اللجنة. لكن عددا من النواب عادوا وقدموا بمبادرة منهم وبالتعاون مع جمعيات حقوقية عدة، مشروع المجلة متكاملا، من دون أي تنقيح.

انطلاقا من ذلك، سنحاول توثيق الحراكات الحاصلة في 2018 حول لجنة المساواة والحريات الفردية والمبادرة الرئاسية، فضلا عن حراكات أخرى اتصلت بالحقوق والحريات.

أي حراكات حول لجنة المساواة والحريات الفردية؟

ثلاثة أسئلة مركزية نطرحها في هذا السياق:

الأول، هو إلى أي مدى تسبب إنشاء اللجنة بحد ذاته إلى تأطير أو إطلاق حراكات اجتماعية حول مفهومي المساواة والحريات الفردية؟

الثاني، هل أخذ هذا الحراك طابعا عاما حول هذين المفهومين، أم أنه تجلى من خلال حراكات مجتزأة حول عدد من الحقوق التي شملها دون سواها؟

والثالث، هو كيف تطور الحراك بعد انحسار المبادرة الرئاسية بالمساواة في المواريث، وبخاصة بين المنظمات الحقوقية، وبخاصة تلك التي تجهد لتكريس الحقوق التي انتهت هذه المبادرة إلى استبعادها؟

حراك عام أم حراكات خاصة حول اللجنة؟

كما سبق بيانه، أثار تشكيل لجنة المساواة والحريات الفردية جملة من التوقعات والانتظارات من قبل المجتمع المدني الحقوقي المحلي والدولي نظرا إلى ما يمكن أن يحتويه تقرير هذه اللجنة من حقوق. وقد بلغ الحراك العام حول هذا التقرير ذروته عند إعلان اللجنة حصيلة أعمالها. ومن أبرز المواقف في هذا الخصوص، البيان الذي أصدره التحالف المدني من أجل الحريات الفردية، وهو تحالف يضم أكثر من 30 جمعية تعمل على الحقوق والحريات في تونس منهم جمعية النساء الديمقراطيات والجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية. وقد ثمن البيان مخرجات لجنة المساواة والحريات الفردية.

كما نظمت مجموعة من منظمات المجتمع المدني فاق عددها الثلاثين مؤتمر تونس للمساواة والحريات الفردية نهار 24 جويلية 2018، وذلك في محاولة منها لجمع الأصوات الداعمة للحريات الفردية والمساواة من جمعيات وأحزاب وشخصيات مستقلة. وقد تضمن هذا المؤتمر الإعلان عن “ميثاق تونس للمساواة والحريات الفردية”، عبرت المنظمات المشاركة من خلاله عن تمسكها بمخرجات لجنة المساواة والحريات الفردية كاشفة عن إثني عشر بندا تمثل المسائل التي “يلتزم بها المجتمع المدني من تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة والتي يدعمها ويهدف إلى تحقيقها”.

وبالإضافة إلى هذا الحراك العام حول عمل اللجنة، سُجّل عدد من الحراكات المتصلة بأحد بنودها، أبرزها الآتية:

  • “مسيرة المساواة في الإرث” والتي دعت إليها جمعية النساء الديمقراطيات بتاريخ 10 مارس 2018. وحماسة واندفاع هذه الجمعية لهذا المطلب يجد مبرره من كونه مطلبا تاريخيا للجمعية كانت قد رفعتها منذ عشرين عاما. تباعا، وقد كان لها نشاطات عدة في 2018 لدعم المبادرة، أهمها  تحويل “مسيرة المساواة في الإرث”، التى ضمت أكثر من 80 جمعية ومنظمة حقوقية، محلية ودولية، إلى إئتلاف من أجل المساواة في الإرث بالتعاون مع جمعيات عديدة على رأسها الشبكة الأورو-متوسطية.

  • حراك مجتمع الميم: يتصل هذا الحراك بنشاط الجمعيات والمنظمات المنضوية تحت راية الإئتلاف المدافع عن قضايا وحقوق المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي وعابري ومؤكدي الهوية الجندرية، وهو إئتلاف فرعي ضمن الإئتلاف المدافع عن الحريات الفردية شكل عام 2016، بهدف إدخال عدد من القضايا المحورية ضمن عمل اللجنة، أهمها مسألة تجريم المثلية ووسائل إثباتها. وهي ترتبط بمسألتين شهدتا حضورا في الخطاب العام منذ عام 2015 هما الفصل 230 من قانون العقوبات والذي يعاقب العلاقات الجنسية المثلية والفحوصات الشرجية التي تستخدم منذ عقود لإثبات العلاقات المثلية.

وبالنظر إلى ارتباط هذه المسألة بفئات ومنظمات عديدة، باتت تعلن دفاعها عن المثليين والمثليات ومزدوجي أو متحولي الجنس أو ما يعرف بمجتمع الميم، برزت نشاطات عدة لهذه المنظمات خلال فترة إعداد التقرير أو حتى بعد صدوره.  لكن أغلب هذه النشاطات إستهدفت النخب والنشطاء الحقوقية أو المنتمين لمجتمع الميم أنفسهم. من أبرز هذه النشاطات، المنتدى المنعقد في 13 و14 أفريل 2018 في المعهد الفرنسي في العاصمة التونسية والذي جمع بعض السياسيين والحقوقيين، المحليين منهم والدوليين والذي تمحور حول ضرورة إلغاء فصل 230.

وقد جاء تقرير اللجنة في هذا المجال واضحا لجهة تعارض تجريم المثلية مع مبادئ الحرية الفردية ووجوب تنحية الفحوصات الشرجية والفصل 230. إلا أن المجلة المقترحة بدت أقل وضوحا بحيث أنها تركت هنا خيارا بين تنحية الفصل برمته أو تعديله بحيث يقتصر العقاب على تغريم المتهم بالمثلية الجنسية ماليا عوضا عن العقوبة السجنية، وذلك في مسعى للتخفيف من حدة المعارضة حول هذا المقترح. إلا أن هذا الاقتراح الجزئي والذي يتكيف مع إبقاء المثلية فعلا خارجا عن القانون، لم يثر أي حراك لدى تلك المنظمات، وتحديدا لدى الائتلاف المدني من أجل الدفاع عن الحريات الفردية في تونس، أو لدى الائتلاف الذي ضم الجمعيات الحقوقية الخاصة بالمثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي وعابري ومؤكدي الهوية الجندرية.

استهلاك المخدرات

كما يلحظ أنه رغم أن تقرير المساواة والحريات الفردية أسقط مطلب إلغاء الفصل 52 الخاص بتجريم استهلاك المخدرات الذي لطالما كان مطلبا أساسيا في النضال الحقوقي في تونس، فإن هذا الأمر لم يثر بدوره أي حراك بهذا الخصوص. وللتذكير، كان المشرّع التونسي أقدم على تنقيح جزئي لهذا الفصل في 8 ماي 2017 عبر منح القاضي صلاحيات تقديرية تمكنه من الاجتهاد في قضايا المستهلكين في اتجاه إصدار قرارات بوقف تنفيذ العقوبة، لم يتواصل عمل الجمعيات والمنظمات الحقوقية للضغط على السلطة التشريعية لتبني قانون شامل يسقط الملاحقة في حالات الاستهلاك. أما على المستوى الصحي والاجتماعي، فما زالت قلة من الجمعيات تعنى بقضايا مستهلكي المخدرات وتقدم لهم المساعدات. بالإضافة إلى النقص الفادح في عدد مراكز الرعاية الصحية للمدمنين في تونس، مما يشكل خطرا حقيقيا على المستوى الصحي والاجتماعي. فالجمعية التونسية لمقاومة الأمراض المنقولة جنسياً والسيدا هي الجمعية الوحيدة تقريبا الناشطة في هذا المجال، التى تكرر ذكرها من قبل النشطاء الحقوقيون.

عقوبة الإعدام

استهل الإئتلاف من أجل إلغاء عقوبة الإعدام أعماله في سنة 2018 يتنظيم جلسة نقاش مغلقة بالتعاون مع الفيدرالية الدولية في 26 جانفي. وقد دعا إليها صحفيين وإعلاميين بهدف التباحث بشأن أدوارهم في تعزيز ثقافة مجتمعية ترفض عقوبة الإعدام. كان من المتوقع أن يُلحِق الإئتلاف والمنظمات والجمعيات المعنية بهذا المطلب هذا النشاط بنشاطات مماثلة خلال عام 2018، إلا أن هذا الأمر لم يحصل. فلم يكن لهذا المطلب أي حراك شعبي، جمعياتي، أو إعلامي يذكر خلال هذا العام.

حراك مضاد: “تقرير العار”

بالمقابل، تم إطلاق على موقع فيسبوك حملة تحت هاشتاغ #تقرير_العار، عبر من خلاله رواد هذا الموقع عن رفضهم للتقرير أيضاً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حملة تشويه واسعة على مواقع التواصل الإجتماعي طالت شخص أعضاء لجنة المساواة والحريات الفردية، على رأسهم النائبة بشرى بالحج حمادة، رئيسة اللجنة. وكانت قد بدأت سلسلة من الحملات المشابهة مع بداية عام 2018 بعد تداول معلومات تم تسريبها عن أعمال لجنة المساواة والحريات الفردية على مواقع التواصل الاجتماعي في 18 جانفي 2018 إستفزت التيار المعارض للجنة.

أي حراك تبعا للمبادرة الرئاسية بالمساواة في المواريث؟

كما سبق بيانه، أعلن رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي بتاريخ 13 أوت 2018 عن نيته المضي قدماً في المساواة في الإرث مع إغفال أو تهميش المقترحات الحقوقية الأخرى والتي لا يقل بعضها أهمية عن هذه المسألة. ولكن بالرغم من ذلك، تفاعل عدد كبير من الجمعيات والمنظمات الحقوقية إيجابا مع هذا المقترح.

ففي اليوم نفسه، دعا الإئتلاف من أجل المساواة في الإرث إلى تظاهرة 13 أوت 2018 أمام المسرح البلدي في قلب العاصمة التونسية تأييدا للمبادرة الرئاسية الداعمة لهذا المطلب. قال جابر أوجه، مدير البرامج في الشبكة الأورو-متوسطية، أن عدد الذين شاركوا في هذه التظاهرة بلغ الثلاثة آلاف بحسب وزارة الداخلية.

كما أطلق التحالف حملة “المساواة في الإرث حق مش مزية” (المساواة في الإرث حق وليس تفضيلا) التي تحولت إلى هاشتاغ على مواقع التواصل الإجتماعي. ولكن المثير للتساؤل هو أن هذه الجمعية لم تطالب بأسبقيتها وأحقيتها برفع هذا المطلب. بل دافعت عن “المبادرة الرئاسية” تحت هذه التسمية. وقد كان هذا الأمر جليا في خطاباتها وبياناتها الصادرة في هذا الخصوص. كما أن الجمعيات الحقوقية كافة لم يصدر عنها أي نقد للتوظيف السياسي للحقوق والحريات الذي يستشف من موقف رئيس الجمهورية، حسبما أشار العديد من المحللين.

هذا ونذكر أن الجمعيات المنضوية تحت راية “الإئتلاف المدافع عن قضايا وحقوق المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي وعابري ومؤكدي الهوية الجندرية” شاركوا أيضا بشكل بارز في وقفة 13 أوت وكل النشاطات الداعمة لمطلب المساواة في الإرث، رغم عدم إعتماد مطالب هؤلاء بشكل كاف في المبادرة الرئاسية. “أعترف أنه كان تقصير كبير منا”، هكذا أجاب أ. علي بوسالم، المدير التنفيذي لجمعية موجودين خلال لقائه مع المفكرة. “كان هناك إختلاف بالمواقف فيما يخص التقرير ضمن أعضاء الإئتلاف أنفسهم. فمنهم من اعتبر اللجنة وتقريرها مجرد مبادرة سياسية لا يجب دعمها بشكل كبير والبعض الآخر تبنى وجهة نظر مناصرة للتقرير. كما أن تقديم المقترحين الخاصين بالفصل 230 شتتا المواقف أيضاً. لذلك لم نستطع توحيد الجهود لمناصرة هذا المطلب كما فعلت جمعيات أخرى، خصوصا تلك المتبناة لمطلب المساواة في الإرث.”

ويلحظ هنا أن هذه الحراكات أعرضت، بخلاف ما جاء في تقرير اللجنة، عن استخدام أي حجج من شأنها فتح حوار مع الجهات الرافضة لهذا التعديل لاعتبارات دينية. فقد سادت على العكس من ذلك شعارات مستمدة من اعتبارات المساواة القيمية المطلقة من دون أي اعتبار لما تضمنته القيم الموروثة وتحديدا الدينية منها. نذكر من هذه الشعارات: “مدنية مدنية .. تونس ليك وليا”، “تونس علمانية”، “تصرف من عَرَقي .. نورث كيفك (مثلك) من حقي”، “أنا وخويا كيف كيف” (أنا وأخي متساوين)، “لا جمهورية بدون حرية”. ويلحظ أن هذا التشدد حصل بعد حصر المبادرة، وبخلاف أدبيات سابقة كانت عبرت عنها بعض الجمعيات الحقوقية الرائدة في هذا المجال في مقدمتها (جمعية النساء الديمقراطيات). هذا ما نقرأه في التقرير الصادر في مايو 2018 تحت عنوان “توا وقتو” (الآن وليس غدا)، والذي تضمن 20 دليلا على أهمية وضرورة المضي قدما في إقرار المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة قانون في تونس، من بينها البنود رقم 12، 13، و14 التي ناقشت مساواة المواريث من ناحية فقهية وتاريخية طارحة إمكانية المساواة في الإرث من داخل المنظومة الإسلامية وليس من خارجها. ويلحظ أن الجمعية كانت استعادت في هذا التقرير أدبياتها المستخدمة في تسعينيات القرن الماضي.

وإزاء هذا الإلتفاف الشعبي والجمعياتي حول مطلب المساواة في الإرث، دعت بعض الجمعيات المحافظة هي أيضاً إلى “الشارع” للتعبير عن موقفها الرافضة له وعن حجم مناصريها. “ما دفعنا للتحرك ليس رفضنا القاطع لتقرير اللجنة، بل شعورنا بالإقصاء. حيث كانت مبادرة الرئيس أقرب ما تكون إلى الفوقية والقمع الذي اعتادت الأنظمة المطاح بها أن تمارسه علينا.” هذا ما قاله الأستاذ عبد الرحيم الخليفي، عضو الهيئة الوطنية للجمعية التونسية لأئمة المساجد. وأضاف: “تم إقصاء كل ما هو إسلامي من المبادرة وعمل اللجنة. فمقدمة التقرير وحديث اللجنة عن الإسلام كأساس لمقترحاتها ليس إلا من باب التسكيت. فلم نشهد مثلا تعيين شيخ زيتوني نثق برأيه كأحد أعضاء هذه اللجنة. حتى أن اللجنة لم تشمل أي دعوة للإجتهاد والتطوير في الفقه مثلا فيما يخص مقترحاتها. شعرنا وكأن عمل اللجنة قائم على مقترحات تيار معين وبنية معينة.” كان للأستاذ محمد الصالح، الناطق الرسمي للتنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن الكريم والدستور والتنمية العادلة، رأي مماثل عبر عنه لل “المفكرة” أثناء حوارها معه. كانت التنسيقية الوطنية على رأس الجمعيات التى كان لها الدور الأبرز في إطلاق عريضة وطنية، ورقية وإلكترونية، لجمع أكبر عدد ممكن من الرافضين للتقرير ومقترح المساواة في الإرث. كما كانت هذه المنظمات نظمت تظاهرة شعبية يوم 11 أوت 2018، أي قبل عيد المرأة التونسية نهار 13 أوت، إنطلاقا من باب سعدون في قلب العاصمة التونسية سيراً نحو البرلمان أيضاً للتعبير عن رفضهم لمقترحات اللجنة، داعين إلى استفتاء شعبي. كان بهذه التظاهرة تغطية إعلامية محلية ودولية رفعت خلالها شعارات عديدة نذكر منها: “تقرير العار”، “يا دعاة العلمانية .. الميراث آية قطعية”، “يا دعاة العلمانية .. تونس دولة إسلامية”. وفق تصريح “صالح” فعدد الموقعين على العريضة الوطنية، ورقيا وإلكترونيا، تخطى الألفين والخمسمائة توقيع. كما أكد أن التظاهرة جمعت حوالي ألفين مشارك من مختلف الولايات التونسية، وفق وزارة الداخلية.

وقد بدا تركيز النقاش على المسألة الأكثر حساسية من الناحية الإيديولوجية والتجاذب الحاصل بين المنظمات الليبرالية والمحافظة بمثابة استعادة للنقاشات التي دارت عند وضع دستور الجمهورية الثانية  وتجسيدا للمواد التوافقية والمتناقضة الواردة في الدستور، وكل ذلك في ظل التأخر عن تنزيل المحكمة الدستورية.

ومن المثير للاهتمام أنه في ذلك هذا التجاذب، برز توجّه ما يزال ضعيفا لاعتماد خطاب وسطي داعم للحوار بين التيارات الإيديولوجية المختلفة.  ومن أهم تجليات هذا التوجه، جلسة الحوار المفتوح التى دعا إليها مركز دراسة الإسلام والديمقراطية بتاريخ 30 أوت 2018 تحت عنوان: “كيف يكون الاجتهاد في التشريع الإسلامي في موضوع الميراث؟”. وكانت هذه الندوة ضمت خمسة من أبرز المفكرين التونسيين المتخصصين بالشأن الديني والفقهي، مثل الأستاذ صلاح الدين الجورشي، وهو أحد أعضاء لجنة الحقوق الفردية والمساواة، وحمادة النيفر، إلى جانب عدد كبير من الحضور، من ضمنهم سياسيين وباحثين، وطلاب، للتباحث حول مبادرة المساواة في الإرث ومشروعية الاجتهاد في الإسلام وأهميته. وفيما شكل قرب هذا المركز من حزب حركة النهضة سياسيا وإيديولوجيا عائقا أمام تطور هذا التوجه الوسطي، فإن النشاط الذي نظمته منظمة “نشاز”، (جمعية حقوقية بعيدة نسبيا عن أي إنتماء سياسي مباشر)، بالتعاون مع المنظمة الدولية “روزا لوكسومبرغ” بدا أكثر تعبيرا عنه. حصل اللقاء تحت عنوان تقرير لجنة الحريات والمساواة – مقاربات سياسية بتاريخ 29 سبتمبر 2018. وقد حاولت “نشاز” فيه جمع سياسيين من تيارات مختلفة ومتبنين لوجهات نظر مختلفة حول تقرير لجنة المساواة والحريات الفردية وموضوع المساواة في الإرث، على غرار أ. محمد القوماني، عن حركة النهضة، أ. محمد عبّو، أمين حزب التيار الديمقراطي، و أ. حمة الهمّامي، النّاطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية.

إلا أن هذا التيار وعلى أهميته ودوره المحوري في تشكيل خطاب معقلن وسط التجاذبات الراديكالية بين المعسكرين الآخرين، لم يستطع أن ينال المساحة التى يستحقها ليضيع صوته بين خطابات الكراهية والتهم المتبادلة.

وبالخلاصة، أمكن تسجيل ملاحظتين:

أولا، بدا مطلب المساواة في الإرث وكأنه عنوان لحرب إستفزازات متبادلة بين مختلف التيارات الإيديولوجية، نتيجة إحتقان تجلى من خلال الحملات التى أطلقت على موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك” من قبل التيار المؤيد للمساواة والتيار الرافض له والتى كانت فرصة لإطلاق التهم وتبادل الشتائم بين المعسكرين. الميل إلى الإصطفاف الإيديولوجي طغا بشكل مبالغ فيه على محتوى تقرير لجنة المساواة والحريات الفردية، لتتغافل أغلب المنظمات والجمعيات الحقوقية ع “ما يجمع” في التقرير والذي يشكل خطوات مهمة في إصلاح المنظمة القانونية الحقوقية. حالة التنافر الحاد التي قسمت الشارع التونسي حول هذا التقرير، خصوصاً مبادرة المساواة في الإرث، كانت فرصة مؤاتية لممارسة لعبة الأحزاب المفضلة ألا وهي الاستقطاب القائم على استغلال الحساسيات الإيديولوجية والدينية وتوظيفها لغايات سياسية قبل أشهر من الاستحقاق الانتخابي المرتقب في نهاية سنة 2019.

من هنا، تكشف الارتدادات السياسية والتناول الإعلامي والشعبي لمبادرة رئيس الجمهورية السبسي كيف يمكن تحويل قضية حقوقية صرفة إلى ورقة في لعبة التجاذب السياسي انخرطت فيها الجمعيات والمنظمات الحقوقية بوعي أو دون وعي لتكون من حيث لا تدري هي الأخرى سلاحا في يد السياسيين.

ثانيا: هذا التحجر الإيديولوجي أدى في الوقت نفسه إلى تسييس الحركة أو أدلجتها، على نحو يتعارض مع جوهر قيام بعض المنظمات أو الائتلافات. وهذا ما سجلناه من خلال مشاركة الإئتلاف المدافع عن قضايا وحقوق المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي وعابري ومؤكدي الهوية الجندرية  في تظاهرة 13 أوت من دون أي اعتراض لجهة تنحية مطلب إلغاء التجريم عن هذه الفئات من المبادرة الرئاسية.

رمضان.. #مش_بالسيف

كما في كل سنة، يجدد رمضان بحلوله مطلبا بإمكانية المجاهرة بالصوم في الفضاء العام. أما السلطة العامة فلطالما أخذت طرفا دون الآخر. الحادث الأبرز في هذا الخصوص كان عملية الغلق النهائي، يوم 25 ماي 2018، لمقهى، بجهة أريانة، قام بتقديم المشروبات لزبائنه خلال النهار. سبق ذلك عدة اعتداءات على “مجاهرين بالفطر” كان أبرزها عملية إيقاف أربعة أشخاص في 31 ماي 2017 بتهمة “التجاهر بالإفطار” والحكم عليهم بالسجن لمدّة شهر. إعتراضا على هذه السياسة جاء تحرك “مش بالسيف” (ليس بالقوة) يوم 28 مايو 2018.

دعا إلى هذا التحرك عدة جمعيات منها تلك المنضوية تحت الإئتلاف من أجل الحريات الفردية. شارك في التحرك العديد من النشطاء الحقوقيين في شارع بورقيبة في وسط العاصمة التونسية لرفع شعارات عديدة منها “مش بالسيف” و”حرية حرية في دولة مدنية”. كما تحول شعار الحملة إلى هاشتاغ #مش_بالسيف على موقع فيسبوك ليتمكن النشطاء من التعبير عن وجهة نظرهم وحرياتهم بشكل أوسع. كان للائتلاف المدني من أجل الحُريات الفردية، ممثلا بجمعياته التى يفوق عددها الثلاثين، موقف عبر عنه من خلال رسالة مفتوحة موجهة إلى كل من رئيس الجمهورية، الحكومة، ومجلس النواب لحثهم على احترام حريات المواطنين وخياراتهم، مستشهدين بالاتفاقيات الدولية الموقعة من قبل الدولة التونسية ودستور 2014، وداعيا إياهم إلى التخلي عن كل الملاحقات القضائيّة العشوائيّة التي تتعارض مع الدستور.

لا للتحرش .. #ما_تمسنيش

أطلقت جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية في 2018 حملة “ما تمسنيش” (لا تلمسني)، تضمنها وقفة بتاريخ 12 سبتمبر 2018، في ساحة القصبة في العاصمة تونس. هدفت هذه الحملة إلى التنديد بالاعتداءات الجنسية الوحشيّة التى شهدتها سنة 2018 والتى بينت تناميا واضحا وتفشٍيا لهذه الظاهرة بشكل كبير في البلاد. ففي بداية شهر سبتمبر 2018 سجل العديد من جرائم الإغتصاب والإعتداء الجنسي في ولايات عديدة في تونس بشكل يثير الاستغراب. من هذه الجرائم، نذكر الجريمة التي طالت طفلة عمرها ثلاث سنوات في قفصة، مدينة تقع في الجنوب الغربي التونسي. كما أنه تم الاعتداء جنسياً على طفلة تبلغ 8 سنوات من طرف طفلين لا يتجاوزان 9 و11 سنة في منطقة إبن خلدون بالعاصمة التونسية. وقبلها جريمة في مدينة قبلاط في ولاية باجة حيث تم إغتصاب طفلة تبلغ 15 سنة بعد اختطافها وتعنيف أمها وجدّتها، ما أدى إلى وفاة الأخيرة. وجهت المنظمات الحقوقية المحلية والدولية المنضوية تحت راية الحملة، رسالة مفتوحة إلى رئيس الحكومة ورئيس الهيئة العليا المستقلة للإتصال السمعي والبصري وكل من وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن، وزارة العدل، وزارة الداخلية، ووزارة التربية من أجل إتّخاذ كل الإجراءات اللاّزمة قانونياً لمحاربة آفة الإعتداء الجنسي التى تمس صلب حقوق وحريات وأمن المواطن/ة.

سر المهنة

كما أثارت الميزانية المالية لعام 2018 غضب الشارع التونسي، أحدثت الميزانية المالية لعام 2019، بعد إقرارها من قبل مجلس نواب الشعب يوم 10 ديسمبر 2018 إعتراضات كثيرة. كان أبرزها غضب هيئة المحامين الذي سببه الفصل 36 الذي يمس بسرية هذه المهنة. كانت أول وقفة إحتجاجية للمحامين أمام المسرح البلدي نهار 20 ديسمبر 2018 دفاعا عن سر المهنة ومنددة بعدم دستورية الفصل 36. دعت إليه هيئة الوطنية، التى قدمت طعنا بالفصل 36 لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين. كما دعت الهيئة إلى إضراب عامّ في جميع محاكم الجمهورية منذ يوم الخميس 20 ديسمبر الجاري مطلقة تهديدات بالتصعيد الميداني ضدّ قانون الماليّة. ومع إعلان الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين عن قبل الطعن المقدم ضد الفصل 34 من قانون المالية مقرة بعد دستوريته اليوم في 26/12/2018، يكون قد نجح المحامون في معركتهم لإثبات فعالية تضامنهم وإحتجاجاتهم للوصول إلى مطالبهم المنشودة.

  • نشر هذا المقال في العدد | 14 | أبريل 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي علىالرابط ادناه:

لمن القانون في تونس 2018؟

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني