جمعية المصارف تتعلق بقشة تعليق المهل


2021-02-02    |   

جمعية المصارف تتعلق بقشة تعليق المهل
رسم رائد شرف

بتاريخ 26/1/2021، أرسلت جمعية المصارف مطالعة قانونية لحاكم مصرف لبنان اعتبرت فيها أن المهل المحددة للمصارف بوجوب زيادة أموالها الخاصة أو إنشاء حسابات لدى مراسليها في الخارج معلقة. وكان مصرف لبنان أصدر بتاريخ 26/8/2020 التعميم الوسيط رقم 567 بإلزام المصارف بزيادة أموالها الخاصة بنسبة 20% بالعملات الأجنبية ضمن مهلة أقصاها 31/12/2020. كما كان ألزمها بموجب تعميم آخر (التعميم الأساسي 154) أن تكوّن حسابًا خارجيًا حرًّا من أي التزامات لدى مراسليه في الخارج لا يقل في أي وقت عن 3% من مجموع الودائع بالعملة الأجنبية لديه، خلال مهلة أقصاها 28/2/2021. وقد استمدت حجتها الأساسية في هذا المضمار من قوانين تعليق المهل 160/2020 و185/2020 و212/2021.

وعليه، بدت هذه المطالعة بمثابة محاولة من جمعية المصارف لتأخير استحقاقي زيادة الرساميل وتكوين الحسابات الخارجية الحرّة من أي إلتزامات والتفلت منهما، مما يفاقم الضرر على حقوق المودعين وسلامة القطاع المصرفي. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للنقد هو أن هذين الاجراءين المطلوب استئخارهما، قد يكونان حتى اللحظة الإجراءين الإنقاذيين الوحيدين المتخذين من المصرف المركزي لمعالجة توقف المصارف فعليا عن الدفع وتحويل الأموال إلى الخارج. وهي تأتي في مسعى لتغطية المصارف التي عجزت عن الإلتزام بهذه الموجبات ضمن المهلة المحددة من المصرف المركزي، وتجنيبها اجراءات قانونية كإعلان توقفها عن الدفع بموجب قانون 2/67 أو وضع اليد عليها وفق قانون 28/67 أو القانون 91/110 أو أيضا إحالتها بموجب المادة 208 من قانون النقد والتسليف إلى الهيئة المصرفية العليا وفرض العقوبات الإدارية والجزائية عليها.

وتشبه هذه المحاولة بعمقها ما نجح فيه المعتدون على الأملاك العامة البحرية قبل 1994 لجهة تعليق الموجبات الموضوعة عليهم بموجب القانون رقم 64/2017 وهي الموجبات الوحيدة الموضوعة على عاتقهم من قبل الدولة رغم انقضاء عقود من التعدي على هذه الأملاك، كل ذلك أيضا بحجة قوانون تعليق المهل.

سنحاول في هذا المقال مناقشة المبررات التي ساقتها جمعية المصارف، تمهيدا لإبداء عدد من الملاحظات.

1. حجج واهية لجميعة المصارف للتفلّت من مسؤولياتها

هنا نعرض أهم هذه الحجج في سياق دحضها.

1- اعتبرت الجمعية أنّ “ممّا لا شك فيه أن المقصود بالمهلة القانونية الواردة في القانون رقم160/220، ليس فقط المهلة التي نص عليها القانون بمعناه الضيق (أي الصادر عن مجلس النواب)، بل هي المهلة التي نصّ عليها القانون بمعناه الواسع، أي الواردة في أية قاعدة قانونية، من قانون أو مرسوم أو قرار أو سواه.’’

بالعودة إلى القانون 160/2020، يتبيّن أنّه علّق المهل القانونية والقضائية والعقدية واستثنى منها المهل الممنوحة من الإدارة أو المحددة منها تبعًا لسلطتها الإستنسابية.

قررت جمعية المصارف تفسير النص بمعناه الواسع واعتبرت أن المهل القانونية هي ليست تلك المذكورة فقط في القوانين بل أيضًا في القرارات والمراسيم، وبالتالي يشتمل تعليق المهل على تعاميم المصرف المركزي. وقد حمّلت الجمعية من خلال هذا التفسير القانون ما لا يحتمل في مسعى منها للإلتفاف عليه، وبخاصة أن النص واضح وأن تعليق المهل هو استثناء على القاعدة العامة يقتضي تفسير مداه بشكل ضيق من دون أي توسع.

2- اعتبرت الجمعية في مطالعتها أنّ ‘‘القرارات الصادرة عن المجلس المركزي لمصرف لبنان تتضمن قواعد قانونية، بدليل أنّها صادرة استنادًا إلى صلاحية المصرف المركزي التنظيمية المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف لا سيما المادة 174 منه”.

وبذلك تعتبر الجمعية تعاميم المصرف المركزي بقوة القانون وتدخل ضمن المهل القانونية المعلّقة. وقد عززت رأيها هذا بحكم صادر عن رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت مريانا عناني اعتبرت فيه أن على تعاميم المصرف المركزي احترام القواعد القانونية التي تعلوها رتبةً. فاستنتجت المطالعة أن هذا القرار يثبت أن التعاميم هي من القواعد القانونية. وهذا تفسير غريب وملتوٍ للحكم الصادر عن القاضية وعبثي طالما أن يؤدي إلى الخلط بين القانون والقرار الصادر عن هيئة أو مرجع إداري بالإستناد إلى صلاحياته المحددة في القانون.

وما يزيد من قابلية هذا الخلط للانتقاد هو أن هذا الخلط بين التشريع والمصرف المركزي إنما يأتي بمثابة استكمال لممارسات غير قانونية لهذا المصرف بلغت حدود التغول على صلاحيات التشريع، وبخاصة بما اتصل بالتعميم رقم 154 والذي ذهب إلى حدّ منح عفو عام مقنع لكل من يستجيب لشروط المكتب المركزي. وهي ممارسات اشتركت فيها أيضا جمعية المصارف ولا سيما بما يتصل بفرض تقييد حركة رساميل أو ما أمكن تسميته “كابياتال كونترول غير رسمي”.

3- اعتبرت الجمعية أن قانون تعليق المهل استثنى من تطبيقه المهل الصادرة عن الإدارة، فيما أن مصرف لبنان لا يعدّ بحسب قانون النقد والتسليف يعتبر مؤسسة إدارية بل مؤسسة تتمتع بطبيعة قانونية خاصةوأنّ كلمة الإدارة يجب أن تفسر حصرًا… وعليه فإن قرارات مصرف لبنان لا تكون مشمولة بالإستثناء.

وهذه الحجة مردودة لسببين:

أولا عملا برسوخ اجتهاد مجلس شورى الدولة (قرار رقم 195/1995) لجهة أن “الطبيعة القانونية الخاصة لمصرف لبنان لا ترفعه إلى مصاف السلطة المستقلة ذلك أن السلطات الدستورية الثلاث محددة حصرا في الدستور مما يبقيه ضمن إطار أجهزة الدولة التي تمارس وصايتها عليه بواسطة وزارة المالية وهو يبقى خاضعا لرقابة القضاء الإداري فيما يتعلق بالقرارات الإدارية التي يتخذها إزاء المؤسسات المصرفية والمالية الخاضعة لرقابته.”

– أنه إذا سلّمنا جدلًا بأن مصرف لبنان لا يُعتبر من الإدارات العامة واعتبرناه مؤسسة ذات طبيعة قانونية خاصة، فقوانين تعليق المهل كما سبق وذكرنا متعلقة بالمهل القانونية والقضائية والعقدية ولا تشتمل على تعاميم وقرارات مصرف لبنان التي لا تندرج تحت أي خانة منهم. فلو كانت نية المشرّع أن يشمل التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان في تعليق المهل لكان ذكرها كونه ذات طبيعة قانونية خاصة. وبالتالي لا تعتبر قرارات المركزي من ضمن القرارات التي تم تعليق المهل الواردة فيها.

4- عبّرت الجمعية في نهاية مطالعتهاعن تخوفها من “جعل التعميم يطغى على القانون في وقت أنه أدنى منه تراتبية في القواعد القانونية”، لتخلص للقول بأن هذا الأمر غير مقبول. ويفهم من ذلك أن الجمعية تعتبر أن تعليق المهل المكرسة في نصوص ذات قيمة أعلى يوجب من باب أولى تعليق المهل المكرسة في القرارات الأقل قيمة. وعدا عن تعارض هذا التحليل مع صراحة النص القانوني الذي علق المهل القانونية دون المهل التي تقررها الإدارة، فإنه يناقض روحية التشريع الذي أبقى للإدارة هامشا للتدخل لفرض المهل التي تراها مناسبة ضمن الصلاحيات العائدة لها استنسابيا، وذلك على ضوء تطورات الواقع والحاجات الاجتماعية. ولعل المهل المحددة في هذا المجال تشكل مثالا بليغا على ذلك.

 

2. دروس وأسئلة تمليها هذه المطالعة الملتبسة

رغم الطابع الواهي لهذه المطالعة، فإنها تطرح عددا الملاحظات التي يجدر الإضاءة عليها:

1- تكرار استخدام تعليق المهل للإعتداء على الصالح العام:

يتبدى من هذه المطالعة توجّه جديد لاستخدام قانون تعليق المهل لتأييد اعتداءات جسيمة على الدولة والمواطنين، وهو توجه يتلاقى في عمقه مع نجاح الجهات المعتدية على الأملاك العامة في انتزاع إقرار باستفادتها من قوانين تعليق المهل كما سبق بيانه. وكما أدى الاستخدام الأول إلى تطويل أمد الاعتداء على الأملاك العامة، من شأن نجاح جمعية المصارف في مسعاها أن يعطل التدبير اليتيم المتخذ من مصرف لبنان في اتجاه إعادة هيكلة المصارف وزيادة رساميلها، رغم محدوديته.

2- من هو المرجع الصالح للنظر في هذه المطالعة؟

إذ تبدو الحجج المبرزة في المطالعة واهية تماما، يبقى أن المرجع الذي سيقيمها في المقام الأول هو مصرف لبنان الذي كان بدوره اعتمد في الآونة الأخيرة عددا من المواقف التي لا تقل التباسا في فهم موجباته القانونية وحدودها. وهذا يتأتى عن أن مصرف لبنان هو المرجع الذي بإمكانه اتخاذ اجراءات بحق المصارف المخالفة. فهل سيختبئ مصرف لبنان وراء هذه المطالعة بما يعطل ولو لحين (على الأقل خمسة أشهر وهي مدة تعليق المهل) مفاعيل تعميمه أو إصدار تعاميم جديدة بمهل جديدة أم أنه سيتصدى لها تبعا لإعلان أنها واهية تماما وتتعارض مع الحد الأدنى من المنطق القانوني؟ وفيما أنه يكون للقضاء نظريا امكانية ترتيب نتائج على عدم الالتزام بهذه المهل، فإن الاجراءات القضائية تبقى بطبيعتها طويلة، هذا فضلا عن أن من شأن اتخاذ مصرف لبنان تعاميم جديدة استجابة للمطالعة أن يعطل أي لجوء للقضاء.

3- درس إضافيّ على سوء صياغة قانون تعليق المهل:

ختاما، يستدعي تكرار التّوجُّه لاستفادة قطاعات من تعليق المهل للمسّ بمصالح عامّة حيويّة التساؤل حول مدى الدقّة في صياغة قوانين تعليق المهل، وبخاصة بما تشمله أو ما هو مستثنى منها. ومن شأن تكرار هذا الأمر أن يفتح مجالا واسعا أمام تحوير هدف القانون من قانون لحفظ الحقوق إلى قانون لتأبيد الاعتداءات أو على الأقل لتعطيل الاجراءات الإنقاذية للمجتمع. وهو درس يوجب على المشرع اعتماد الدقة في صياغة أي قانون تعليق للمهل بالنظر إلى خطورته، وعلى نحو ينحصر في حفظ الحقوق المحمية قانونا من دون أي توسع.

انشر المقال



متوفر من خلال:

انتفاضة 17 تشرين ، قضاء ، جائحة كورونا ، محاكم إدارية ، البرلمان ، قطاع خاص ، مصارف ، تشريعات وقوانين ، استقلال القضاء ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني