جدل في الستينيّات حول طبيعة النظام الإقتصادي اللبناني: فشل العبور من نظام “إكسترا” حر إلى حر “مختلط”


2020-04-09    |   

جدل في الستينيّات حول طبيعة النظام الإقتصادي اللبناني: فشل العبور من نظام “إكسترا” حر إلى حر “مختلط”

مرّ لبنان عام 1966 بإحدى أحلك أزماته المالية، أزمة مصرف “إنترا”. آنذاك كان الجدل محتدماً حول طبيعة النظام الإقتصادي اللبناني وإن كان يجب أن يكون حراً أو موجّهاً. وهو جدل تطوّر عن نقاشات سابقة في إثر أزمة سياسية ومالية شهدها لبنان بين عامي 1956 و1958، كشفت هشاشة نظامه. بدأ الجدل عقب صدور عدد من الأبحاث والدراسات كانت قد طلبتها الحكومة اللبنانية من بعثات أجنبية لتحديد مكامن الخلل في النظام وكيفية معالجتها. وعليه، قام فؤاد شهاب بعد انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1958 بدعوة الخبير الإقتصادي والإنمائي الأب “لويس – جوزف لوبريه”، منشئ ورئيس مؤسسة “إيرفد” التابعة لمعهد “إيرفد” في باريس- إلى لبنان للقيام بعملية مسح شامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيه. وبالفعل، وضعت بعثة “إيرفد” برنامجاً إنمائياً كان الأوّل من نوعه في لبنان، من حيث الشمولية والمستوى العلمي. ورغم أنّ لبنان عرف ظاهرة جديدة في تلك الفترة تتمثل بالإنماء الإقتصادي وتدخّل الدولة غير أنّ البرنامج الذي وضعته البعثة لم يُنفّذ.

طُرح النقاش حول الحرية والتوجيه في الإقتصاد مجدّداً، بعد وقوع أزمة تضخّم وغلاء معيشي عام 1965 خلال عهد الرئيس شارل حلو. وتبيّن لنا، بعد مطالعتنا للنقاش القائم حينها، أنّ الصراع الفعلي آنذاك لم يكن بين مسمّيَيْ يسار (اشتراكيون وقوميون) ويمين (ليبراليون)، إنما بين من أراد إصلاح الخلل البنيوي في النظام الإقتصادي ومن تجاهل الأمر واستنفر للدفاع عن “حرية إقتصادية” ترفض الحد الأدنى من الضوابط التشريعية  في المجال المالي وتدافع عن الإحتكارات تحت غطاء الدفاع عن مبدأ “المبادرة الفردية”. بالتالي، بدا كأنّ عدداً من أصحاب القرار كانوا يعملون في الستينيّات على تغليب النظام النيوليبرالي أو النظام الإقتصادي “الإكسترا ليبرالي” -على حد تعبير النائب ميشال فرحات[1]-.

نسعى في هذه المقالة إلى استعراض المواقف والأفكار المطروحة حينها بدءاً من المناقشات في مجلس النواب، وصولاً إلى بعض التعريفات التي توضح المفاهيم السائدة وتلك التي ترشح عن نقد للرأسمالية اللبنانية. كما نشرح بعض ما أنتجه الخبراء الإقتصاديون حينها في إطار مقاربتهم للنظام المالي، وصولاً إلى فهم الخطاب الليبرالي الملتبس وانعكاساته العملية.

حكومة عهد الرئيس الحلو الثانية… غلاء الأسعار سببه الإقتصاد الحر؟[2]

تطرّقت الحكومة في 8 نيسان 1965 إلى غلاء المعيشة في جلسة مساءلة في مجلس النواب. ربط وزير الإقتصاد بهيج تقي الدين الغلاء بالحرية الاقتصادية التي تحدّ من تدخّل الدولة في قضية الأسعار. ودار النقاش بين من عارض الوزير، مثل النائب ألبير مخيبر الذي اعتبر أنّ التعرفة على المواد الغذائية والأولية هي في متناول الوزير إذا ما أراد تطبيقها، ومن وافقه مثل النائب جوزف مغبغب على اعتبار أنّ “موجة الغلاء ليست بنت ساعتها”. ومن جهته، شرح النائب كمال جنبلاط بأنّ النظام الاقتصادي الحرّ “بسبب إطلاق الحرية وفوضويتها” هو المسؤول عن غلاء الأسعار في حقلَي الإنتاج والإستهلاك، وربط ذلك بمشكلة الإحتكار داعياً إلى اعتماد التوجيه الاقتصادي لمجابهة المشكلة. وفيما وجد بعض النواب في هذا المطلب تهجّماً على الحرية الاقتصادية، قال مغبغب بأن هذه الحرية الاقتصادية “التي ارتضيناها نظاماً” ليست غاية بحد ذاتها، وهي “ليست إلّا نظرية لم تكن يوماً موضع التطبيق”. في المقابل، شدّد جوزف شادر على أنّ النظام الاقتصادي الحرّ أعطى أفضل النتائج، بدليل “أننا ضاعفنا بمدة لا تزيد على العشر سنوات دخلنا القومي”. ومثله منير أبو فاضل الذي سرد أرقاماً حول ارتفاع حجم الودائع معتبراً أنّ لبنان يعيش في نعمة.

رأسمالية لبنان… رأسمالية مصارف وكارتيلات

أجرى الأب اليسوعي أندريه لاجانسيل بحثاً[3]، نشر عام 1966 في مجلة “الرسالة المخلصية”، طرح خلاله وجهة نظر الكنيسة حول النظام الرأسمالي القائم في لبنان، معتبراً أنّ هناك نوعاً من الرأسمالية “حائلاً دون تنمية منسجمة للاقتصاد اللبناني” وآخر “يعي مطاليب الحياة الوطنية الجوهرية”. تحدث لاجانسيل عن رأسمالية قائمة على الاحتكارات وبخاصة احتكار المشاريع الكبرى. وقد رأى أنّ هذه الاحتكارات أدّت إلى تكديس الأموال في نهاية القرن التاسع عشر في يد قلّة من الأفراد، و”أصبحت ’الترسنات والكرتيل’ التي نشأت، سيدة الأسواق الكبرى، فحددت أسعار المبيع والأجور وأقامت نوعاً من الدكتاتورية الإقتصادية”. ورأى لاجانسيل أنّ الرأسمالية اللبنانية هي ذات طابع مزدوج: رأسمالية المال، ورأسمالية الممتلكات الثابتة (الأرض). والأخيرة تصبغ الرأسمالية اللبنانية بنوع من الإقطاعية. ثم أعطى إحصاءات بيّن من خلالها سوء توزيع الثروة الوطنية، حيث “يستأثر 4% من مجموع الشعب بـ 32% من الدخل القومي. وإذا أضفنا إلى هذه الطبقة الغنية، الطبقة المرحرحة (14% من الشعب) أصبحتا تشكلان 18% من مجموع الشعب وتستأثران بـ 60% من الدخل القومي…”.

كما كتب محمد كشلي في “الأنباء” مقالةً وصف فيها رأس المال في لبنان بأنّه يتميّز “بطابع الجشع والتفتيش عن الأرباح العالية والسريعة وهو أناني جداً وفردي لا يقبل التنازلات، ولا القيود التي تحدّ من أرباحه، ويرفض تدخّل الدولة”. كما وصفه أنه قصير النظر لا يهمّه المستقبل ويرفض التخطيط حتى من أجل مصلحة الرأسماليين الجماعية نفسها. فهو “لا يرى إلّا أرباحه الحالية ومن بعدي الطوفان”. ورأى كشلي أنّ هذا يختلف عن طبيعة الرأسمالية الصناعية، إذ عرف النظام الرأسمالي بعد الأزمة الإقتصادية عام 1921، ظهور الرأسمالية الجديدة “التي تقبل بتدخّل الدولة وبتحقيق الضمانات الإجتماعية إنقاذاً للنظام الرأسمالي نفسه”. وخلص إلى أن سياسة التخطيط والإنماء وتدخّل الدولة الجزئي هما من طبيعة الرأسمالية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا. أما “الرأسمالية المالية والتجارية ذات الطابع الفردي والفوضوي التي عرفها لبنان، فهي غير قادرة موضوعياً على تطوّر من هذا النوع”[4].

وحول مزايا النظام المالي اللبناني، لفت بحث الأب لاجانسيل إلى أنّ “التضخّم في القطاع المالي والخدمات هو واقع لبناني محض، لا وجود له على ذات المستوى، في أي بلد من العالم”. وأوضح أنّ الأكثرية الساحقة من البضائع التي تستهلك في السوق مستوردة، بالتالي لا تُدخِل غنىً على البلد “بل تخلق عجزاً خطيراً في الميزان التجاري”. وتابع أنّ “طابع الرأسمالية اللبنانية التجاري، حمل المسؤولين عن الإقتصاد على إفساح مجال رحب لتجارة المال”. وشرح لاجانسيل أنّ ضرورة المحافظة على فيض دائم من الإستيراد لتأمين نهج الحياة اللبنانية، استدعت وجوداً دائماً لرساميل ضخمة، ما يفسّر نموّ القطاع المصرفي المتزايد. وفي الواقع، يستمد المصرف الرساميل من الخارج ويدفع فائدة عنها، ومن جهة ثانية يعتمد الرساميل اللبنانية المتوفّرة فيدعم مركز الرأسماليين اللبنانيين الكبار، إذ ليس بين الرساميل المدّخرة إلا جزء ضئيل من الوفر الصغير الذي يدلّ ضعفه، دلالة لا لبس فيها، على سوء توزيع الثروة. ويشير لاجانسيل إلى وجود حالة ثقة في “مهارة أرباب المال اللبنانيين”، لكن حين تنشأ أزمة ثقة “تجفّ نبعة المال في لبنان ويجد الإقتصاد ذاته في مأزق خطير”.

وبطبيعة الحال، كان لأصحاب المصارف رأي مختلف. فقد اعتبر رئيس مجلس إدارة البنك اللبناني للتجارة إيليا أبو جودة أنّ رأس المال اليوم هو لمن يتداولونه، وأنّ أصحابه يملكونه بالإسم. فرأس المال بالنسبة لأبو جودة “أداة مرنة تروح وتجيء” وتعمل لخير الجميع. وقال أبو جودة إنّ المال الجيّد هو الذي لم يصبح كالماء الآسن، وهو الوسيلة التي يعبّر بها الإنسان “عن مجهود، عن ذكاء، عن عرق جبين”. ثم قال إنّ “بلد(اً) كان له فضل اختراع الرأسمالية” (يقصد لبنان) لا يعرف الإحتكار. إنما يعيش (..) في ظل الرأسمالية “الطليقة على الهواء”، وهي برأيه “أكمل مذهب إقتصادي”[5].

في المقابل، لفت القيادي اليساري محسن ابراهيم، في خطاب في ذكرى عيد العمال، إلى أنّ قطاع التجارة والخدمات والمصارف والعقارات يشكّل ثلثي الإنتاج الوطني، وأننا بذلك لا نكون أمام اقتصاد مزدهر “بل أمام تركيب هوائي مصطنع يفتقد قاعدة الإنتاج الحقيقية”. ثم شرح أن تركيب الإقتصاد اللبناني في ظل النظام الحر يستمد وجوده من “ظروف استثنائية وافدة إليه من الخارج وعمليات اقتصادية غير طبيعية يمارسها في الداخل”. ويصبح اقتصادنا مرشحاً للإنهيار أمام أول أزمة يتعرض لها لبنان أو المنطقة العربية. وخلص ابراهيم إلى أنّ هذا النظام الإقتصادي الحرّ “بدأ على امتداد السنوات السابقة بفرز سلسلة نتائج اجتماعية سوف تعصف بخرافة السلام الإجتماعي التي يحلو لفلاسفة النظام الحر عندنا الركون إليها والخدر بأحلامها اللذيذة”[6].

إفلاس الإقتصاد “الحر”… حكومة العهد الرابعة نحو إقتصاد “مختلط”

في بداية عام 1966، رأى رئيس الحكومة رشيد كرامي خلال جلسة مناقشة الموازنة العامة أنّ “الدولة عمدت منذ سنة 1961 إلى نهج سياسة إقتصادية مالية تتناسب مع سياسة العصر الذي تعيشه، أي توفير حاجة البلاد من الكهرباء والمياه والطرقات”. وتحدث كرامي عن المشاريع التي تحملت الموازنة أعباءها ليخلص إلى أنّه قد نتج عن ذلك استنفاذ الإحتياط. واعتبر البعض أنّ ما قاله كرامي هو بمثابة إعتراف رسمي بإفلاس دولة الإقتصاد الحر[7]. لم تدم الحكومة الثالثة في عهد الحلو طويلاً، وتم تكليف عبد الله اليافي بتشكيل حكومة جديدة ضمّت وزراء من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فتولّى فيها كمال جنبلاط وزارة العدل، كما تولّى بيار الجميّل وزارة الداخلية.

تطرّقت الحكومة الجديدة في بيانها الوزاري[8]، في 27 نيسان 1966، إلى مسألة النمو الاقتصادي والعدالة الإجتماعية. وهو ما يتحقق وفق البيان “من خلال مساعدة الزراعة والصناعة والسياحة على النهوض”. ورأى النائب مانويل يونس أنّ الإقتداء بما يقوله العلم هو الأساس الوحيد الذي يصلح لمعالجة المشاكل، فيما لخّص النائب بهيج تقي الدين النقاش الدائر بقوله “هذا البيان يحدد الاقتصاد الحر الذي نعيش فيه منذ سنين عديدة بأنه تشجيع المبادرة الفردية ضمن وجود دولة رقيبة على أن لا تكون هذه المبادرة الفردية سبيلاً إلى الجشع والاحتكار، هذا الذي يقول به كمال جنبلاط، يقول به بيار الجميّل ويكرّره في كل يوم. لذلك، لماذا نتمسك بالألفاظ؟”.

وكان النائب صائب سلام قد طرح فكرة الاقتصاد المختلط، وقال في الجلسة إنّ هناك مصلحة بالوصول إلى هكذا إقتصاد. لكن النقاش في الشق الإقتصادي من البيان الوزاري تحوّل خلافاً بين من يساند الفكر الإشتراكي ومن يخالفه. فمثلاً، في سياق نقده للإشتراكية، شكك النائب محمود عمار بأن يتحقق البيان وما حواه من وعود على يدي جنبلاط الذي ينادي “بتأميم مجهود الفرد اللبناني وإذابة شخصيته المميزة في اشتراكية تستهدف القضاء على كل هذه المقومات التي يرتكز عليها ازدهار لبنان واستقراره وطمأنينته”. ودافع أنور الخطيب عن الفكر الإشتراكي، وطرح منطقاً توفيقياً. وفيما كمن اعتراض بعض النواب حول كيفية المواءمة بين توجّهين إقتصاديين حرّ وموجه، رأى الخطيب أنّ الحكومة بسبب هذا الإئتلاف بين اليمين واليسار قد أخذت من اتجاهَي الإقتصاد الحر والإقتصاد الموجّه وقد تبنّت الاقتصاد المختلط. واستنتج أنّ “بعض الناس يخافون من التعابير أكثر مما يخافون من أساس الموضوع”.

نظرياً الجميع ضد الرأسمالية الإحتكاريّة

في تموز 1966، تطرّقت مقالة في “جريدة النهار” إلى أزمة عنيفة بين كبار المسؤولين وجهات نافذة – على حدّ تعبيرهم – مفادها أنّ المسؤولين أرادوا وضع قواعد ومبادئ جديدة مستوحاة من النظام الإقتصادي الحر، بالتالي هم يرفضون إعتماد الدراسات التي وضعت بين 1959 و1963 – منها دراسة بعثة إيرفد – على اعتبار أنّ “هذه الدراسات مبنيّة على التوجيه وتدخّل الدولة في شؤون القطاع الخاص”. وبعدما هددت جهات نافذة بمعركة مكشوفة ضد كل من يسعى إلى استبعاد الدراسات، ردّ كبار المسؤولين أنّ هناك نتائج خطيرة ستترتب فور التخلّي عن الإقتصاد الحر، وأنّ “هناك مسائل تطرّقت إليها الدراسات الموضوعة ومنها دراسة بعثة “إيرفد” يمكن أن تصلح للإستعانة بها” ولكن بدون أن تعتمد أساساً للمعالجة الشاملة[9].

بعد أيام قليلة، ورد في “النهار” أيضاً أنّ مجلس الوزراء يتابع درس التوصيات الواردة في برنامج العمل الإقتصادي والإجتماعي الذي وُضع استناداً إلى تقرير البعثة، وكذلك درس توصيات أحد الخبراء الأميركيين[10].  وكانوا يمهدون حينذاك لاتخاذ قرارات نهائية بشأنها. وكان أهم ما تضمنته التوصيات هو كيفية حماية الصناعات ومحاربة الإحتكارات والإنتقال نحو الإقتصاد المختلط. لكن رغم الإجماع الظاهر على إقتصاد حر يحفظ المبادرة الفردية ويقوم في الوقت ذاته على محاربة الجشع والاحتكار، لم يتحوّل ما اتفق عليه نظرياً إلى حقيقة واقعة. ولم يجر لاحقاً تطبيق البرامج الإنمائية المقترحة.

نيوليبراليون قبل النيوليبرالية؟

يرتبط كل نظام برواية ميثولوجية تضفي عليه شرعية ما. بهذا الخصوص يشدّد وزير المالية اليوناني السابق يانس فاروفاكيس في ندوة بإحدى جامعات تركيا، على أنّه لا يوجد أي إرتباط بين الرواية الميثولوجية والواقع[11]. وإذا ما أسقطنا هذا الفهم على الإقتصاد اللبناني نجد حتى أنّ هناك دعوة إلى ليبرالية وادعاء أننا نعيش في نظام ليبرالي بدون الأخذ الفعلي بمضمون الرواية الليبرالية. فالخطاب المحافظ المدافع عن ركائن النظام الإقتصادي يبدو أقرب بمضمونه إلى النيوليبرالية. ربما من هنا أتت تسمية “الإكسترا ليبرالية” من قبل النائب ميشال فرحات[12] حين قال في إحدى الجلسات البرلمانية “تخطت الإكسترا ليبرالية حدود الأصول المصرفية وتجاوزت العرف والنظام في الاقتصاد الحر”، وتحدث عن امتيازات تنعم بها قلّة من المواطنين، ومنها “50 عائلة ما بعد الحرب” (في إشارة إلى الحرب العالمية الثانية) وقامت إقطاعيّتان جديدتان “إقطاعية المال وإقطاعية بعض الموظفين”.

الرواية التي سردها آدم سميث وفقاً لفاروفاكيس، عن الليبرالية الكلاسيكية المشرّعة للنظام القائم الرأسمالي، مفادها أنّه “نعم لا أحد يحب الرأسمالية، ولا أحد يحب الرأسماليين الذين يهتمون بذواتهم فقط”، لكن إذا ما كان لديك سوق، وهذه السوق تنافسية، سيتكوّن في النهاية مجتمع فيه أفضل السلع بأبخس الأثمان. غير أنّ “الرأسمالية المنافسة” التي يرجع إليها آدم سميث ماتت ما بين 1870 و1880، ثمّ عبرنا نحو الثورة الصناعية الثانية على إثر إبتكار نظام التلغراف، والهاتف، ولاحقاً الكهرباء… وقامت على إثرها الشركات الإحتكارية الضخمة (mega-corporations) التي ألغت التنافسية، وباتت هي حتى تمتلك السوق – فيسبوك مثلاً هي شركة، ولكنها أيضاً سوق يمكن التبضع إلكترونياً في فضائه.

أما الرواية الميثولوجية النيوليبرالية فارتبطت بحسب فاروفاكيس بسياسات كل من رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر والرئيس الأميركي السابق رونالد ريغن، وهي تختلف جذرياً عن ميثولوجيا آدم سميث. خلال السبعينيّات لم تعد السوق تظهر على أنها أداة مفيدة، حيث تحولّت السوق من أداة إلى غاية. للتوضيح أكثر، يستشهد فاروفاكيس بمقابلة لتاتشر مع مجلة نسائية تدعى “women’s own“، قالت فيها[13] إنّه “لا يوجد هذا الشيء الذي يدعى مجتمع”، وما عنته وفقاً لفاروفاكيس هو أنه من المستحيل تحقيق ما يريده مجتمع ما. “أنا أعلم ما أريد وأنت تعلم ما تريد، لكن ما نريده كلّنا – هذا الكل – لا يمكن جمعه، إذاً فالمصلحة العامة لا وجود لها”. عليه، فإنّ السوق ليست أداة لخدمة المصلحة العامة طالما أنّ المصلحة العامة غير موجودة. تلك هي الرواية الميثولوجية النيوليبرالية.

إذا ما أخذنا بقول رئيس مجلس إدارة البنك اللبناني للتجارة إيليا أبو جودة بأنّ “الرأسمال هو أداة مرنة تروح وتجيء وتعمل لخير الجميع”، سنجد في الرواية الميثولوجية المشرعنة للنظام الإقتصادي في لبنان الستينيّات جوانب من أفكار آدم سميث. لكن إذا ما نظرنا إلى الصفات المرافقة للرأسمالية اللبنانية التي أتينا على ذكرها: “إحتكارية”، “أنانية جداً”، “تقوم على الربح السريع وتكديس المال وتداوله” سنجد أيضاً ما يشابه مزايا تدعو إليها الأيديولوجيا النيوليبرالية. في الواقع، يشرح فاروفاكيس كيف أنّ الأيديولوجيا النيوليبرالية كانت ردّة فعل على واقع إقتصادي عالمي قد تبدّل. فبعدما كانت الولايات المتحدة تصدر فوائضها المالية إلى أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية حتى بداية السبعينيّات، أصبح الأمر معاكساً بعد ذلك، وباتت الولايات المتحدة تمتصّ الفوائض المالية لتغطية العجوزات، وتذهب الأموال إلى السوق المالية في وول ستريت. ولم تعد الرأسمالية ذاتها التي تقبل بتدخّل الدولة وبتحقيق الضمانات الإجتماعية وتمارس سياسات التخطيط والإنماء، وحلّت مكانها الرأسمالية المغامرة القائمة على أهرام “التمويل” financing، أي مبدأ ربح المال من المال من خلال معادلات حسابية وما إلى ذلك.

يتأكد حضور أفكار النيولبرالية في لبنان لاحقاً في عام 1971، من خلال مقابلة أجرتها “جريدة النهار” مع نائب رئيس حزب الكتائب جوزف شادر قال فيها: “ندين بنظام الإقتصاد الحر المنظّم، أي بما يسمّونه اليوم النيوليبرالية”[14]، وردد خلال المقابلة الأخلاقيّات ذاتها التي تنتهجها النيولبرالية، أي فكرة حب المغامرة وما يحفزه شعور الربح في نفس الإنسان بما يرضي غرائزه، وأنّ الإنسان بطبعه فرديّ أناني إلخ.. لكن بأي حال رغم أوجه الشبه بين العقيدتين، النيوليبرالية والإكسترا ليبرالية اللبنانية، إلّا أنّهما لا يشيران إلى الأمر ذاته، فالنيوليبرالية أيديولوجيا عالمية، أما “الإكسترا ليبرالية” فحصرية، وترتبط الأولى بمصالح المصارف والشركات الضخمة أما الثانية فترتبط حصراً بمصالح أصحاب المصارف والإحتكارات اللبنانية. كما أنّ ليبراليتنا الإكسترا ترتبط بمجموعة من الأفكار تمتدح اللبناني المنتشر والمغامر، رائد الأعمال الذي يجول الأرض، والذي هو “ناجحٌ بطبعه”. وتسعى هذه الميثولوجيا إلى ترسيخ سرديات عن الحاضر ولكن الماضي أيضاً، حول الفينيقي البحار والتاجر بطبعه، والذي اخترع الحرف، بصرف النظر عن مدى تطابق هذه الروايات التاريخية مع ما تقوله العلوم أو التاريخ حقيقة.

في النهاية، وفي كل مرة يصاب النظام بأزمة، يتعطّل تأثير الرواية المشرعنة له، ونصبح بالتالي أمام واحدة من ثلاث حالات: إما إعادة إنتاج الروايات وإما استبدالها بروايات أخرى، أو تجاوز كل السرديّات الأيديولوجية، وهذا الخيار الثالث هو الوحيد الذي يمكّننا من مجابهة الواقع الفعلي كما هو، بخاصة حين يكون المجتمع على حافة الإنهيار.

  • نشر هذا المقال في العدد | 64 | نيسان 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

قبح النظام في مرآة المصارف


[1]  خلال مناقشة البيان الوزاري لجكومة العهد الخامسة برئاسة رشيد كرامة، في 20 كانون الأول 1966.

[2]  من مناقشات مجلس النواب: الدور التشريعي الحادي عشر – العقد العادي الأول 1965 – محضر الجلسة الخامسة المنعقدة في الساعة السادسة من بعد ظهر يوم الخميس الواقع في الثامن من نيسان 1965.

[3]  الرأسمالييون المحتكرون أخطر من المجرمين محترفي القتل، جريدة الأنباء، 30 نيسان 1966.

[4]  محمد كشلي، بين الحرية الإقتصادية المطلقة وسياسة الإنماء، جريدة الأنباء، 9 تموز 1966.

[5] إيليا أبو جودة يتحدث عن الرأسمالية وفوائدها، جريدة الحياة، 11 شباط 1966.

[6] محسن ابراهيم: نحن أمام أزمة إقتصادية لا مرد لها، جريدة الأنباء، 7 أيار 1966.

[7] دولة الإقتصاد الحر تعلن إفلاسها، جريدة الأنباء، 15 كانون الثاني 1966.

[8]  من مناقشات المجلس النيابي. الدور التشريعي الحادي عشر – العقد العادي الأول 1966 – محضر الجلسة الثالثة المنعقدة في الساعة الخامسة والنصف من بعد ظهر يوم الأربعاء الواقع في السابع والعشرين من نيسان 1966.

[9]  الدولة تريد اعتماد مبادئ لسياستها مستوحاة من النظام الحر، جريدة النهار، 23 تموز 1966.

[10]  توصيات كالدروود التي تؤدي بنا إلى نظام الإقتصاد المختلط، جريدة النهار، 7 آب 1966.

[11] 15 كانون الأول 2019،  تحدّث فاروفاكيس، في جامعة قادر هاس في إسطنبول ، تركيا. تطرق في حديثه إلى ما بعد الرأسمالية، والصفقة الخضراء الجديدة، ومستقبل الديمقراطية في أوروبا وخارجها.
https://bit.ly/2SmGIWN

[12] خلال مناقشة البيان الوزاري لحكومة العهد الخامسة برئاسة رشيد كرامي، في 20 كانون الأول 1966.

[13] رداً على سؤال لصحافية، التي سألتها: “سيدة تاتشر لقد أسفرت سياساتك عن 4 مليون عاطل عن العامل وعن تدمير لعدة أوساط مجتمعية، من المؤكد أن هذا لا يمكن أن يكون جيداً للمجتمع؟!”.

[14]  الكتائب والفكر الإقتصادي، شادر: ندين بالإقتصاد الحر المنظّم ونتمسّك بعد الإختبار الطويل بالنيوليبرالية، ملحق النهار الإقتصادي والمالي، 1 آب 1971.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني