
غطّت شهرة محمد مزالي (1925- 2010)، الوزير الأول في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة والمعارض لاحقاً، على محمد صالح مزالي (1896-1984)، الذي شغل المنصب نفسه، لكن في العهد المَلكَي قبل الاستقلال بين 1953 و1954، وتوفي عام 1984 عندما كان مزالي الثاني حاكماً. لكن جزء من جهل أجيال ما بعد الاستقلال بمزالي الأوّل يعود إلى المصير المأساوي الذي انتهى إليه، فقد أُدين بتهمة التعاون وإحباط مقاومة المحتل ليلوذ بصمتٍ طويلٍ، باستثناء نشره دراساتٍ تاريخية خلال الستينات ونشر مذكراته عام 1972. ورغم معرفتي السطحية بهذه الشخصية، التي ترد عرضاً في أحداث انقلاب مارس 1952، الذي نفذه المقيم العام الفرنسي بالتعاون مع القصر ضد حكومة محمد شنيق الثانية، حيث كان مزالي من بين الوزراء الذين اختُطِفوا ورُحِّلوا إلى محتشدات الصحراء جنوباً.
إلا أن الكتاب الذي صدر أخيراً عن مركز البحوث حول المغرب المعاصر، “تونس من المخزن إلى الدولة الوطنية: في ضوء مسيرة محمد صالح مزالي”[1] (بالفرنسية تحت إشراف إلياس الجويني، 348 صفحة)، يُعيد بناء صورة هذه الشخصية، ومن خلالها يُقدّم استكشافًا رصيناً لتاريخ تونس خلال فترة انتقالية حاسمة، انتقلت فيها البلاد من نظام المخزن التقليدي إلى الدولة الوطنية الحديثة. وهو حصيلة مؤتمر متعدّد التخصصات نظّمه قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية في الأكاديمية التونسية للعلوم والآداب والفنون بين 14 و15 ديسمبر 2023 حول تاريخ تونس خلال النصف الأول من القرن العشرين، من خلال محمد صالح مزالي وعائلته، بوصفه يمثّل حالة انتقالية من نظام يعتمد على المكانة نحو نظام جديد للجدارة يعتمد على الفرد نفسه. وهو تجسيد لتحوّلات طالت قطاعاً من النخب المخزنية. وقد تزامن ذلك مع إعادة نشر مذكرات مزالي تحت إشراف إلياس الجويني، الأستاذ في جامعة باريس دوفين وبتقديم من أستاذة التاريخ بجامعة منوبة، قمر بن دَانة. والتي تبدو كاعترافاتٍ متأخرةٍ لرجل لا ينقصه الذكاء ولا الثقافة، ولكنه يفشل في قراءة اللحظة التاريخية عند مستدار الحرب العالمية الثانية. شأنه في ذلك شأن قطاعٍ من النخبة جَرفهَا تيار إنهاء الاستعمار، منتصف الخمسينات. ذلك أن القطيعة التي أحدثها ذلك الإنهاء لم تكن مجرد انتقالٍ من حالة التبعية إلى السيادة، بل إعادة تشكيلٍ للدولة والمجتمع تم فيها القضاء على طبقاتٍ وتشكيلاتٍ بلا هوادة.
من المخزن إلى الاستقلال
وُلِدَ محمد صالح مزالي في عائلة ذات تقاليد مخزنية بالمنستير. فقد اشتغل أجداده وأعمامه ووالده في مؤسسات “البايليك” المدنية والعسكرية ولاسيما في القضاء. كما شكّلت الزيجات داخل العائلات المخزنية -مثل نويرة والسقا وغيرهما- تعبيراً واضحاً على دور مؤسسة الزواج في تعميق الروابط داخل المخزن، بوصفه تحالفاً واسعاً بين القصر والبيروقراطية والطبقة الاجتماعية الأرستقراطية. وقد تجاوزت الزيجات داخل العائلة إطار المنستير الضيق، لتؤسس لتحالف بين عائلات المخزن الحضري (مخزن الديوان) وعائلة المخزن القبلية (مخزن السيبة)، وهذا الطابع من العلاقات الاجتماعية كان سائداً في صفوف الطبقة الحاكمة في عصر البايليك ليُوفّر رافداً لمحلة الباي، وكذلك استفادةً مادية للعائلات المرتبطة به. وحتى بعد احتلال البلاد، واصلَت التحالفات القائمة على الزيجات لعب دور أساسي في المحافظة على النفوذ والثروة. فقد سهّلَ شكل الاحتلال القائم على ازدواجية السلطة في نطاق ‘الحماية” بين السلطة الفرنسية وسلطة الباي على رسوخ النخب المخزنية. وتشير فاطمة شلفوح، في مساهمتها ضمن الكتاب تحت عنوان “كبار موظفي الإدارة التونسية والتحالفات الزوجية: النهوض والانحسار”، إلى أن الزواج لعبَ دورًا مهمًا في الحياة الإدارية خلال الفترة الاستعمارية، حيث عَزَّزَ الروابط الاجتماعية وسمح لموظفي الخدمة المدنية بالوصول إلى المناصب العليا. حيث أثرت الإستراتيجية الإدارية الاستعمارية أيضًا على الأنواع المختلفة للتحالفات الزوجية وفضّلت تكوين “عائلة كبيرة” في الإدارة. على الرغم من عملية التوظيف كان تتطلب الحصول على تدريب مناسب ومهارات محددة واستيفاء معايير مهنية معينة، إلا أنه تم استخدام ممارسات استثنائية على نطاق واسع خلال فترة الاستعمار.
رغم وضعه العائلي المؤثر في مساره لاحقاً، إلا أن مزالي وُلدَ ونَضُجَ في سياقٍ جديدٍ، لم تعُد فيه الروابط الاجتماعية والمكانة كافية لوحدها في تصعيد الأفراد إلى مواقع عليا في الدولة. وأصبح التعليم الحديث ضرورياً ليكون هذا الفرد فاعلاً في بيروقراطية الدّولة ذات الطابع المزدوج بين نظام استعماري حديث ونظام ملكي تقليدي. كما تشير قمر بن دانة في مقدمة مذكراته، يُعبّر مسار مزالي الدراسي عن تحولٍ كبير في المجتمع التونسي مطالع القرن العشرين، أساسه الكسوف البطيء لحصريّة المنهج الزيتوني في تدريب الفاعلين في الإدارة السياسية. فقد تخرّج محمد صالح مزالي من الكلية الصادقية عام 1913 وحاز على البكالوريا الفرنسية عام 1914، وتم تعيينه في الإدارة عام 1916. وقد كان أوّل تونسي يُقدم رسالة دكتوراه في الاقتصاد السياسي (تطور تونس الاقتصادي – جامعة ليون 1921). وفي الوقت نفسه كان مدرساً لأكثر من عشرين سنة في الكلية الصادقية والزيتونة (قسم التوثيق) والمدرسة العليا للتجارة.
حافظ مزالي على مسارٍ إداري مستقر. فقد عمل في وزارة العدل وقيادة بنزرت والأرشيف العام، وتولّى مناصب وزارية في الأوقاف والتجارة والحرف والصناعة، وصولاً إلى حكومة محمد شنيق الثانية، وهي أوّل حكومة تونسية تفاوضَت مع فرنسا على شروط التحول إلى الحكم الذاتي. ويعتبر محمد صالح مزالي الوزير الوحيد الذي احتفظ بمَنصبه من حكومة مصطفى الكعاك المتخلية. لكن ذلك لم يمنع من تعرّضه للاعتقال عندما سقطت الحكومة على يد المقيم العام الجديد، جان دو هوتكلوك، الذي وصل تونس في 13 جانفي 1952 على متن البارجة الحربية لو ميركيور، وهدفه الأساسي قمع التحركات التي شرَعَت فيها الحركة الوطنية بعد فشل وفد الحكومة في التوصل إلى نتائج مع فرنسا في ديسمبر 1951. شَرعَ المقيم العام في مارس 1952 بمخاطبة الباي لدفعه نحو إقالة الحكومة، لكن الأمين باي رفض تلك المطالب. ليتوجه دو هوتكلوك إلى تنفيذ انقلاب ليلة 25 مارس، بعد لقاء متوتّر مع الباي، فألقى القبض على محمد شنيق، ووزرائه، محمود الماطري، ومحمد صالح مزالي، ومحمد بن سالم، وتم ترحيلهم إلى قبلّي (جنوب تونس). بعد حرمانه من كل الدعم استسلم الباي ووقَّعَ مرسوم تعيين صلاح الدين البكوش وزيراً أكبر. ورغم مكوثه حوالي العام في المعتقل الصحراوي، إلا أن رؤية مزالي للاستعمار لم تتغير. فبعد أن أطلق سراحه اختارَته السلطات الاستعمارية لتشكيل الحكومة الجديدة في فيفري 1954، التي لم تعمّر أكثر من مائة يوم، بسبب تصاعد كفاح الحركة الوطنية المدني والمسلح، وضعف شرعية الباي وبروز ملامح نهايات الاستعمار محلياً ودولياً. فقد غمرت تونس أنباء استسلام القوات الفرنسية في ديان بيان فو في ماي 1954، وكانت الصورة الموزّعة على نطاق واسع للقائد دي كاستريس وذراعيه مرفوعتين في مخبئه ومحتجزًا تحت تهديد السلاح من قبل ثلاثة مقاتلين فيتناميين شبان نذيراً بنهاية حقبة وبداية أخرى. لكن مع ذلك حافظ مزالي -رغم اتساع ثقافته وذكائه- على حماسٍ غير مفهوم للترابط بين البايليك و”الدولة الحَاميَة”.
المثقف المخزني
في مساهمته تحت عنوان “حلقة معقدة” يقدم الديبلوماسي السابق، أحمد ونيس تحليلاً فريداً لشخصية و دور محمد صلاح مزالي، لاسيما في عقد الخمسينات. بالإشارة إلى أن مزالي لم يكن يفهم في السياسة، فهو ذلك الفرد الذكي المثقف المجتهد المعترف بدوره البيروقراطي والمكتفي به، “يهيمن عليه تصوير لنفسه على أنه الطالب الجيد، المستحق، الحاصل على تقدير جيد، والتقدير من قبل معلمه… السيد هو صاحب السلطة العليا، سواء كان الأب أو الأستاذ أو المقيم العام أو الباي. عندما يقرر بناءً على المنصب الذي يشغله – معلم، رئيس أو وزير – فهو بالرجوع إلى التسلسل الهرمي. ولا يتحمل أي واجب آخر. في نظره، فهو يدين بترقيته المشروعة لعمله ولحماسته في التنفيذ المثالي للمهمة الموكلة إليه. واجبه التفاني والاستقامة والوفاء الخالي من الشبهات. ويعمم ونيس هذا التحليل على شريحة النخبة المخزنية التي وجدت في مكانتها العائلية وحداثة تكوينها فرصةً للرسوخ في نظام الهيمنة الاستعماري المزدوج. ذلك أن الكفاءة المقترنة بالطاعة يتم تقديرها من قبل أي نظام مهيمن. لذلك عزز نظام “الحماية” هذه الصورة مما جعل من حسن حظ النخب المخزنية، أعلى مكانة في نظر التونسيين في ذلك العصر. ومن دون أن يكون العميل المعلن المؤيد لفرنسا – والذي يقاتله الوطنيون مثل الخائن – فهو يتمتع بمظهر مرن، ومراوغ، مما يشكل مشكلة للوطنيين لأنهم، في بعض الأحيان، يستغلونه.
ومن منطلق موقعه المتفاني في الخدمة، يبدو واضحاً أن مزالي لا يشعر بأي مسؤولية -وفقاً لمذكراته- ولا أي شعورٍ بالذنب، بل ويدّعي أنه جعل نظام “المحمية” يتطور ليقترب من عتبة الاستقلال الداخلي. بعد الاستقلال أُلقيَ القبض على أعضاء حكومتي صلاح الدين البكوش ومحمد صالح مزالي وحُوكِموا أمام المحكمة العليا، وأدِينوا بتهمة التعاون مع الاستعمار، وصُودِرَت ممتلكاتهم. وبعد سبعة عشر شهرًا (من 24 جوان 1958 إلى 12 نوفمبر 1959)، تم إطلاق سراحهم بشروط، ثم تم العفو عنهم أخيرًا في 10 جوان 1966. وتُوفّي ثلاثة منهم أثناء الاعتقال: محمد دنغزلي، الطيب بلخيرية ومحمد سعد الله. ويشير أحمد ونيس إلى أن مزالي كان دائم الحرص على تمجيد روابطه المستمرة مع الرئيس الحبيب بورقيبة. وهو يَحرص على ألا يَنسب إليه سن القوانين التي تجرمه أو المضايقات التي تعرض لها منذ عام 1957. مصراً على “عظمة روحه”، ويستحضر الروابط التي لم تنقطع معه، لا قبل ولا بعد الاتهامات والإدانة والمحاكمات المتعاقبة. وربما هذا يؤكد طبيعته الشخصية والاجتماعية في التفاني لخدمة أي سلطة قائمة بغض النظر عن طبيعتها. وبعد العفو الذي استفاد منه، استقبله الرئيس بورقيبة بقصر قرطاج برفقة زوجته.
الجانب الثاني من شخصية مزالي هو شَغفه بالثقافة، باللسانين العربي والفرنسي. فضلاً عن كونه سائح استثنائي، فبين عامي 1914 و1957 زارَ المدن الرئيسية في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية والعالم العربي. وقد دفعته البيئة المخزنية التي وُلِدَ وعاش فيها، إلى أن يكون غير قصووي، فأسعفته للتعرف على الأماكن والأشخاص والأفكار بلا حواجز. وقد ألَّفَ عدد من الكتب التاريخية، حيث ساعده عمله في الإدارة في الوصول إلى الوثائق. منها وثائق تونسية، من رسائل ابن أبي الضياف، وأحوال تونس قبيل الاحتلال من خلال رسائل كونتي لخير الدين، وبايات تونس وملك الفرنسيين، وخير الدين، رجل الدولة: وثائق تاريخية محققة. فضلاً عن أعمالٍ لم تنشر وكشف عنها كتاب “من المخزن إلى الدولة الوطنية” مثل نص “سر القبرّ”، وهو بمثابة تحقيق استقصائي أجراه مزالي من أجل تحديد موقع قبر جدة المعز بن باديس.
ومن الجوانب التي يُحللها مؤلف “من المخزن إلى الدولة الوطنية” عن مزالي هي مزاعم انتمائه للماسونية. فعندما كان قائداً لعمالة بنزرت تم إقالته نهاية عام 1941، في ظل نظام فيشي، للاشتباه في انتمائه إلى الماسونية. وتبحث مساهمة المؤرخ محمد لطفي الشايبي، ضمن الكتاب في هذه المسألة. نقلاً عن “معجم الماسونيين العرب والمسلمين” لجان مارك عرقتنجي يشير الشايبي إلى أن هذا الانتساب حدث في الأعوام 1927-1928، وأن مزالي في عام 1931 كان ينتمي إلى محفل “نجمة قرطاج” التابع لمحفل الشرق الكبير في فرنسا، وأصبح فيما بعد من كبار الشخصيات فيه. ويعتقد الشايبي أن هذا الانتماء قد جرى في سياق استعماري وماسوني قوي، سواء في العاصمة أو في عموم البلاد. فمن ناحية، يتميز هذا السياق بقمع الحركة النقابية الوطنية المستقلة (حل جامعة عموم العملة التونسيين؛ الحكم على محمد علي وجان بول فينيدوري بالنفي في نوفمبر 1925) وبإصدار المراسيم “الشريرة” (20 جانفي 1926) التي تكمم الصحافة الوطنية والشيوعية. ومن ناحية أخرى، يتزامن مع الاستعدادات المحمومة للذكرى الخمسين للحماية في تونس (1931)، والذكرى المئوية لاستعمار الجزائر (1930)، وانعقاد مؤتمر قرطاج الأفخارستي الفخم والاستفزازي (ماي 1930). وقد تم تطوير هذا القمع وتبريره وتنفيذه تحت مسؤولية المقيم العام الماسوني لوسيان سان (1921-1929) وبتبرير متفاني من يواخيم دوريل، الكاتب العام لاتحاد النقابات الفرنسية بتونس (CGT)، الذي كانَ بِدوره ماسونياًن انطلاقا من هذه العناصر، هل يُمكن أن نستنتج أن محمد صالح مزالي كان ينتمي إلى نهجٍ يقوده المحفل الماسوني الفرنسي. وحتى عندما تم تعيينه رئيسًا لمجلس الحكومة في 1954، كان ذلك بناءً على اقتراح المقيم العام الماسوني بيير فويزارد. ويستعين الشايبي بتحليل خطاب جريدة تونس الاشتراكية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين كونها صحيفة تُعبر عن رؤية الماسونية ضمنيا، لفهم المبادئ التي اعتمدها كل ماسوني في التزامه المدني والسياسي، والتي كان أساسها الالتزام بإيجابية الواقع الاستعماري واستمراريته. ويبدو أن محمد صالح مزالي، الماسوني، اعتمد على ذلك خلال مسيرته الإدارية والسياسية، فبقيَ بعيدًا عن مناهضة الاستعمار وغير متحمّسٍ لاستقلال البلاد. كان مزالي مثقفاً وذكياً ومجتهداً ومنفتحاً، لكنه مع ذلك ظل يعيش في فقاعة صَنعها لنفسه، أو صنعتها له ظروفه الاجتماعية، جعلته غير قادراً على رؤية الواقع، ومشاهدة عالمٍ يختفي وعالم آخر مختلفٍ تماماً يُولد ويتشكلّ.
[1] La Tunisie du makhzen à l’État national : À la lumière de l’itinéraire de Mohamed-Salah Mzali – Sous la direction de Elyès Jouini -Institut de recherche sur le Maghreb contemporain 2025.
متوفر من خلال: