تنظيم المجلس الأعلى للقضاء في تونس: أي استقلالية للقضاة في ظلال الثورة؟


2011-10-18    |   

تنظيم المجلس الأعلى للقضاء في تونس: أي استقلالية للقضاة في ظلال الثورة؟

غداة الثورتين التونسية والمصرية، انطلقت ورش عمل لاصلاح القوانين المتصلة بالسلطة القضائية. وفي هذا السياق، أنجزت اللجنة المكلفة من مجلس القضاء الأعلى المصري مسودة لقانون السلطة القضائية (منشورة على موقعنا الالكتروني) ونلحظ أن المشرفين على هذا المشروع كانوا من أبرز “القضاة الاصلاحيين” في احتجاجات نادي القضاة في 2005 وعلى رأسهم حسام الغرياني الذي اصبح رئيس مجلس القضاء الأعلى بعد الثورة وأحمد مكي الذي تولى رئاسة اللجنة. وفي موازاة ذلك، نشرت وزارة العدل مشروعين يتصلان باصلاحات قضائية الأول حول تنظيم مجلس القضاء الأعلى، والثاني هو مشروع القانون الأساسي للقضاة (وهما منشوران أيضا على موقعنا الالكتروني). وتحاول “المفكرة” من خلال المقالات المنشورة بهذا الشأن تعميق التباحث المشترك في المعايير القضائية الملائمة للدول العربية. ففي ظل توسع هامش حرية القضاة في التعبير عن آرائهم، قد تكون الفرصة مؤاتية للتخاطب في المشاريع الاصلاحية في الشأن القضائي على صعيد العالم العربي وربما لانشاء شبكة بين القضاة العرب تكون الدعامة الأولى لترسيخ معايير استقلالية القضاة على امتداد هذا العالم (المحرر(
مؤخرا، نشر مشروع المرسوم المنظم للمجلس الأعلى للقضاء، وقد أعلن عنه كخطوة أولى في اتجاه تكريس استقلال القضاء وإرساء القضاء كسلطة لا فقط كهيئة أو كجهاز[1].
وقد قطع المشروع مع التنظيم السابق لقطاع القضاء. فهو يتناول المجلس الأعلى للقضاء حصرا بينما القانون المطبق حاليا (القانون عدد 29 المؤرخ في 14 جويلية 1967) يتصل  بتنظيم القضاء والمجلس الأعلى للقضاء فضلا عن سائر شؤون القضاة المنظمة قانونا[2].
وقد احتوى المشروع على محورين: الطبيعة القانونية والإدارية للمجلس وهيكلة المجلس الأعلى للقضاء وتركيبته.
وفيما استعاد المشروع أحكام الدستور لجهة وصف المجلس على أنه هيئة دستورية، فقد تميز عنه بأمرين أساسيين مترابطين:
الأول
، إضافة هيئة جديدة للمجلس هي “الهيئة العامة لشؤون القضاء”، وذلك الى جانب الهيئتين السابقتين: الهيئة العليا للقضاء، وهيئته كمجلس تأديبي. والهدف الأساسي من ذلك هو وضع مواصفات مختلفة لعضوية هذه الهيئات وفق الصلاحيات المناطة بها، والثاني، وضع آليات لتعيين هؤلاء الأعضاء في هيئاته المختلفة على نحو يضمن استقلاليتهم وفق ما يتناسب مع صلاحياتهم.
وهذا ما ينطبق بشكل خاص على الهيئة العليا للقضاءالتي تمثل  النواة الأصليّة للمجلس والتي تنظر أساسا في تسميّة القضاة وترقيتهم ونقلهم. فباستثناء الرئيس وهو الرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب والمقرّر وهو وكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية، فإن بقية الأعضاء وهم 19 يتم انتخابهم من قبل القضاة الذين يشتركون معهم في الصنف والرتبة (المادة 6). واعتماد الانتخاب كأداة لتكوين هذه الهيئة يعتبر استجابة لمطلب رئيسي رفعه القضاة منذ أكثر من ثلاثة عقود من باب ضمان استقلال القضاء خاصة وأنّه يعود لهذه الهيئة التصرّف في الحياة المهنية للقضاة من تسمية وترقية ونقلة ورفع الحصانة وقبول الاستقالة. ومن أبرز وظائف هذه الهيئة إعداد جدول سنوي للترقية في سلّم الدرجات وجدول الترقية وجدول الكفاءة للخطط الوظيفية وجدول الكفاءة للترقية إلى رتبة أعلى وتتولى نشرها بالرّائد الرسمي لجمهورية التونسية وبالتوازي مع الإعلان عن الحركة القضائية[3].
وفيما ترك مشروع المرسوم لرئيس الجمهورية تعيين رئيس المجلس ومقرره، وهما حكما الرئيس الأول لمحكمة التعقيب ووكيل الدّولة العام مدير المصالح العدلية، فانه وضع ضوابط، بحيث أن رئيس الجمهورية ملزم بتعيينهما من بين مرشحين اثنين” تقترحهما الهيئة العليا للقضاء لكلا من هذين المنصبين. والاشكال هنا يطرح بالنسبة الى تكوين أول مجلس أعلى للقضاء بحيث يكون لرئيس الجمهورية كامل الحرية في تعيين قاضيين في المنصبين المذكورين، طالما أن الهيئة العليا للقضاة لا تكون قد تكونت بعد. وبالطبع، لا يتماشى هذا الأمر مع الرغبة في القطع مع ذلك القانون الذي كرس هيمنة السلطة التنفيذية على المجلس الأعلى للقضاء. وربما كان من الأفضل التفكير في أسلوب يضمن انتخاب كل أعضاء الهيئة العليا للقضاة دونما استثناء أو أن يتضمن المرسوم فصلا انتقاليا يقضي باجتماع الهيئة العليا في جلسة أولى برئاسة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف المنتخب لترشيح الأعضاء في الوظائف  القضائية التي نصت عليها المادة 25. فيما عدا ذلك، نلاحظ أن نظام الإنتخاب الذي أرساه المرسوم يقوم أساسا على التوسع في قاعدة الانتخاب وإحاطة الانتخاب بعديد الضمانات التي تكفل التمثيلية والشفافية.
وفي الاتجاه نفسه، تحدد المدّة النيابية لأعضاء الهيئة بثلاث سنوات غير قابلة للتجديد بالنسبة للأعضاء المنتخبين ولا يجوز لهؤلاء أثناء هذه المدّة الاستفادة من أي ترقية أو تعيين بخطة وظيفية أو نقلة.
أما الهيئة الثانية –مجلس التأديب- فهي تنبثق عن الهيئة العليا وهي تتميز بتركيبتها المصغرة وصلاحياتها. فالمجلس لا يضم إلا خمسة أعضاء أربعة منهم منتخبون. فإلى جانب الرئيس، يضم المجلس الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف المنتخب والوكيل العام لدى محكمة الاستئناف المنتخب وأقدم قاضيين منتخبين في رتبة القاضي المحال على المجلس (الفصل 7). إلا أن هذه التركيبة قد تكون غير ذات فعاليّة إذا كان القاضي المحال هو الرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب. فمن سيرأس المجلس عندئذ؟ فمشروع المرسوم لم يتعرّض لذلك فبالرّغم من أن الفرضية قائمة. ويختص مجلس التأديب بالنظر في تأديب القضاة الذين ارتكبوا أخطاء موجبة للمؤاخذة. ويتعهد المجلس بناء على طلب من المتفقد العام بوزارة العدل (الفصل 36) إلا أنه في صورة ارتكاب هذا الأخير لخطأ تأديبي فمن سيحيل ملفه على المجلس؟ وفيما يتعلّق بحقوق الدّفاع يتمتع القاضي المحال على المجلس بمجموعة من الضمانات (الفصول 39،40،41،42،43).
فمن حقه  أن يطعن في قرارات مجلس التأديب أمام المحكمة الإدارية وفق القوانين والإجراءات الخاصة بذلك (المادة 47) ويعتبر هذا الحق تصحيحا للوضع السابق وعودة إلى إقرار حق الطعن أمام القضاء الإداري. ذلك أنه وإلى حدود سنة 2005 ( تحديدا القانون عدد 81 المؤرخ في 4 أوت 2005 والذي نقح القانون عدد 29 لسنة 1967) كانت المحكمة الإدارية قد أقرت اختصاصها بالنظر في الدعاوى المرفوعة ضدّ قرارات التأديب ضد القضاة باعتبارها قرارات إدارية قابلة للطعن فيها بموجب دعوى تجاوز السلطة. إلا أن التنقيح المذكور كان قد وضع حدّا لهذا الاختصاص بصفة صريحة وأسنده لهيئة استئنافية داخل المجلس الأعلى للقضاء ذاته.
وعلى مستوى العقاب، للمجلس صلاحيات هامة حاول المرسوم أن يؤطّرها حفاظا على حقوق القضاة المحالين على المجلس وعلى علوية القانون.
فعندما تكون الأفعال المنسوبة إلى القاضي مما يستوجب العزل فإنه لمجلس التأديب أن يقرّر إيقاف القاضي عن العمل (المادة 37)؛ وفي ذلك إجراء تحفظي إلى حين البت في الملف.
أما إذا تبين للمجلس أن الخطأ المنسوب للقاضي من شأنه أن يشكل جريمة، فإن المجلس يتبع إجراءات رفع الحصانة[4]. وعلى مستوى اتخاذ القرار التأديبي فإن القرارات تصدر بأغلبية  الأصوات إلا فيما يتعلق بقرارات العزل ونظرا لخطورتها، فإن المرسوم يوجب صدورها بأغلبية أربعة أصوات من خمسة وهو العدد الجملي لأعضاء مجلس التأديب (المادة 43)
ويلزم المرسوم مجلس التأديب بالأخذ بالعقوبات المنصوص عليها في صلب النظام الأساسي للقضاة من ناحية مع مراعاة مبدأ التناسب بين الخطأ المرتكب والعقوبة المستوجبة[5]. هذا الإقرار لمبدأ التناسب بصفة صريحة صلب النص القانوني من شأنه اكساء القرارات التأديبية بالبعد العادل وليس فقط بالبعد الشرعي.
أما الهيئة الثالثة المستحدثة، وهي الهيئة العامة لشؤون القضاء،  فهي تتميز من خلال تركيبتها ذات الصبغة الموسعة ومن خلال مهامها الاستشارية .فإلى جانب 9 قضاة من  قضاة الهيئة العليا )ومن بينهم 7 منتخبين)، تضم الهيئة عديد المهتمين بالشأن القضائي بمعناه الواسع وهم:
المدير العام للمعهد الأعلى للقضاء: والمدير العام لمركز الدراسات القانونية والقضائية: ومدير المعهد الأعلى للمحاماة: وممثل عن كل جمعية أو هيئة مهنية للقضاة: والمدير العام للسجون والإصلاح: والمدير العام للمصالح المشتركةوأحد عمداء كليات الحقوق أو العلوم القانونية يعينه الوزير المكلف بالتعليم العاليو عميد الهيئة الوطنية للمحامين: وعميد الهيئة الوطنية لعدول التنفيذورئيس الجمعية الوطنية لعدول الإشهاد ورئيس كتبة محكمة التعقيب.
وهذه التركيبة الموسعة تؤكد أن الشأن القضائي ليس فقط شأن القضاة وإن كانوا يمثلون نصف أعضاء الهيئة تقريبا (9 بين 20) وهي مقاربة هامة منطقية وتشاركية من شأنها أن تؤسس لمنظومة حديثة للشأن القضائي بكل مكوناتها خاصة بتشريك المتدخلين في تكوين القضاة ورجال القانون (مؤسسات التعليم والتكوين)  ذات العلاقة بالشأن القضائي (المحامين، العدول، الكتبة، قطاع السجون(.
وعلى مستوى المهام  نلاحظ أن لهذه الهيئة دور استشاري بحت، إذ تتم استشارتها في المسائل المتعلقة بالتنظيم القضائي وبإدارة القضاء وبالخارطة القضائية ومشاريع النصوص المنظمة لها  ومشاريع القوانين المنظمة للمهن ذات الصلة بالقضاء.
كما يمكن للهيئة أن تقدم من تلقاء نفسها الاقتراحات والتوصيات التي تراها ملائمة لكل ما من شأنه تطوير العمل القضائي (الفصل 48). وبالرغم من أن الهيئة لا تتخذ قرارات بل تكتفي بتقديم اقتراحات وآراء وتوصيات إلا أنه ونظرا لتركيبها فإنه سيكون لأعمالها قيمة كبيرة ووقع هام على المختصين وعلى المهتمين بالشأن القضائي. وإذا ما أضيف إلى ذلك إمكانية الهيئة لنشر التقارير والتوصيات التي تقدمها فإنه سيكون لهذه الآراء وقع كذلك على الرأي العام.
فالهيئة العامة لشؤون القضاء تعد من أهم الهيئات الاستشارية التي وإن تم تفعيلها، سيكون لها شأن كبير في دفع التفكير والتصورات في المادة القضائية.

 

نشر ها المقال في العدد الثاني من مجلة المفكرة القانونية. لقراءة العدد اضغطوا هنا


[1]أنظر، وحيد الفرشيشي، استقلال القضاء والتكتلات الجماعية للقضاء في تونس، ضمن مؤلف جماعي، حين تجمع القضاة، دراسة مقارنة، لبنان، مصر، تونس، المغرب، الجزائر والعراق، بيروت، دار صادر 2009، ص205 إلى 253.
[2]هذا القانون تم اتمامه وتنقيحه عديد المرّات في 1967، 969،1971،1973،1977،
1985،1986،1987،1988،1991، 1996 وأخيرا في 2005.
[3]الفصل 26.
[4]من اختصاص الهيئة العليا للقضاة.
[5]-  المادة 44

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني