تعقيباً على موضوع “لماذا لا نتظاهر؟”


2014-11-28    |   

تعقيباً على موضوع “لماذا لا نتظاهر؟”

“عند كل مفصل سياسي يتضمن تعبئة جماهيرية أو يحمل مبدأ التعبئة أو المشاركة الجماهيرية في اللعبة السياسية، مثل الإنتخابات أو التظاهر، تبرز على الساحة الإعلامية اللبنانية مجموعة من التصاريح والمعتقدات اللائمة لل”شعب” في تحديد “ما وصلت إليه” أمور البلاد. فالشعب مسؤولٌ عن وجود الطبقة السياسية واستقرارها وازدهارها، والدليل: إما إعادة إنتخابه لها عند كل دورة إنتخابية، واما عدم ابدائه أي اعتراض على فسادها تارةً أخرى. والفصل الأخير المتمثل بواقعة تمديد أغلبية أعضاء مجلس النواب اللبناني لمدة ولايتهم سنتين اضافيتين، بعد أن قاموا بتمديدها لسنة ونصف سابقاً، لا يزيح عن هذه القاعدة، بل قد يزيدها إرتكازا وربما قناعة عند مجموع مهنيّي التعليق السياسي على ما يبدو من كتاباتهم. وهي تحمل معاني تجريم الشعب بشكل مضاعفٍ، إذ لم يكتف الشعب هذه المرة بإبقاء الطبقة السياسية على حالها وحسب، انما إمتنع عن المشاركة في دعوة وُجّهت إليه من مجموعة من الجمعيات للتصدي للأمر ولنصرة الديمقراطية البرلمانية، أي أن الشعب كان له موعد مع التاريخ وإختار طوعاً أن يُضيّعه.

ما يقوله المُعلّقون
ما تبرزهبعضردّات الفعل هذه هو شعور عند الكثيرين من الصحفيين أن هناك عند عموم الناس نوع من الإجماع على إدانة الطبقة السياسية برمتها، وهو تقييم لا يمكن تجاهله ولكن وجب تحديد حدوده المعرفية وما يمكن الإستنتاج منه. فإذاً الناس، بحسب المُعلّقين، لا تحب الطبقة السياسية، لكن الناس لا يفعلون ما هو ضروري لإزاحتها، وتتسم مواقفهم باللامبالاة. من هنا ينطلق النقد.وعند البعض الآخر، فالشعور هو بأن الناس يعملون كما يقال لهم، الناس هم أنفسهم ولم يتغيّروا، وهم موافقون على سير الامور بما فيها التمديد والفساد: او ليست هي التي كانت دائماً تتصارع فيما بينها دفاعاً عن السياسيين؟اما في بعض الحالات الإعلامية المتطرّفة، فقد فُسّر تحرّك ما لا يزيد عن ثلاثين ناشطأً على أنه يمثّل الشعب أو على أنه الشعب شخصياً، وقد صوّت الشعب في الشارع وانجلت الحقيقة. لن ننغمس كثيراً في تفاصيل هذه النظرة، اذ، وبعكس النظرات الاخرى الى الارض الاجتماعية، لا تبالي هذه ببديهيات ومعاني الاثبات والارقام، ولا يمكن اخذها على انها تعبير عن تلمّس للواقع. اما النظرتان الاخريان، فتفترض كلتاهما جمودا محددا في الارض الاجتماعية لا يتماشى برأينا مع التبدلات الجارية في اهواء الجماهير الحزبية المتنوعّة على مدى تاريخها، والتي من الواضح ان السياسيين يتلمسون حالتها بشكل او بآخر، وبعضهم يعرفون متى يمكنهم ان يسقطوا في الانتخابات بشكل ذريع، او متى يمكنهم تنظيم تظاهرة “ملونية” ومتى يستحيل عليهم تنظيمها.
فأذا ازحنا “العدسة” عن مشهد الساحة السياسية وانتقلنا الى الساحات الاجتماعية التي يقطن ويعمل فيها المواطنون، نجد ان العلاقتين مع السياسة التي يتلمّسها المعلّقون، أي اللامبالاة والتموضع الحزبي، تتعايشان في الحياة اليومية للمواطنين، في شخصية الفرد الواحد، وبدرجات مُتنوّعة من الإنسجام بحسب الصفات السيكولوجية-الإجتماعية للأفراد، نازعة إحتمالاً نحو أخذ المواطنين بعيداً عن “زعامتهم المحبوبة”، أو نحو “الخمول”، إما بسبب استنتاجات “اللا جدوى”، أو بسب الثقة المفرطة بأن كل شيء سارٍ على سكة متينة وليس هناك ما يدعو المرء للتحرك. والفرد يمكنه أن يبدي موقفا ما عند صباح يومه أمام زملائه في المكتب، أو في إطار العمل، ثم بموقف مختلف في المساء أمام افراد عائلته بحيث قد يبدو موقفاه لا يحيدان عن نفس “السياسة” و”الجماعة” و”العصبية” للعين التبسيطية (كما هي الحال في الإعلام عادةً)، بينما العين السياسية العملية مثلاً قد ترى فيهما إختلافا جوهريا بالنسبة لمتطلبات استرتيجيات الأحزاب السياسية، مثل قابلية الفرد مثلاً للذهاب إلى صناديق الإقتراع، أو لشطب إسم أو إثنين من اللائحة الحزبية إلخ.
والقراءة العلم-الإجتماعية في هذا الخصوص بعيدة عن ايفاء كافة إحتمالات التحوّل حقّها في الصورة التي ترسمها، بتنوع مدارسها، “للأرض الإجتماعية”. لكن لها، وبتواضع مقصدها، الفضل في التذكير بأن الواقع المرصوص الذي ترسمه المؤسسات المهيمنة في المقابل ليس تماماً كما يقدم نفسه. فقد يتلمّس او يتحسسّ بعض المُعلّقين والناشطين ما يعرضه واقع الأرض الإجتماعية اللبنانية، مثل الإمتعاض من الوضع السياسي عند فئات شعبية متنوّعة. لكن هؤلاء، وبحكم ديناميكيات واستراتيجيات “حقلهم المهني” (وفق فهم بورديو للكلمة)، والمعتقدات التي يكتسبونها من ممارستهم المهنية، لا يلبثون أن يأخذوا تلمّسهم لما يحمله الواقع من “إحتمالات خروج عن سياسات الأحزاب” إلى استنتاجات يائسة، أو متكبّرة (ان الشعب لا يعرف التصرّف)، أو تبسيطية (الشعب تابع ويلهو): وهي جميعها من مزايا معتقداتهم المهنية، اي من السلوكيّات المُرحّب بها في مهنتهم، إذ لا ينجح الصحافي “الرصين”، أو الناشط “الجدي”، إذا لم يصرّح بثوابت الأمور، واذا توقّف أمام الأمور مُعترفاً بمحدودية إدراكه.
سنتوقف عند هذه المنطلقات في تقييم “الأرض الإجتماعية”، وننتقل بعيداً عن معتقدات وتصاريح المُعلّقين (صحفيين، سياسيين، وناشطين)، ونحاول أن نعالج لماذا، من وجهة نظر علم-إجتماعية، وعلى ضوء تجارب لبنانية سابقة شهدت تعبئة جماهيرية، لماذا إذاً الناس لا تتظاهر أو لا تتصرف، وذلك عبر التفكّر في بعض الأسباب التي تجرّ الناس إلى التظاهر، اي بالجواب على السؤال المعاكس: “لماذا الناس تتظاهر؟”. فلا جدوى في الوصول إلى نظرية قابلة للتعميم في أسباب عدم سلوك ملايين الناس طريقا مُعيّنا، إذ لا يقدم “الشيء المحتمل والذي لم يتحقّق” الآثار التي تمكننا من رصده وقياسه كما نفعل للشيء الحاصل او بالسهولة نفسها. عليه، يمكننا تتبّع نموذجين من التعبئة أو المشاركة الجماهيرية في التاريخ اللبناني المعاصر — إذا وضعنا الإنتخابات النيابية جانباً — يمكن اعتبارهما، وبالمقارنة مع تجارب دول أخرى، من صنف التعبئة الاستثنائية التي تهمنا اليوم على ضوء مطالب وشكاوى الناشطين والصحفيين. النموذجان هما، أولاً، التظاهرات الكبيرة والدورية التي ينظمها “حزب الله”، وثانياً، التظاهرات التي تحصل في إطار الأزمات السياسية، والتي حصلت في عامي 2005 و2006.

تظاهرات “حزب الله” الأليفة
يمكن للمرء أن يقول الكثير عن تظاهرات حزب الله الكبيرة والدورية ونجاحها. والكثير قيل في هذا الخصوص، في أغلب الأحيان ضمن نظريات ثقافوية (ليس بعيداً عنها إعلام الحزب نفسه) تُقدم هذه التظاهرات على أنها تجسيد لرموز معينة (هناك من يعتبرها تظاهرات تتسم “بالغضب”، وآخرين “بالوفاء”)، أو كما يدرج أيضاً في الإعلام، على اعتبارها تعبيرا عن مجموعة، أو “جماعة”، يحرّكها “الخوف”. “الطائفة الشيعية”، بحسب هذه السردية، كانت “قلقة” وتعيش بالخوف منذ ما قبل الحرب الدائرة في سورية، بالرغم من أن التبسيط هذا يتناقض مع تقاليد باتت كلاسيكية من التبسيطات التي تقوم على النظريات الطبقية والتي تقول بأن الطبقات المُتملّكة هي التي تتّسم بالخوف والقلق. ويمكن إعتبار الجموع التي تبرز في مناسبات الحشد في الضاحية الجنوبية أكثر الجموع القابلة للتشييئ الثقافي الذي يُصنع في مكاتب الصحف والتحرير في بيروت. وهذا ليس أسوأ القدر، إذا ما قارنّا تشييئها الحاصل بمنطق “تغييب الجموع” المعتمد في معالجة ظواهر المنطقة الشرقية السياسية والتعبوية (هذا مع الاشارة الى أن ظاهرة تغليب منهجيات “التحليل النفسي” لميشال عون على حساب تشييء الجمهور “العوني” أو تبيان مطالبه، في صحف بيروت الغربية، تأخذ بعض أصولها من إعلام “القوات اللبنانية” في سنين الحرب، الميليشيا التي بنت ازدهارها على اسكات المنطقة الشرقية وتوقّف الحياة الانتخابية).
لكن بالعودة إلى تظاهرات حزب الله الكبيرة، يمكن التوقّف عند الصفات التالية الخاصة بها: أولاً جعل التظاهرة تقليدا موسميا ودوريا بحيث لم يعد حجمها الكبير يُخرجها عن المألوف، وثانياً سهولة إلتزام جمهور الحزب بتلبية دعوات التظاهر الذي تدلّ عليه هذه التظاهرات. هذا بينما تتّسم عناوين هذه التظاهرات السياسية بوعود بالتغيير السياسي الجذري أو الراديكالي ذات مستوى متدنٍّ. لا بل أن حزب الله يتميّز عن سائر الأحزاب اللبنانية في إنتاجه خطابا (وهذا ليس خطابه الوحيد) يدعو الجمهور للتحلّي بالصبر وروح التضحية ونكاد نقول “التنسّك”.
من هنا، يمكن إستنتاج منطق إجتماعي أساسي لنجاح التظاهرات التي ينظّمها حزب الله، وهو منطق “الالفة”. طبعاً، هناك تغييرات تنظيمية يضيفها الحزب إلى دعواته المتجددة للتظاهر، قد يكون ابرزها حقل من فنون التصميم الجرافيكي المفتوحة للاجتهادات الفردية، وقد تكوّن الحقل هذا في السنين العشر الماضية ضمن مجموعات الشباب الحزبيين، وهو يبث اعماله على مواقع التواصل الإجتماعي ويعتمد الحزب في اعلامه وشاراته الإعلانية بعض صناعاته. لكن هذه الظاهرة أيضاً تعمل بمنطق “الإلفة” الإجتماعي، أي بمنطق يجعل التظاهر والدعوة إليه من اعمال مجموعات شباب لا تخرج عن تخصصها المهني، وهو تخصص يأخذ شكل الإقتصاد الرأسمالي المهيمن وتوزيعه للأعمال ولا يتحدّاه بشيء، أي تجعل التظاهر والتعبئة من المشاهد اليومية والعادية. وتمتزج هذه النشاطات مع باقي صفات تظاهرات حزب الله التي تمُتّ للإلفة، حيث يمكن مقارنة تظاهرات الحزب بمباريات كرة القدم في نشأتها الأولى في المدن الصناعية، والتي كانت الطبقات العاملة تتابعها بإنتظام لتشاهد نفسها فيما كانت تشاهد المباريات، وتعطي مجالا تنفيسيا لبعض حاجاتها الجسدية. بحسب هذا المنطق، يقتضي أن يخرج المرء من التبسيطات الثقافوية من صنف القول “أن التظاهرة غاضبة”، والنظر إلى ما تحتويه الكثير من التظاهرات من نشاطات وطقوس تعمل، مثل التنزّه ومشاهدة المباريات، والرياضة، واللعب، وغيرها من الساحات الأليفة اليومية، على كسب الجمهور بشكل مُستمر. ومن هذه النشاطات والطقوس يمكن احتساب على سبيل المثال منطق النزهة، والمشي في وسط الطريق، والمجال المفتوح للصراخ، ولتلاوة الشعارات، والمنظر المعروض لأحاسيس الجموع، وهو بمثابة النشاط بحد ذاته (تَلتفت البَطلة في فيلم “أميلي بولان” الفرنسي في قاعة السينما لتتمتع بمشهد وجوه المشاهدين في القاعة وردّات فعلهم). كذلك يجب احتساب منظر توحّد وانسجام الفئات الإجتماعية والعمرية المُتنوعة إلخ. وهذه جميعها نشاطات كفيلة ببعث شعور بأن التظاهرة هي ملك من يقصدها.
لكي تنجح هذه العلاقة، ولكي يجد الجمهور في التظاهرة الإلفة المطلوبة، يقتضي من الحزب ضمان إطار معَّين، وهو ما يُعرف إجتماعياً ويلتمسه الناس بتعبير “الجو”. فحزب الله، مثل غيره من احزاب “الإسلام السياسي”، يعمل بشكل يومي منذ نشأته على توحيد شكل قاعدته، بدءًا بفرض ضوابط مسلكية وعلى اللباس على الناشطين، ثم عبر تعميم نموذج ناشطيه على المجتمع الأوسع. هذا المنهج، وباختلاف خصائصه، يساعد على التقليل من الإختلافات بين شخصيات الأفراد القادمين من مواقع إجتماعية مُتنوّعة وعلى تخفيف إحتمالات الصراع والتقزز التي يمكن أن تنتج عن هذه الإختلافات. وهو (اي المنهج)، وان صدق انتقاده بأنه يخفي الفروقات الطبقية بين الأفراد وبالتالي ينحو إلى ستر “المسألة الطبقية” برمّتها عن الخطاب العام، إلا أنه يسمح بايجاد روابط بين مواقع طبقية مختلفة تفتح للحزب مجالا للمناورة السياسية أوسع من تلك التي بمتناول غيره، كما يسمح بتعبئة فئات مُتنوعة لها إستعداد سيكولوجي إجتماعي لإعتناق النشاطات الجماعية من دون الحاجة لإنتظار اللحظة السياسية المُمَيَزة.

التظاهرات في إطار الأزمات السياسية والهرمية الرمزية
أما النموذج الآخر من التظاهرات، نموذج التظاهرات في إطار الأزمات السياسية، فتبدو منساقة من قبل ديناميكيات من نوع مختلف. فالتظاهرات التي عرفها لبنان في سنوات 2005 و2006، لا تعرف سابقة لها، وبالتالي “الإلفة” التي تعمل على صناعتها مؤسسات حزب الله على مدى الأعوام لا يمكن أن تكون الحافز وراء مشاركة الناس في التظاهر وبحسب إطار من التخطيط المسبق. لكن الإلفة، لمن تابع هذه التظاهرات عن كثب، ما لبثت أن أصبحت من ركائزها الأساسية: وهي تظاهرات اتسمت بالتكرار وبمجاراة استراتيجيات الطبقة السياسية. فقد تكونت من ناس من طبقات إجتماعية عدة، وقد حفز مشاركة هؤلاء أن يشاهدوا أفرادا من محيطهم الإجتماعي القريب يشاركون ويشاركن، ما سمح للتظاهرات بالتوسع ضمن مهل زمنية قصيرة (في غضون أيام أو أسبوع). من ناحية أخرى، وفي وقتٍ ثانٍ، كان تزامن هذه التظاهرات مع اعتصامات مفتوحة افترشت ساحتي وسط المدينة الرئيستين، قد جعلها تأخذ شكل “ساحة أليفة” بمعنى الموعد اليومي مع النشاطات المُتنوعة التي تقدمها، والتي أشرنا إلى بعضها أعلاه في خصوص تظاهرات حزب الله الدورية، مع بعض الزيادات والفروقات. في وقتٍ ثالث، كان من شاركوا في التظاهرات وبالعودة إلى مساراتهم اليومية يصطدمون بفئات الناس من محيطهم التي لم تشاركهم معاني أو حماس التظاهرات، أي أنهم اصطدموا بمحيطهم الأليف السابق: ولا شيء أبلغ في الدلالة على هذه الحوادث أكثر من الآراء التي يمكن لمن عاش في لبنان في السنوات العشر الماضية أن يرصدها، والتي كان بموجبها الأفراد يعتبرون من يختلف معهم في السياسة من الأغبياء أو “صغار العقل” بدل تهمة “الطائفية” التبسيطية المخصصة لمن ليسوا في المحيط القريب والذين يمكن بالتالي تبسيط تشخيصهم بالإستعانة بما يقدمه الإعلام المهيمن من مصطلحات متذاكية.
لكن هناك ميزة أخرى لهذه التظاهرات، والتي قد تبدو أنها تُفرّقها عن تظاهرات حزب الله الدورية مع أن التفرقة ليست حقيقةً بمحلّها. فقد أخذت هذه التظاهرات انطلاقتها واندفاعها كلياً من تطوّرات الجغرافيا الإجتماعية للطبقة السياسية دون غيرها، وبالتحديد من أعلى هرميّة هذه الجغرافيا، وهي بذلك تساعدنا على تلمّس ذاك البعد الأساسي للإختبار السياسي عند الناس-الأفراد، وهو البعد الرمزي وبناه وهرميته. فقد اخذت التظاهرات انطلاقتها من مشهد انقلابٍ رمزي على مستوى القيادات السياسية بثت شاشات التلفزيون تفاصيله المتنوعة، وقد شمل هذا الإنقلاب التحالفات السياسية كما اللغات الجسدية للسياسيين، واعلانهم للتفاصيل المحرجة لتعاطيهم مع بعضهم (نذكر على سبيل المثال إعلان وليد جنبلاط مقاطعته لمكالمات اميل لحود الهاتفية، التناقض بين تصريحات نسيب لحود ووليد المعلم اثر زيارة الأخير إلى لبنان، زيارة جاك شيراك الخاطفة إلى آل الحريري إلخ.).
بعيداً عن نظريات ربط الناس كالقطعان بمشيئة السياسيين، ينبغي فهم العلاقة الرمزية هذه مع رأس الهرم السياسي على أنها تعمل “بالجهتين”، وقد انطوت بشكل إنغماس أكثر لسياسيي “الصف الأول” في العمل الإعلامي والتعليق الإعلامي الممل، وشهدت بروز “نجوم” تعليق جدد كان ابرزهم الوزير السابق وئام وهاب تحديداً لأن دوره في الرد على وليد جنبلاط بكافة الوسائل الرمزية الممنوعة على غيره كان يملأ فراغا على هذا المستوى. كذلك الأمر، كان لمؤتمر حسن نصرالله الصحفي الداعي لتظاهرات 8 آذار تأثير سلبي على الجمهور المتعاطف مع الفريق المقابل بدت ملامحه (أي ملامح هذا التأثير) واضحةً في توسع التعبئة وفي الرايات التي رفعت في تظاهرة يوم 14 آذار التي تلت. وكان على الأمين العام وميشل عون، وليد جنبلاط وسعد الحريري ملازمة انخراطهم في الإطلالات الإعلامية الموجهة مباشرة للجمهور منذ تلك اللحظة. برزت بذلك إلى العلن علاقة الناس بالسياسة بما هي تستعير رموزها ومعانيها من الهرمية الرمزية، التي يلعب مجتمع التلفزيون دورها، بقدر ما تستعيرها من المحيط الإجتماعي القريب والأليف. والهرمية الرمزية لا تعني فقط “أمر الزعيم”، انما دينامية غنية من التعليقات والتصرفات العلنية التي تعمل كالرسالة التي تقول أن للتعبئة ضرورات وفعالية لا يعلو عليها شيء.
هذه الهرمية في الإطار الرمزي، والأهمية للاحتكاكات على مستوى “الصف الأول” ليست من دون نتائج أو تأثير على إنكفاء الناس عن المشاركة في دعوات التظاهر. فالناس لن يخرجوا عن عادات مسارهم اليومية إذا لم يعتبروا أن الفرصة أو النزهة التي دُعيوا إليها جدية بما فيه الكفاية، وذلك بضمان إما تأثيرها، والتأثير يكون “رمزيا” وملموسا أو لا يكون، وإما نيلها الإعتراف بأهميتها القصوى، أي بوصولها إلى أعلى مستويات الساحة الرمزية. هكذا مثلاً، يمكن لحراك مثل حراك “هيئة التنسيق النقابية”، المُكوّن من عدّة تظاهرات ومن مجهود تعبوي كبير، أن يُحرج الطبقة السياسية وتحديداً نبيه بري. لكن احراجه هذا لم يَتُم إعلانه وبقي بالكاد ملموسا عند الجمهور الأوسع وربما عند بعض جمهور الحراك نفسه، فظل الحراك محصوراً ورغم جهوده الاستثنائية وحجمه القياسي وهو الآن، لسخرية “القدر الإجتماعي”، قد يَمر بأزمة وكأنه لم يجمع كل هذه النجاحات. أما على مستوى المواطنين الأفراد، فهناك منهم من تطغو عليه الهرمية الرمزية لدرجة أنه اثر سماعه عن حراك أو دعوة لتحرّك لقضية تطاله مباشرةً وله منفعة فيها قد يُعلق بالمسخرة أو الإستهزاء، بأن هؤلاء (أي أصحاب الدعوة) “وليْدات”، أو “طق حنك”. وهو ما يعاني منه ويعرفه عادة كل من يلاقي مقاومة بين زملائه للتحرك معه ضمن الإطارات النقابية: أن النقاش مع المترددين ليس دائماً بالعقل والحساب وحجج المنفعة.
ما تقوله الهرمية الرمزية اذاً، هو أن وحدها نشاطات الأحزاب المسيطرة، بغض النظر عن مقاصدها أو غايتها المعلنة، لها أهمية ويمكن الركون إليها، وهي أهمية يتلمّسها جيداً اي محتال مرشّح للانتخابات يبني خطّته الإنتخابية على الشطب ومبدأ إختراق لائحة حزبية ما عبر تسريبه إشاعات في يوم التصويت عن تفضيل رئيس اللائحة له على شخص آخر ضمن اللائحة، أو عن وصوله وحزب ما من احزاب اللائحة إلى إتفاق سرّي وغيرها من الحِيل التي هدفها القول للجمهور، من بين امور اخرى: احسبوني من هؤلاء القوم، لن يفقدكم التصويت لي من “مستواكم” او جديّتكم.

ختاماً
منطقا التعبئة العلم-إجتماعيان اللذان أوضحناهما أعلاه ليسا الوحيدين الممكنين، فيما لو اردنا أن نفكر في الأسباب التي تجعل الناس تتظاهر في لبنان. وقد اردنا من خلال ابرازهما الجواب على السؤال المعاكس، عما يمنع الناس من التظاهر، وحصر إحتمالات اجوبته التي قد تختلف بقدر إختلاف شخصيات كل إنسان على المساحة اللبنانية، عبر أخذ السؤال إلى مساحة “نظرية وطنية”، وإلى “التاريخ الوطني المعاصر”.
والتظاهرات التي اخترنا معالجتها ليست أمثلة التعبئة الناجحة الوحيدة في السنين الماضية. فيمكن احتساب حراك “هيئة التنسيق النقابية”، وهي نموذج من التعبئة مختلف نوعياً عنها، وقد سبق لنا أن عالجناها في مقالات سابقة. كما يمكن احتساب تظاهرات حراك ما سمي “بحملة إسقاط النظام الطائفي” في عام 2011، التي وصلت إلى حشد أكثر من عشرين ألف متظاهر، والتي يمكن ردّها برأينا إلى المنطق الإجتماعي الذي أشرنا إليه، منطق “الهرمية الرمزية”، لما شكّله إسقاط الرئيسين المصري والتونسي في تلك السنة من إنقلاب نوعي على مستوى الخطاب على أقل تقدير، وعلى مرأى من جمهور المشاهدين التلفزيونيين. لكن للبحث في نموذجي تظاهراتنا فائدة أخرى، إذ انهما يعالجان ما اصطُلح على إعتباره “الشعب”، “بطبيعته” العادية، وحتى “بتقليديته”، دون مفاجآت، أو “طابور خامس”، أو إحتمال بروز “شعب آخر” (مثل الجمهور السَلَفيّ) كان ليكون مخبأً وما لبث أن وجد مناسبة لخروجه الى العلن. علَّ هذه العودة إلى “الشعب” العادي، “الشعب الانتخابي”، تُجبر على التفكير على مواجهة الواقع وربما مصارحته وفهم إمكانياته.
وقد يضطر المرء مراراً ان يحكم بقساوة على المُعلّقين، اناشطين كانوا أم صحفيين، فمنظر التكرار الحاصل في جزء من النشاطات المطلبية، من الإكتفاء بحمل اليافطات على مرأى من النواب والكاميرات “بأعداد مشاركين دون كوتا النواب المطلوب للتصويت ضد التمديد” كما علّق صديق على الموضوع، لا يثير التفاؤل تحديداً. كذلك الأمر بالنسبة للتعميمات الصحفية عن “خمول الشعب”، التي لن نخلطها بالتفوق الفكري والتحليلي عما قريب، بينما تغيب عن السياسات التحريرية للصحف والتلفزيونات أي مناهج أو مقاربات بديلة عن تلك التي تغلف الواقع، ولو عن طريق الخطأ، أو بحثاً عن الإبداع والتمايز الأدبي.
أما ما ينصح به المنطقان الإجتماعيان، فهو وجوب العمل على كسب “مشاركة الناس” على مدى زمني طويل وغير محصور بالموعد الإعلامي أو المؤسساتي. والمشاركة هذه لا بد أن تأخذ شكل يوميات الناس، اي أن تكون أليفة بالنسبة اليهم، ولو بدا ذلك خروجا عن “الجدية” المدعى بها في الأوساط المهنية النضالية (المجتمع المدني ومموّليه وغيرهم) أو في الصحافة. وتأتي على بالي في هذا الخصوص صورة للشيخ الصيداوي أحمد الأسير في لباس الرياضة مع مجموعة من مؤيديه وربما محاربيه لاحقاً وبدا في الصورة وكأنهم كانوا يلعبون كرة السلة. هذا بينما لا نظن أن العمل على مستوى أعلى الهرم الرمزي له مجالات ممكن اتّباعها بحسب منهجية معينة، فلا قاعدة لمايمكن أن يضع عنوانا ما في أعلى السلم الإعلامي وبموازاة العناوين “الآذارية” الطاغية. انما تجدر الإشارة إلى أنه، في حال حصول ذلك من باب الصدفة، يقتضي تسجيله وتوثيقه واعلانه مراراً وصولاً ربما الى استثماره انتخابياً. اي انه ينبغي ايجاد منافس جدّي للأحزاب المهيمنة في اكثر الاماكن الممكنة، وهو ربما ما ارادت تجنبه الاحزاب المهيمنة عبر اعتمادها التمديد للمجلس النيابي على ضوء التحدي الذي شكّلته “هيئة التنسيق النقابية” بالنسبة لسيطرتها على بعض قواعدها.وعليه، يبدو ان التنظيم الحزبي-العقائدي، مدعوم بصيغ نصّية جديدة، ما زال الافضل للردّ على هذه التحديات.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني