تعايش وتكيُّف بقوة الفقر خارج أسوار العاصمة.. “السان سيمون” ينتظر… موج “أليسار”


2019-07-06    |   

تعايش وتكيُّف بقوة الفقر خارج أسوار العاصمة.. “السان سيمون” ينتظر… موج “أليسار”

الواحدة والنصف ظهر يوم شتوي مشمس. روائح الطعام تتصاعد من البيوت المتلاصقة المتداخلة كقطع الـ “ليغو” (lego)، فتتمازج أنواع البهارات والبصل والثوم في أنفك الذي يصعب عليه تحديد طبخة واحدة على الأقل مما يشمّ.

تحاول الوصول إلى بيت “أم علي” إحدى أوائل السيدات اللواتي سكنّ الحيّ في العام 1975 بعدما تهجّرت من “تل الزعتر”. لكن كثرة الزواريب المتشابهة التي بالكاد تتّسع لشخص واحد أو شخصين، تحول دون وصولك إلى أي مكان… هنا المتاهة التي تآلف معها سكان هم في الأصل مهجرون من الكرنتينا وتل الزعتر وجسر الباشا ومناطق جنوبية كانت محتلة، وبعضهم هرب من ريف البقاع وفقره. سكان مؤقتون منذ أربعين سنة، حاولوا الانتقام من الفقر فتمركزوا على الشاطئ الذي كانت “رماله مثل الذهب ” كما تقول أم علي. جعلوا البحر حدوداً لهم وحاصروه بأبنية أو أكوام حجارة بُنيت على عجل. أبنية بلا أساسات دعم، أعلى مبنى بينها لا يتجاوز 3 طبقات بعضها مسقوف بالتوتيا والإترنيت. مساكن ضيّقة تشبه ألعاب الأطفال البالية التي محا الزمن لونها وبعثر تفاصيلها. بيوت تغرق كل فصل شتاء بمياه الأمطار وطوفان البحر الهائج والمجاري العائمة، يذهب ضحيتها أطفال وعُجّز أو ينجون حاملين أمراض الربو والسرطان والحساسية المفرطة والروماتيزم.

هنا، في تجمّع الجناح – الخط البحري أو ما يُعرف بـ “السان سيمون” نظراً لمسبح كان يحمل الاسم نفسه يملكه رجل الأعمال سيمون سمعان، الحياة مالحة كمياه البحر وملوّثة أكثر من المجاري “الرسمية” التي تشطر الحي شطرين. هنا حيث كانت المنطقة من أشهر المصايف لأصحاب الأعمال وكبار سياسيي لبنان قبل الحرب، تشعر برهبة حين ترى عن قرب كل ما سمعت عنه أو قرأته من صدأ وجدران متصدعة وأسقف مهترئة. هنا ترى الفقر وتسمعه وتشمّه وتتنشّقه مع الهواء الملوث وتبلعه مع المياه التي لا تزور المنطقة إلا مرة كل سنة.

تستنجد بهاتفك لتُلاقيك أم علي، على “الكورنيش” الذي لا يتعدى طوله الخمسين متراً واستحدثته بلدية الغبيري على أطراف الحيّ من جهة تقاطع السلطان ابراهيم، ملحِقة إياه بحمام عمومي ومقاعد من الباطون. هناك حيث تتراصف المحال التجارية ووراءها ملعب رياضي يسيطر عليه نافذون من حركة أمل ويحصرون اللعب فيه مقابل بدل مادي، تلتقي أم علي بفاطمة ونهاد جارتيها في الحي. تحمل كل منهما طبقاً من “اليخنة” يتصاعد منه بخار ساخن. تسألهما: “إلى أين تذهبان؟”. تجيب فاطمة: “أخبرونا أن لاجئة سورية تعيش هنا في الحمام منذ أيام من دون أكل، قررنا الاطمئنان عليها ومساعدتها. من المؤكد أنها جائعة”. تسألها أم علي الملقبة بدينامو الحي: “هل تعرفين من تكون؟” فتجيب بنبرة حازمة: “الفقر ما إلو أم وأب، مقطوعة من شجرة وما حدا بيسأل عنها مثل حكايتنا”.

السان سيمون“: بداية الحكاية

تسرد أم علي قصة الحيّ الذي وصلت إليه مع زوجها وهما لا يملكان سوى الثياب التي يرتديانها. “كان الشاطئ يشرح القلب، واسعاً نظيفاً ومرتباً، نمشي كثيراً حتى نصل إلى المياه، كانت الأزقة مرصّعة بالبلاط ومزيّنة بالورود كما نراها في الأفلام. ولكنّ السكان بدأوا بالتكاثر خصوصاً بعد الاجتياح الاسرائيلي في 1982”. حينها كانوا (في إحصاء بحسب دراسة للدكتور أحمد بعلبكي في العام 1984) حوالي 4 آلاف نسمة وصاروا اليوم تقريباً 15000 نسمة (لا يوجد إحصاء دقيق لعدد السكان، بل هذا ما يقوله السكان). والنتيجة “كل شخص عمّر بيته بيده حتى وصلت البيوت بمحاذاة المياه تماماً” تؤكد أم علي. وتقول فاطمة “انضمّ إلينا الكردي والفلسطيني وأهل برج حمود والنبعة والشريط الحدودي، وبدأ الباطون المفركش يحتل الشاطئ”. وتضيف: “عندما وصلنا إلى هنا، كانت المنطقة عبارة عن شاليهات فقط. كانت العائلة المهجّرة تقسم الشاليه الواحد إلى غرف صغيرة. وكل غرفة تعيش فيها عائلة. ومن ثم كل عائلة تجلب أقاربها وتُعمّر ما يحلو لها”. تقاطعها أم علي “طبعاً كل ذلك كان يخضع لنفوذ”.

وتضيف فاطمة متذمّرة “صار في الحيّ غرباء كثر من جنسيات مختلفة. كلما “هربت”1 خادمة أجنبية من مشغّلها تلجأ إلينا، عدا عن اللاجئين السوريين والفلسطينيين والعراقيين والأكراد”. فتردف أم طارق: “كلنا نشبه بعضنا حتى لو تغيّرت لهجاتنا وألوان بشرتنا، ولكن المخيفين هم الخارجون عن القانون الذين يعملون في المخدرات والدعارة وعلى سجّلهم أحكام قتل وسرقة. هؤلاء خطر علينا لكنهم يعشّشون هنا وتحميهم جماعاتهم”. تشرح أم علي معنى جماعاتهم: “الأزقة هنا تحكمها عائلات أشبه بعصابات، لكل عائلة زعيم وهو غالباً المالك الأكبر في المنطقة الذي لديه علاقات طيبة وواسطة مع الحزب المسيطر وهو حركة أمل. وهؤلاء هجر معظمهم المنطقة بعدما تحسّنت أحوالهم المادية، وأجّروا بيوتهم المحتلة لعمّال أجانب وعرب منهم القانوني ومنهم الهارب من العدالة”.

تعايش اضطراري برغم الاختلافات

يرى عالم الاجتماع الدكتور أحمد بعلبكي الذي كانت منطقة الجناح – الخط البحري (السان سيمون) مادة بحث له في العام 1983 في حديث لـ”المفكرة”، أن “هذا الحيّ له وظيفة لأنه يجمع الأكثر فقراً، وتكمن أهمية هذه الوظيفة في إسكان هذه الجماعات المعدومة والمخالفة للقانون”.

يحكي بعلبكي قصته مع الحي بعاطفة كأنه مسقط رأسه أو بيت طفولته: “كل المدن في العالم فيها عشوائيات. لكن هذا الحي لفتني خلال الحرب الأهلية عندما كنت مهجّراً وأسكن في منطقة بئر حسن على مقربة من السان سيمون. فكان فيه خليط بشري وثقافي وسياسي يتألف من 4 جماعات متعايشة ككتلة واحدة داخل الحي ومتعارضة خارجه. فكل مجموعة منها تنتمي إلى جماعات متقاتلة في الخارج وعلى حدود المنطقة (مثلاً حرب المخيمات في صبرا وشاتيلا ومخيم برج البراجنة)”. ويضيف “كان “السان سيمون” مختبراً لي كعالم اجتماع، فوضعت فرضية بحث بعنوان “على درجة من الفقر تتعاشر الجماعات وتتكيّف في تعايشها. واكتشفت من خلال البحث الميداني والمعاشرة أن لا حياة خصوصية في السان سيمون، ولا تعصب ولا محافظة أو تحفظ بسبب تداخل البيوت بين بعضها البعض. فالفقر وصل إلى درجة فاضحة لا تختبئ”. وهو يرى أن “المحافظة والتعصّب يحتاجان إلى بنايات وحدود ومساحات، وهو ما بدّده الفقر، فهم يعيشون فيما بينهم بشفافية”.

حاول بعلبكي قياس مدى قبول الجيرة والذوبان بين بعضهم البعض رغم الاختلاف الطائفي والمناطقي وحتى الاختلاف في الجنسيات (أكراد، فلسطينيون، سوريون، مصريون)، فوجد أن هذا التكيّف والتعايش وقبول الآخر اضطرارية، فهذه “الجماعات اختلقت نظاماً أمنياً بينها تحكمه الضرورة”. ويعتبر بعلبكي أن “الفقير يريد أن يكون فخوراً بفقره وأن يحبّه، فللفقر جماليات وهي أنه يؤنس الجيرة والتعايش، وهنا كعالم اجتماع أنظر إلى المضمر أو الاضطرار خلف المعلن أو حسن الجيرة. هذا الحي لا يوجد فيه اختلاف سكني أو اختلاف جيرة قائمة على الطائفية أو العشائرية، على فقرهم لا تتحمل المسألة القتال”.

ويؤكد بعلبكي أن التركيبة السكانية للحي تتغير، ولكن هوية المكان ووظيفته بأن يلجأ إليه الفقراء على نحو يعزلهم عن الأغنياء، تبقيان على ما هما عليه على مرّ الزمن.

لمحة تاريخية وجغرافية

تشير دراسة لمجلس الإنماء والإعمار صدرت في العام 2005 تحت عنوان “البحث الإجتماعي السريع ـ بيروت وضواحيها 2005” إلى أن نشوء تجمّع الجناح – الخط البحري (هو نفسه ما يعرف بالسان سيمون ولكن يضم أيضاً أكثر من حي)، بدأ مع اندلاع “حرب السنتين” (1975 – 1976). ولاحقاً توافد إليه المهجّرون نتيجة الإجتياحين الإسرائيليين في عامي 1978 و1982 من سكان المناطق الحدودية في الجنوب (ومنها النبطية وبنت جبيل وعيناثا وبليدا ومارون الراس…) والبقاع (الهرمل وبعلبك والعين وشمسطار)، الذين كانوا نزحوا في البداية إلى بيروت والنبعة وبرج حمود وتل الزعتر والمسلخ والكرنتينا، واضطروا إلى الانتقال من جديد إلى مناطق أخرى في الضاحية الجنوبية ولا سيما منطقة الجناح – الخط البحري. احتلّ المهجرون، في مرحلة أولى، فندق “الساندس” والشاليهات التي كانت قائمة في التجمّع، ثم قاموا في مرحلة ثانية بزيادة طبقات إضافية على المباني الموجودة أو بناء المساكن عبر التعدّي على الأراضي التي تعود للدولة تم استثمارها من قبل عدد من الأشخاص.

أبرز العائلات التي سكنت في هذه المنطقة منذ بداية إنشائها بحسب الدراسة ذاتها هي: مطر وزهران وشحادة وعجمي وكعور وفضل االله وموسى وياسين وحلاوي والملّي وعبود وجابر وعيرات والعلي وحيدر.

يقع تجمّع الجناح الذي تبلغ مساحته 23 هكتاراً، جنوب مدينة بيروت، ويحده غرباً البحر الأبيض المتوسط، وشرقاً جسر الماريوت، وجنوباً منطقة الأوزاعي، وشمالاً الرملة البيضاء. يتبع التجمّع لبلدية الغبيري (قضاء بعبدا – محافظة جبل لبنان) وعقارياً لمنطقة الشياح. ما زالت الأحياء تعتمد على أسماء البلوكات كما كانت معروفة قبل السكن فيها مثل: ألبير أبيلا (مسبح الكوت دازور)، سيمون سمعان (مسبح السان سيمون)، ميشال سمعان (مسبح السان ميشال)، جورج خويري (مسبح الريفييرا)، شقيقة دولة الرئيس سليم الحص (مسبح الساندس)، وأبو داوود، والأكابولكو.

شهد تجمّع الجناح – الخط البحري نمواً ديمغرافياً مهماً ترافق مع النمو العمراني العشوائي (أفقي وعمودي)، وذلك في غياب الدولة أثناء سنوات الحرب. لم يرافق هذا النمو العمراني السريع والعشوائي أي تطوير للخدمات الأساسية والبنى التحتية. كل ذلك حوّل هذا التجمّع إلى جزء من حزام البؤس الذي يقع ضمن ضاحية بيروت الجنوبية.

أملاك بحرية ومشاعات متنازل عنها

على بعد أمتار من بيت أم علي وفاطمة أي على الخط الموازي للشاطئ، تجمّع للأهالي أمام منزل قديم ومحلات هدمت بلدية الغبيري قسماً منها. يقول أحمد (27 سنة) الذي ولد وترعرع في المكان “نعتصم لمناصرة حق أم سليم وأولادها. البلدية هدمت محلاتهم ونصف منزلهم ويريدون هدم المنزل بكامله كي يبنوا مكانه مستوصفاً”. ويردف حسن (31 سنة) “هذه السيدة ليس لديها أحد. عاشت هنا في أحلك الظروف والحرب”. ندخل بيت أم سليم السبعينية، سقف عالٍ وبهو واسع تتفرع منه غرف واسعة تدخلها الشمس من كل صوب، أثاث متعب ولكنه يشي بعزّ مرّ من هنا. تغرورق عينا السيدة بالدموع شاكيةً حالها لأي صحافي يمرّ في المنطقة: “إلى أين سأذهب في هذا العمر؟ لم أترك بيتي لحظة في الحرب، والآن بعدما استقرت الأمور يريدون تهجيري؟ الكل هنا غير قانوني إلا أنا. فلماذا اختارت البلدية بيتي دون البيوت كلها لتبني عليه مستوصفاً؟”

أسئلة تطرحها أم سليم لا يريد رئيس البلدية الإجابة عنها لـ “المفكرة” على ما يبدو. فقد تواصلت “المفكرة” معه مرّات عدة وكان يعد بإعطاء موعد للإجابة على أسئلتها ويختفي. ثم طلب أن ترسل اليه الأسئلة بالبريد الإلكتروني ليجيب، ولكنه لم يفعل متحججاً بأن لا وقت لديه. انتظرت “المفكرة” ردّه أكثر من شهر، وعندما عاودت الاتصال به من جديد لم يُجب على الهاتف ولا على رسائل الواتساب.

تحكي أم سليم أنها اشترت “هذا البيت في العام 1974 وهو مبني فوق أرض مشاع، ولكن صاحبه الأول حصل على رخصة استثمار. ونعيش هنا مبسوطين مع جيراننا كالأخوة، ونحمل أوراقاً رسمية من وزارة المالية والهاتف والطاقة تثبت أنا نملك البيت”. تحمل أم سليم إيصالات وأوراقاً كثيرة قائلة “أنا الوحيدة هنا التي تدفع رسوم الخدمات العامة وقانونية، بينما الناس كلها تعلّق على خط الكهرباء وتسرق من خطوط الهاتف القديمة التي كانت ممدودة قبل الحرب”.

وتضيف أم سليم: “الأراضي هنا كلها مشاع عام وأملاك بحرية، وكل أصحاب الشاليهات من سياسيين ورجال أعمال نافذين كانوا قبل الحرب مستثمرين في أراضي الدولة ولا يملكون الأرض”.

انتقلت قضية أم سليم اليوم إلى المحكمة ولا تزال تنتظر قرارها الذي تأمل أن يكون عادلاً. ويقول المحامي ميلاد الأبرش الذي تابع قضية أم سليم ولديه معرفة بشأن الوضع القانوني لمنطقة الجناح – الخط البحري أن “المخالفات العقارية والتجاوزات على العقارات في السان سيمون، تعود إلى 80 سنة سابقة، أيام الحكم العثماني والانتداب الفرنسي. لذا نرى عقارات هناك من دون أرقام كانت تشغلها بعض العائلات النافذة في خمسينيّات وستينيّات وسبعينيّات القرن العشرين، منها بمقابل مادي أو من دون مقابل”. “كانت الأراضي تُعطى أو تمنح أو تؤجّر لاعتبارات عدّة تتعلق بعلاقات الشاغلين للعقار مع السياسيين والسلطة في ذلك الحين، أو مقابل خدمات متبادلة، أو مصالح مشتركة”، كما يؤكد السكان والمحامي الأبرش.

يتمّ التداول بالملكية على هذا الشكل، وعلى هذا الأساس يحصلون على رخصة ترميم أو بناء أو حتى رخصة مدّ كهرباء أو مياه أو هاتف. ومعظم الشاليهات والمساكن كي لا نقول كلها، كانت تُتوارث عبر الأجيال مع رخصة استثمار: “يرث الشخص بيتاً مبنيّاً على المشاعات ويحصل على إفادة سكن من المختار ثم يوقع عقد بيع عند كاتب العدل، وهكذا دواليك”.

وفي المنطقة التي تقع فوق الطريق العام، هناك عقار متنازع عليه، تقول أبرشية بيروت المارونية أنه من أراضي الوقف التي تملكها، بينما أصدرت وزارة الداخلية في سنة 1959 قرار مقاسمة العقار مشاعات بين بلديات الغبيري، الشياح وحارة حريك. وفي أواخر الستينيّات رفعت الأبرشية دعوى معترضة على القرار، معتبرة أن الأراضي ملك الوقف. وفي العام 1995، استملك مشروع “أليسار” جميع الأراضي في منطقة الجناح – الخط البحري وصولاً إلى الأوزاعي وأعطى تعويضاً مالياً للأبرشية مقابل التنازل عن الدعوى. ولا أحد يعرف ما إذا كانت التعويضات المقبوضة هي بدل عن الاستملاك. وترفض الأبرشية الإجابة عن هذا السؤال. ويؤكد ميلاد أحد سكان الحي أن “هناك بعض السكان تقاضوا أيضاً تعويضات مقابل إخلاء المنازل في الحي الواقع فوق الأوتوستراد، ولكنّهم عادوا بعدما توقف مشروع أليسار”.

قانونياً، “أصبحت العقارات في السان سيمون وتوابعها، ملك مشروع “أليسار” بعد العام 2001 حيث وضعت يدها على كل العقارات”، بحسب الأبرش. “ولكنّ المشروع تجمّد، وبقي الحق محصوراً في التعويض الذي ما يزال الأهالي ينتظرون أن تدفعه أليسار”.

لكن كلام الأبرش يفيد بأن أصحاب الشاليهات كانوا يتنزهون ويترفهون في أراضي الدولة ومعظمهم استحصل على الأرض بفعل قربه من موقع النفوذ والسلطة. ولم تكن المنطقة منظمة بشكل قانوني ومديني صحيح، بل كانت عرضة لتقاسم أراضيها بين النافذين مع مراعاة لعبة التوازنات. و”أول من جذبت المنطقة في العام 1954 كان رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون الذي قام بواسطة محكمة الرمول بتقاسم جزء كبير من منطقة الرمول مع بعض أصحابها”، بحسب دراسة للمركز الاستشاري للدراسات والتوثيق حول مشروع “أليسار الواقع والتحولات” في العام 1998.

البحر زعلان ما بيضحكشللصيادين

لأم طارق موعدان يوميان مع البحر، في الصباح الباكر مع بزوغ الفجر وعند المغيب. شرفة السيدة السمراء الطويلة لا تطل على البحر بل هي في البحر. “نحن والقمر جيران. أشرب قهوتي هنا ولن أترك هذا المكان لو ملّكوني أفخم بيت في بيروت”. لا تعتبر أم طارق نفسها محتلة “نحن مواطنون في أرض الدولة التي عليها أن ترعانا وتؤمن لها مساكن لائقة بنا”، تقول. وتضيف “كما سمحت الدولة في الستينيّات لأصحاب النفوذ ببناء شاليهات وفنادق على أرضها، يحق لنا المطالبة بالمثل، نحن تخاوينا مع هذه الأرض وسكنا فيها مرغمين في البدء: ألا يحق لنا كناجين من الحرب بحياة كريمة؟ لماذا لا تؤجرنا الدولة هذه الأرض وبالمقابل تقدم لنا الخدمات اللازمة، عندها ستصبح السان سيمون الجنة فعلاً”.

لكن لعتريس نقيب الصيادين الذي وصل إلى السان سيمون وهو في الخامسة، رأي آخر. “لا أريد سوى تعويض لأرحل. حتى السمك رحل لكثرة التلوث ورحل معه مصدر رزق غالبية العائلات هنا لأن الزبائن يفضلون السمك المستورد النظيف. في الماضي كنا نعتاش ونربي عائلات كبيرة من الصيد. ولكنّنا اليوم نموت من الأمراض والسمك يموت من النفايات في البحر”، يحكي بصوت حزين. ويفيد بأن المجارير تقتل السمك وموجات البحر تحمل نفايات مكبّ “الكوستا برافا” فتلوث المأكولات البحرية وتدخل بيوتنا كل شتاء.

أكثر من جهة سياسية وعدت عتريس ورفاقه بدعم قطاع الصيد وبناء سنسول بدل الذي هدم من سنوات بفعل العواصف الطبيعية، وشراء شِباك جديدة وأدوات متطورة، لكن “على الوعد يا كمّون، يتذكروننا قبل الانتخابات ثم ينسون وجودنا”.

مباني محكومة بالإختناق

يعيش ميلاد (42 سنة) الذي ولد في الحي، في غرفة صغيرة مع خالته وأطفاله الثلاثة، بالقرب من مزار السيدة العذراء حيث كانت تقع كنيسة تابعة لأبرشية بيروت المارونية ثم هدمت في الحرب وبني مكانها جامع. لا أسرّة في الغرفة، فقط تلفزيون صغير وكنبة طويلة وفرشات من الإسفنج تستخدم في النهار للجلوس وفي الليل للنوم. للغرفة حمام ومطبخ صغيران، بناهما ميلاد بيده، فقد صبّ كرسي الحمّام من الباطون أما المجلى فهو عبارة عن جرن من الحجارة والرمل مع قليل من الإسمنت. يشتكي ميلاد وكثير من جيرانه من انقطاع المياه وانعدام البنى التحتية. “قدراتنا المادية لا تسمح لنا بشراء المياه يومياً، وأحياناً لا توجد لدينا نقطة ماء لنغسل يدينا، وفي الصيف تبقى العائلات 10 أيام من دون نقطة مياه”.

تثبت دراسة “أليسار الواقع والتحوّلات” بأن لا وجود لبنى تحتية على الإطلاق في المنطقة، وبأن 46.5% من سكان المنطقة يستعملون شبكة مياه بيروت بطريقة غير رسمية، و45.9% منهم يستعملون الآبار الإرتوازية التي حفروها بأنفسهم، إضافة إلى 50.8% يشترون المياه من الصهاريج. وبيّنت الدراسة أن 15.5% يستعملون الحفر الصحية وآبار المراقبة لتصريف المياه المبتذلة، ما يتسبب بتلوث المياه الجوفية وتلوث الهواء. بالنسبة للكهرباء، فالشبكة العامة متوافرة غير أن معظم المساكن تعاني من انقطاع يومي في التيار الكهربائي، وهناك ساعات لا تعمل وأصحاب البيوت يعلّقون على الشبكة العامة. وما زالت الحال على ما هو عليه بعد مرور عقدين من تاريخ نشر الدراسة.

أما المساحات الخضراء والتسلية واللهو، فهي غير موجودة رغم الحاجة الشديدة إليها وقد حلّت مكانها النفايات. ويقول رئيس اتحاد بلديات الضاحية محمد درغام أن طبيعة الحي الهندسية تمنع دخول الآليات للمّ النفايات، إلا أن بلدية الغبيري تقوم بهذه المهمة من أطراف الأحياء من دون أن تقوم بالجباية. وبالنسبة للبنى التحتية وتعبيد الطرقات، “تحاول البلدية قدر المستطاع تقديم الخدمات بحسب طبيعة الأرض والواقع والإمكانيات المادية. فلا ننسى أن المباني آيلة للسقوط وهناك خطر على سلامة الناس في حال دخلت الآليات إلى الأزقة. هذا عدا عن أن الطرقات داخل الأحياء هي في جزء منها ملك خاص لا يمكن للبلدية شق طرقات فيها ولا حفر للمجارير. المنطقة تحتاج إلى مضخات كبيرة لتصريف المجارير تحتاج بدورها إلى تمويل ضخم”.

تصف المهندسة مها لطف جمول التي شاركت في دراسة “أليسار الواقع والتحولات” في مقابلة مع “المفكرة” منطقة الجناح – الخط البحري، بأنها “تجمّع ذو طابع ريفي وتعتبر من أبرز معالم البؤس الاجتماعي في لبنان، وهي مصدر من مصادر احتقان العلاقة بين السلطة والناس”.

وتؤكد أن هذه المباني هي من الأكثر خطورة في بيروت وضواحيها على حياة السكان خصوصاً أنها مبنية بمحاذاة البحر ومتعدية على الأملاك البحرية وتدخلها المياه مع كل عاصفة. وتفيد بأن “كل المباني التي يفوق تاريخ بنائها الأربعين عاماً يجب أن تخضع للفحص الهندسي. فما بالنا بمباني منطقة الجناح – السان سيمون التي بنيت فوق شاليهاتها طبقات إضافية من دون إجراء دراسات كافية تظهر مدى قدرتها على التحمّل. فهي في الأصل غير مستوفية لشروط البناء حتى عندما بناها أصحاب الشاليهات”.

تشرح لطف أن “البيوت هنا بُنيت من اللبن والباطون بحسب دراستي الميدانية، وحتى من دون أن تكوني متخصصة يمكنك أن تتأكدي من خلال النظر أن هذه البيوت غير صالحة للسكن، أولاً من سماكة السقف أو في كثير من الأحيان من عدوم وجود سقف بل إترنيت. فعندما تدخلين إلى بيت يهزّ أو جدرانه بكاملها تنشّ بشكل غريب ما يؤدي إلى تداعيها بعد سنوات من تغلغل المياه فيها، وعندما تجدين بيوتاً مبنيّة من دون أساسات على شاطئ من الرمل، أكيد هي بيوت غير صالحة للسكن. ولبنان موجود تاريخياً على فيالق زلزالية كبيرة، فإذا وقع أي زلزال ولو كان بقوّة منخفضة تقل عن 6 درجات على مقياس ريختر، ستتداعى هذه البيوت كلها وتقع. لذلك نرى سنوياً عبر شاشات التلفزة كيف تواجه المنطقة مشكلات كبيرة تتعلق بالسكن وطوفان البيوت، في أقل عاصفة”. وتؤكد لطف أن “صلاحية المساكن تحتاج إلى فحص هندسي دقيق، وهو من مسؤولية البلدية عادة، لكن للأسف لم يقم أحد بمسح هذه المنطقة المنسية كلياً وأهلها متروكون، على الأقل بما أطلع عليه كمهندسة وما أقرأه في الصحف”.

ترى لطف أن مشروع “أليسار” كمؤسسة عامة كان الحل الأمثل، فقد كان الهدف أن يبقى هؤلاء الناس ذوو الدخل المحدود في بيوتهم لأنهم لا يملكون أوراقاً وقدراتهم قليلة ومهجرون، على أن تنظّم وتصبح لائقة ويُرفع عامل الاستثمار من طبقة وطبقتين إلى خمسة وستّة، على أن تُعطى كل عائلة بيتاً مقابل بيتها بشكل منظّم”.

وحاولت “المفكرة” الاتصال بالقيّمين على مشروع “أليسار”، لكنهم رفضوا التحدث باعتبار أن المشروع متوقف الآن. وفيما تعتبر لطف أن تفعيل المشروع يحتاج إلى قرار سياسي، يرى النائب علي عمّار أن “أليسار” “تجاوز القرار السياسي ولكن يحتاج اليوم إلى التنفيذ والتمويل، واليوم على الحكومة اللبنانية أن تحزم أمرها لإعادة إطلاق أليسار”. ويشرح عمار أن “الدولة قامت بمشروع أليسار الطموح وهو فيه مرسوم قانون (أصبح مؤسسة عامة تابعة لمجلس الوزراء) يُلزمها بتنفيذ إعادة تنظيم وترتيب هذه المنطقة وتوفير بنى تحتية سليمة لها وتحرير الأملاك العامة والخاصة من الإشغال، وإسكان كريم لهؤلاء الناس”. وهو يوافق لطف بأن “أليسار” هو الحلّ الطبيعي لمثل هذه الحالة. ولكن يأسف عمار لأنه “لم توضع لهذا المشروع أسس لتنفيذه من أجل معالجة هذه المناطق العشوائية بشكل إنساني”. وشدّد على أن مشروع “أليسار” يجب أن يترافق مع ضرورة التفات الدولة إلى قرى ومناطق هؤلاء السكان التي أتوا منها في جبيل والبقاع والجنوب، مستحضراً “الأسباب التي جلبت هؤلاء المواطنين أو الكتلة البشرية الهائلة التي تمثل كل مكونات المجتمع اللبناني إلى هذه المنطقة (يتجاوز 250 ألف نسمة في مشروع “أليسار” يعني الجناح والأوزاعي وحي السلم والغدير، وهذا ليس رقماً دقيقاً طبعاً)، على رأسها غياب سياسة التنمية الشاملة للمناطق الريفية والتي لا تزال قائمة حتى الآن، والعدوان الإسرائيلي على الجنوب، وغياب فرص العمل، إضافة إلى بعض الاعتبارات ذات الصلة بالوضع الاجتماعي الصعب الذي يعيشونه في مناطقهم”.

وهل من حلول مؤقتة ريثما يعاد تفعيل مشروع “أليسار”؟ تتحدث لطف عن إمكانية التعامل مع خريجي الكليات الهندسية في العالم العربي الجدد، وإطلاق مسابقة لمشروع عمارة ذات طابع اجتماعي يساهم في منح الناس ظروف سكن لائقة تحترم إنسانيتهم وتطور حياتهم في أماكنهم، وتحسّن مهاراتهم وتعيد توظيفهم (مثلاً تدريب الصيادين) ليكونوا فاعلين في المجتمع وتنتشلهم من التهميش الذي هو غذاء للخروج على القانون. كل ذلك من دون سلخهم عن مجتمعاتهم التي اعتادوا العيش فيها منذ 4 عقود. والتمويل؟ “يأتي وحده خصوصاً أن الخرائط موجودة مع مشروع أليسار”، كما تقول.

وتعتبر لطف أن هدم المنطقة وجرفها لا يجوز أن يتم بشكل عشوائي كما حصل البناء. فالأهالي كانوا مهجرين وهناك ظروف اقتصادية وسياسية أجبرتهم على المخالفة، وتحوّل الحل المؤقت إلى نقمة. أما الآن فهناك دولة وقانون ومن المفترض أن يكون لدينا تخطيط مديني واستراتيجيا سكنية لإعادة ترتيب المنطقة. فتمزيق هذه الكتلة البشرية الضخمة إلى مجموعات متباعدة لا تواصل بينها بحجة ترتيب المنطقة، ليس حلاً إنما هو خروج من الفوضى لا يفتح بالضرورة أبواب التطوير.

وأخيراً، بين الوعود وحالة الانتظار التي يعيشها السكان، إضافة إلى الحياة غير اللائقة، يتخوّف عتريس وأم علي وغيرهم من أهالي الحي، أن تتحول المنطقة إلى منتجعات سياحية تدمّر البيئة أكثر مما فعل المهجرون وتهجرّ الفقراء إلى كانتونات منعزلة عن العاصمة أو خارجها.

وفي الحديث عن الحلول، تشدّد لطف هنا على “ضرورة إعادة إسكان القاطنين الحاليين في منطقة المشروع أي “أليسار” أو أي مشروع جديد مؤقت أو دائم، سكناً وعملاً كحق مكتسب يضمنه القانون اللبناني”.

وهي لا ترى أي تطوير للمنطقة ما لم يتم تصميم المجمعات السكنية لذوي الدخل المحدود الذين هم سكان الحيّ منذ أربعين عاماً، وإعادة النظر في وظائف واستخدامات الأراضي التي تقسم إلى مشاعات عامة وخاصة، وأملاك خاصة وأملاك بحرية.

ولدى سؤال “المفكرة” للطف: هل ينتقص حق هؤلاء السكان في سكن لائق وبنى تحتية جيدة نتيجة المخالفات؟ قالت: “ثقافة الفقر والجهل واللادولة” هي التي تساهم في تعميق المشكلة، خصوصاً أن السكان يساهمون في تخريب أمكنتهم وظروف عيشهم من خلال التعليق على الكهرباء وفتح قساطل المياه، وحفر آبار إرتوازية ورمي النفايات على الشاطئ وفي البحر، غير آبهين بقانون أو قضاء”. ولكنّ النائب عمّار يخالفها الرأي معتبراً أن المخالفات منعت هؤلاء من الحياة الكريمة، وإن كانت حلاً مع بدء الحرب الأهلية، معتبراً أن “الدولة تضع أمامها المخالفات متناسية غياب سياسات التخطيط والتنمية في المناطق الريفية وآثار ذلك على الوضع الاجتماعي والبيئي والاقتصادي، ما دفع هؤلاء المستضعفين إلى المجيء إلى هذه المناطق العشوائية، ولا تزال الدولة حتى الآن في مناطق نزوحهم لا تؤمن لهم أبسط مقومات الحياة التي أصبح اللبنانيون يتشاركون جمعياً في الحرمان منها، وهي خدمات الكهرباء ومياه الشفة والصرف الصحي والاستشفاء، ما يساهم بالتأثير على واقعهم الصحي والاجتماعي والبيئي”. ويؤكد عمّار أن كتلته النيابية وحزب الله لديهم خلية تعطي أولوية لحلّ مشكلات هذه المناطق وأوضاعها، معتبراً أن “الحلول المؤقتة بدأت تبرز مع بناء مراكز عبادة (مسجد) ومستشفى الزهراء والمستشفى الحكومي وبعض المستوصفات”. لكن ماذا عن المدارس والمهنيات ومراكز التأهيل الاجتماعي التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية؟ وماذا عن الأماكن العامة للهو والترفيه؟ ماذا عن الحلول للنفايات والمجارير المنتشرة في المنطقة حيث غالبية السكان تعاني من الحساسية والربو وأمراض السرطان؟ لا أحد لديه إجابات حتى رئيس بلدية الغبيري معن الخليل الذي طلب أن نرسل له أسئلتنا عبر الإيميل ليجيب عنها أو يحدد لنا مقابلة، ولكنه لم يرد رغم محاولاتنا لمرات عديدة الاتصال به.

يبدو أن أهالي السان سيمون متروكون فعلاً للزمن ومزاجية البحر والسياسيين كي ينظروا في أمرهم.

  • نشر هذا المقال في العدد | 60 |  حزيران 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

 منحة السكن ومحنته

1 هو مصطلح يستخدم في لبنان لوصف ترك العاملات الأجنبيات منازل أصحاب العمل.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني