تظاهرة 8 آب: حين أتينا لنغضب فأعلنّا الحداد عالياً كانفجار المرفأ


2020-08-10    |   

تظاهرة 8 آب: حين أتينا لنغضب فأعلنّا الحداد عالياً كانفجار المرفأ
(الصورة لماهر الخشن)

في الرّابع من آب 2020 هزّنا في بيروت وهزّ المدينة انفجار عظيم. أصابنا في كراماتنا كمواطنين، وفي حياتنا، وفي بيوتنا، وفي عائلاتنا، وفي أحيائنا، وفي أعمالنا، وفي مطارحنا.

ونحن نلملم أشلاء أحبّائنا ونرفع أنقاض بيوتنا والكثير من الزجاج المكسور، قلنا إنّ بعد الرّابع من آب ليس كما قبله. وقبل أن نعلن الحداد، خطّطنا لتظاهرة يوم السبت 8 آب كي نكون على الأقلّ شيّعنا ضحايانا، واطمأنّينا على الجرحى، وأنهينا تنظيف بيوتنا، ولصق النوافذ والأبواب بالنيلون، والعثور على بيوت بديلة نبيت فيها إلى حين نصلح الأضرار.

في السابع من آب، كان عديدنا كبيراً جداً. ملأنا ساحتَي الشهداء ورياض الصلح وحديقة سمير قصير والشوارع المتفرّعة من الجمّيزة والصيفي. كان همّنا الأول أن “نفش خلقنا”، أن نُخرج كلّ الغضب الذي كبتناه في اليومين السابقين ليوم التظاهرة، أن نهتف كثيراً، أن نشتم، أن نقول ما أتينا لنقوله: “لن نقبل بعد اليوم أن تستبيحونا”.

حملنا اللافتات بكلّ اللغات، بلغة الشتم، بالفصحى، بالدارج، بالإنكليزية. حملنا مكبّرات الصوت من كلّ الأحجام ولم ننصب منصّة! مشينا بمحاذاة نكبتنا، مررنا بين أنقاض مبانٍ مدمّرة حسبناها ستبقى شاهدة على ما كان من بيروت القديمة، واليوم سقطت ولم يبقَ منها من يخبر القصّة. وسِرنا، نحن الناجون، المنكوبون، الجرحى، أهل القتلى وأصدقاؤهم، أهل الناجين وأصدقاؤهم، على وقع مكّبر صوتٍ خلفه شابة تتلو أسماء القتلى المعروفين ومجهولي الهوية وتسأل “لمين مِتّوا؟ لشو مِتّوا؟”. سِرنا، كلٌّ يحمل قصّته الخاصّة مع الانفجار، وثأره الخاص. “أنا أثأر لأخي القتيل”، “أنا أثأر لأختي المصابة القابعة في العناية الفائقة”، “أنا أثأر لبيتي الذي دُمّر وحالفني الحظ لم أكن فيه”، “أنا أثأر لارتجاف يديّ وركوعي وأنا أنتظر أن يردّ عليّ أخي الصغير”. “أنا أثأر لمدينتي، الشيء الوحيد الذي أملك وأتمسّك به”، “أنا أثأر لكرامتي التي داسوا عليها”، “أنا أثأر لمحلّي الذي أنفقت عليه كلّ مدّخراتي”، “أنا أثأر لعائلتي التي ماتت كلّها في الانفجار”، “أنا أثأر لشاب حلو ومليح وعيونه عسلية”…

ووصلنا ساحة الشهداء. كانت القنابل المسيلة للدموع بانتظارنا. وبدلاً من الغضب، سالت دموعنا غزيرةً، وانهمكنا بالتراجع هرباً من القنابل، وبعضنا يقول: “ما نشفوا دموعنا بعد، وعم يكبّوا علينا مسيّل للدموع!”.

ومع كل قنبلة أطلقتها قوى الأمن، وكلّ رصاصة مطّاطيّة وحيّة أطلقها الجيش، وكل حجر رماه المتظاهرون، وكلّ هتاف ضدّ زعيم، وكلّ مشنقة علّقت مجسّماً لأحد رموز السلطة، كنّا ندرك أنّ شيطنة غضبنا المحقّ بدأت؛ وأنّ كلّ الحشد الذي تجمهر في الساحات يوم السبت، وكلّ الغضب الذي راكمناه سيذهب هباء.

ولكننا لم نتفرّق سريعاً. بقينا وقتاً طويلاً في الساحة التي استعدناها في 17 تشرين. كيف لا؟ و”الساحة لا ما نتركها”. كنّا كمن يُستهدف في عقر داره، تراجعنا إلى مواقع أخرى في ساحتنا اعتبرناها بمنأى عن الدخان: موقف العزارية، جمعية المصارف، الصيفي. وفي كلّ من هذه النقاط حاول بعضنا الهتاف، كنّا مجموعات صغيرة جدّاً وكان نفسنا مقطوعاً، وبين الحين والآخر كان يمرّ بيننا مصابون محمولون على الأكفّ أو على حمّالات المسعفين أو في سيارات الإسعاف. كانت قوى الأمن تطلق المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وكانت تصل الأخبار من رفاقنا عن عناصر تطلق الرصاص الحيّ وعن موقوفين بلغ عددهم عشرين.

ربّما هذا الأمر هو ما دفع مجموعات أخرى منّا إلى التوجّه إلى الوزارات ـ بغضّ النّظر عن أجندات ما قد تكون وراء ذلك (صراع أصهرة في وزارة الخارجية، أو نزاع سياسي في وزارة الطاقة). دخل بعضنا “الخارجية” أوّلاً، وأعلنها مقرّاً للثورة لبضع ساعات، قبل أن يأتي الجيش ويسدل الستارة على العرض الشيّق من دون أن يتسنّى لنا تلاوة البيان رقم واحد. عرض دغدغنا للحظات في خلايا أدمغتنا، التي كانت في السّابق تفرز الأمل قبل أن تجفّ وتتشقق. جمعية المصارف ثانياً، حيث صدحت حناجر الناشطين الأعتى من مجموعات اليسار “تسقط سلطة رأس المال”. ووزارة الاقتصاد ووزارة البيئة التي لم لا تزال أصوات المتظاهرين الذين اقتحموها في حراك 2015 تتردد في أرجائها. ووزارة الطاقة ثالثاً، وملفّات تفوح منها رائحة الفساد استطعنا إخراجها قبل أن يأتي مراسل يحامي عنها “باعتبارها ملفّات دولة”، ويتّهمنا بسرقة وزارة كان يمكن في حياةٍ فضلى تحويلها إلى متحفٍ للفساد.

في السّابع من آب، حاولنا الغضب ولكنه تبدّد مع دخان القنابل المسيلة للدموع. حاولنا التعبير، فسال دموعاً ومخاطاً، بفعل القنابل ورائحة البصل. ولكننا بعد السابع من آب، سنعلن الحداد ونعيشه بكلّ ما أوتينا من أسى. ليس لكي نُشفى من مصابنا، بل على طريقة الأم الثكلى التي تتّشح بالسّواد طيلة حياتها، وتبقى تناجي إبنها القتيل. وعلى طريقة أهل القتيل الذين لا يُشفى غليلهم إلّا بالانتقام.

سنعلن الحداد عالياً صاخباً، كما انفجار المرفأ، نحن المتروكون كاليتامى نواجه قدرنا، ونلملم أشلاءنا وحدنا، ونرفع حطام مدينتا بأيدينا، سنعلنه انتقاماً. إنّها حرب تشنّها السلطة علينا كشعب بكلّ أسلحتها غير التقليدية من تلوّث من أدوية فاسدة من طعام منتهي الصلاحية، من غلاء معيشة، من طرقات محفّرة مظلمة، من قضاء شبه معطّل يترك الموقوف فيه عمراً من دون محاكمة، من فساد، من محاصصة تعيّن أشخاصاً غير كفوئين في غير مواقعهم، من حجز أموال حياتنا في المصارف، من نظام استشفائي متهالك، من غياب للرقابة، وأخيراً وليس آخراً من قنبلة موقوتة ننام قربها وتنتظر خطأ واحداً لتنفجر فينا.

وإن حان وقت الحساب وطلبوا العفو، لن نعفو. فالمؤمن لا يلدغ من الجحر مرّتين.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، أحزاب سياسية ، حرية التعبير ، حرية التجمّع والتنظيم ، لبنان ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني