تطوّر كبير في عدد المبادرات التشريعية للنوّاب: الأثر الجانبي لتشظّي المشهد البرلماني؟


2021-03-05    |   

تطوّر كبير في عدد المبادرات التشريعية للنوّاب: الأثر الجانبي لتشظّي المشهد البرلماني؟
تصوير أحمد زروقي

شهدت السنة الأولى من عمر البرلمان طفرة ملحوظة في تقديم النوّاب مبادرات تشريعية، خاصّة بالمقارنة مع برلمان 2014-2019. فقد قدّم النوّاب الجدد 52 مقترح قانون، أي أكثر من ثلاثة أضعاف المعدّل السنوي لإيداع مقترحات القوانين في البرلمان السابق (14)، ومن ستّة أضعاف حصيلة سنته الأولى التي شهدت إيداع ثماني مبادرات تشريعية فقط للنوّاب السابقين. هذا الارتفاع يبدو ناتجاً عن تعدّد الكتل النيابية، بأحجام متقاربة نسبياً، وحدّة المنافسة السياسية بينها. فأصبح التقّدم بمقترح قانون وسيلةً لتمرير رسائل سياسية، والتوجّه إلى فئات معيّنة من الناخبين، وإظهار صورة أخرى لعمل سياسي بنّاء ومسؤول، وهي صورة يُؤمَل أن تقطع مع الصورة السائدة لدى الرأي العامّ عن البرلمانيين، وهي استغلال صفتهم لكسب امتيازات خاصّة.

إلّا أنّ بعض هذه المقترحات ذهب في اتّجاه معاكس حيث ساهم في تكريس الصورة النمطية نفسها للنوّاب. أبرز هذه المقترحات التي جاز إدراجها في هذه الخانة، كان مقترح تكريس حقّ النوّاب في جواز سفر دبلوماسي الذي تقدّم به نوّاب من معظم الكتل النيابية بعد رفض رئيس الجمهورية الإذن بإصدار مثل هذه الجوازات كما كان يحصل عادة. منها أيضاً، مقترح تجريم القذف الإلكتروني الذي ظهر للرأي العامّ كتحصين للسياسيين من الانتقادات اللاذعة، فاضطرّ المبادرون إليه لسحبه. وكذلك مقترح تنقيح المرسوم 116 الذي تقدّم به “ائتلاف الكرامة”، وبدا، إن لم يكن للرأي العامّ فعلى الأقلّ للهياكل المهنية، كمحاولة من حِزبَيْ “قلب تونس” و”النهضة”، عن طريق حليفهما، لتحصين أذرعهما الإعلامية من الرقابة.

 

بين الكتل النيابية، التنافس أقوى من التنسيق 

تصدّر “ائتلاف الكرامة” قائمة الكتل الأكثر إيداعاً لمقترحات قوانين حيث قدّم 19 مبادرة تشريعية (أكثر من ثلث إجمالي مقترحات القوانين)، تليه “الكتلة الديمقراطية” (13) ثمّ “حركة النهضة” (9). أمّا الكتل الأخرى، فتراوح نصيبها بين مقترح واحد لكتلتَيْ “المستقبل” و”الإصلاح” و”الكتلة الوطنية”، وثلاثة مقترحات لـ”الدستوري الحرّ”، في حين لم تقدّم كتلتا “قلب تونس” و”تحيا تونس” أيَّ مقترح قانون خاصّ بهما. 

ولعلّ ما يلفت الانتباه بالمقارنة مع العهدة النيابية السابقة، هو ضعف نسبة مقترحات القوانين التي تجمع أكثر من كتلة نيابية، والتي كانت تمثّل نصف المبادرات التشريعية في السابق بينما لم يتجاوز عددها في السنة الأولى من عمر البرلمان الحالي ستّ مبادرات، أي بالكاد أكثر من 11% من إجمالي مقترحات القوانين. ويمكن تقسيم هذه المبادرات، على قلّتها، إلى أصناف عدّة، إذ نجد من بينها المبادرتَيْن اللتين سبق ذكرهما، ولقيتا معارضة كبيرة لدى الرأي العامّ، وظهرتا كمسعى من قوى سياسية لتحصيل امتيازات وحماية قانونية لهما، بخاصّة وأنّ معظم الكتل توافقت حولها منذ الأشهر الأولى بعد انتصاب البرلمان، وهما مقترح جوازات السفر الدبلوماسية للنوّاب، ومقترح تجريم القذف الإلكتروني. أمّا الصنف الثاني، فيتعلّق بمبادرتين جاءتا بضغط من حراك اجتماعي؛ الأولى، مقترح الانتداب الاستثنائي لمن طالت بطالتهم، والذي حظي بدعم معظم الكتل رغم الشكوك حول دستوريته وقابليته للتنفيذ؛ الثانية متعلقة بوضع نظام أساسي لسلك كَتَبَةِ المحاكم، والذي تقدّمت به نقابتهم وأمضى عليه نوّاب من كتل عديدة، معظمهم من الأغلبيّة البرلمانية. أمّا المقترحان المتبقّيان، فأحدهما أعدّه النائب المستقلّ ياسين العياري ويتضمّن امتيازات جبائية لفائدة التونسيين بالخارج، واحتاج إمضاءات نوّاب من كتل مختلفة لإيداعه، والثاني صدر عن أعضاء لجنة شهداء الثورة وجرحاها المنتمين لكتل متعدّدة، لتنقيح قانون العدالة الانتقالية.

كما يمكن أن نضيف إلى هذه القائمة مقترح قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي تقدّمت به “الكتلة الديمقراطية”، ولكنّه تضمّن كذلك خمسة إمضاءات من خارجها، لنائبَيْن مستقلَّيْن وثلاثة نوّاب ينتمون تباعاً لكتل “تحيا تونس” و”الإصلاح” و”الوطنية”.

لكن، ما يجمع بين مختلف هذه المبادرات هو غياب كتلة “الحزب الدستوري الحرّ” عن قائمة الممضين. ما يؤشّر من جهة، إلى ضعف التنسيق بينها وبين بقيّة الكتل، ومن جهة أخرى، إلى مدى انضباط نوّاب الكتلة لرئيستها، على عكس ما يحدث في أحزاب وكتل أخرى حيث “تنفلت” بعض الإمضاءات على مبادرات تشريعية قد لا تحظى رسمياً بدعم الحزب.

في المقابل، يظهر تشتّت الجهد التشريعي وضعف التنسيق بين النوّاب مثلاً، في تعاملهم مع مسألة منع البنك المركزي من تمويل الميزانيّة مباشَرةً التي حظيت بثلاثة مقترحات قوانين: الأوّل طرحته كتلة “المستقبل” ويقضي ببساطة بإلغاء العمل بقانون 2016 وإعادة إحياء قانون 1958. في حين عجز حزبا “التيار الديمقراطي” و”حركة الشعب”، رغم تحالفهما ضمن الكتلة نفسها، عن الوصول إلى موقف موحّد فأودع نوّاب كلّ منهما مبادرة مختلفة. وقد كان ممثّلوهما في البرلمان المتخلّي قد التقوا مع كتل أخرى على مقترح قانون واحد يرمي إلى الهدف نفسه. قد يفسَّر هذا الأمرُ بالأهميّة التي اكتستها في الأشهر الأخيرة إشكاليّة تمويل البنك المركزي للميزانيّة، لكنّه أيضاً، يعود إلى امتلاك كلٍّ منهما عدداً كافياً من النوّاب للتقدّم بمبادرة تشريعية. فتعدّد القوى السياسية المُمَثَّلة بعشرة نوّاب فأكثر، خلافاً للمشهد البرلماني السابق الذي كان أقلّ تشرذماً، ساهم بشكل كبير في هذه الطفرة.

طفرة لا تعكس بالضرورة مجهوداً تشريعياً كبيراً

لا شكّ أنّ ارتفاع عدد مقترحات القوانين ظاهرة إيجابية، تعكس وعياً أكبر لدى النوّاب لدورهم التشريعي الذي لا يقتصر على مناقشة المشاريع الواردة من السلطة التنفيذية. إلّا أنّ هذه الطفرة في إيداع مقترحات القوانين لم تنعكس بعد في الحصيلة التشريعية، حيث لم تتمّ المصادقة سوى على مقترح واحد، وهو المتعلق بالانتداب الاستثنائي لمن طالت بطالتهم. وهذا الأمر يعود، بالإضافة إلى ضغط الحراك الاجتماعي، إلى التنسيق المُسبَق بين الكتل النيابية عند اقتراح النصّ الذي جمع عند إيداعه نوّاباً من سبع كتل نيابية. كما لم تُنهِ اللجان مناقشة سوى القليل من مبادرات النوّاب، كتنقيح قانون المحكمة الدستورية للكتلة “الديمقراطية”، ومقترحَيْ “ائتلاف الكرامة” بتنقيح المرسوم 116 وتنقيح القانون المنظِّم للتقاعد.

يظهر، بالاطّلاع على قائمة مقترحات القوانين، أنّ معظمها (أكثر من ثلثيها) يتعلّق بتنقيح فصل أو أكثر من قوانين نافذة، كالمجلّة الجزائية وقانون المساجد ومجلّة الاتّصالات ومجلّة الجنسية ومجلّة التأمين والمرسوم المنظِّم للأحزاب السياسية. إنّ مجمل مقترحات كتلة “ائتلاف الكرامة” كانت على هذه الشاكلة، مما يقتضي تنسيب التقييم الكمّي لأدائها التشريعي. فلا تحتاج صياغة مثل هذه المبادرات، بغضّ النظر عن فائدتها أو خطورتها، مجهوداً تشريعياً كبيراً. أمّا المقترحات التي تضمّ عشرة فصول وأكثر فلا يتجاوز عددها العشرة.

كما أنّ عدداً من المبادرات التشريعية التي تمّ تقديمها في سنة 2020 ليست إلّا نُسَخاً عن مبادرات تشريعية قديمة. فقد عمدت بعض الكتل، وبخاصّة الكتلة “الديمقراطية” وكتلة “حركة النهضة”، إلى إعادة اقتراح مبادرات سبق أن قدّمتها هي نفسها في المدّة البرلمانية الفارطة. فأودعت الأولى مقترحَيْها المتعلّقَيْن بتنظيم سبر الآراء وتنقيح نظام التعويض عن الأضرار الناتجة لأعوان قوّات الأمن الداخلي عن حوادث الشغل والأمراض المهنية، في حين أعادت الأخيرة طرح مقترحَيْها المتعلّقَيْن بترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها، وبتثمين التراث الجيولوجي وحمايته. كما تمّ إيداع مقترحات قوانين سبق تقديمها بصفتها مشاريع قوانين حكومية، كمقترحَيْ “حركة النهضة” تنقيح مجلّة الجنسية وإدراج عتبة انتخابية الذي صادق عليه البرلمان في صيف 2019 ولم يختمه رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي، ومقترح القانون المنظِّم للقطاع السمعي البصري الذي قدّمته حكومة الفخفاخ، وطلبت حكومة المشيشي سحبه فأعادت الكتلة “الديمقراطية” إيداعه.

 

وسيلة ناجعة لتحقيق أهداف سياسية

سعت بعض الأحزاب، عن طريق إيداع مقترحات قوانين، إلى التوجّه إلى فئات محدَّدة من الناخبين، كما في مقترح الامتيازات الجبائية لفائدة التونسيين في الخارج الذي بادر إليه النائب عن دائرة فرنسا 1 ياسين عياري، ومقترحَيْ الكتلة “الديمقراطية” بإنشاء بلديات في كلّ من جرزونة والحرارية، ومقترح نوّاب “حركة الشعب” الذي سيسمح بترسيم عملة الحضائر الذين تجاوزت أعمارهم 45 سنة، وبعض مقترحات “ائتلاف الكرامة” كتنقيح قانون المساجد، أو تجريم البغاء العلني، التي تسعى لاستمالة الناخبين الأكثر تديّناً ومحافظة.

كما استغلّت الأحزاب آليّة مقترحات القوانين لإثبات امتلاكها برنامجاً انتخابياً قابلاً للتنفيذ، وسعيها إلى تحقيقه حتى إن كانت في المعارضة. فأودع “الحزب الدستوري الحرّ” مبادرة لإنشاء وكالة “تونس الخزينة”، وهو استنساخ للتجربة الفرنسية كان من أهمّ نقاط برنامجه الاقتصادي، واقترحت كتلة “المستقبل” منذ الأسابيع الأولى مقترحاً لإلغاء قانون 2016 المنظِّم للبنك المركزي والعودة لقانون 1958 الذي كان بدوره من أبرز مقترحات “حزب الاتّحاد الشعبي الجمهوري” وزعيمه لطفي المرايحي. كما اقترحت حركة النهضة من جهتها مبادرة لتنظيم المؤسّسات التضامنية، وهي شكل مستوحى من نظام الأحباس (الأوقاف) الذي تمّ إلغاؤه في تونس بعد الاستقلال، وهو من أبرز نقاط برنامج “حركة النهضة” منذ سنوات.

ولم تتردّد بعض الكتل في استهداف بعضها البعض بمقترحات قوانين، كما فعل “ائتلاف الكرامة” بمقترح تنقيح مرسوم الأحزاب لمنع تمجيد الدكتاتورية، ومقترح تنقيح قانون مكافحة الإرهاب لجعل “الإشادة والتمجيد بالاستبداد والديكتاتورية وإهانة وترذيل شهداء الثورة التونسية وجرحاها” جريمة إرهابية وكذلك “التحريض على الانقلاب أو التمرّد على مؤسّسات الدولة المُنتخبة” و”وصم غيره بالإرهاب والتكفير بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو ثقافية أو غيرها من دون أن يكون قادراً على إثبات ذلك”. في السياق نفسه، وإن بأقلّ حدّة، تقدّمت “حركة النهضة” كذلك بمقترح قانون يقضي بتجريم خطاب التحريض على الكراهية والتباغض، الذي لم يخفِ، حسب شرح أسبابه، استهدافه لخطاب عبير موسي.

احتلّت المسائل السياسية والانتخابية والبرلمانية نسبة هامّة من مقترحات القوانين، كما في البرلمان السابق. في المقابل، يبدو لافتاً تراجع نسبة مقترحات القوانين في مجال الحقوق والحرّيّات، إذ لا تتجاوز 10%، وكانت تناهز 20% في المدّة البرلمانية الفارطة، ما يؤشّر إلى ضعف اهتمام معظم الكتل بالحقوق والحرّيّات. هذا ما نستشفّه أيضاً من عدم إيداع مقترح مجلّة الحرّيّات الفردية من جديد، على خلاف مبادرات أخرى أعيد تقديمها. كما يبدو صادماً غياب مقترحات القوانين المتعلّقة بالبيئة حيث تقتصر على مقترح قانون تثمين التراث الجيولوجي وحمايته الذي أعادت “حركة النهضة” تقديمه.

كلّ هذا لا ينفي حصول تطوّر إيجابي مع هذه الحركية التشريعية، في انتظار أن تترشّد أكثر في المستقبل، سواء بمزيد من التنسيق بين الكتل أو حتّى مع منظّمات المجتمع المدني. على أمل أن ترتقي من مجرّد رغبات في تسجيل نقاط سياسية، إلى مساعٍ إلى تطوير المنظومة التشريعية بما يواكب حاجات المجتمع وتطوّره.

 

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني