تطوّر جديد على صعيد “الهوية الطائفية” في لبنان: قرار قضائي بتصحيح اسم يؤشر الى انتماء ديني


2014-04-08    |   

تطوّر جديد على صعيد “الهوية الطائفية” في لبنان: قرار قضائي بتصحيح اسم يؤشر الى انتماء ديني

بتاريخ 24-3-2014، أصدر القاضي المنفرد في جويا بلال بدر قراراً بقبول طلب سيدة لبنانية (27 سنة) بتغيير اسمها الأول بالولادة باسم ثان على خلفية أنه بات في تناقض مع الواقع بعدما دأب أهلها وأصدقاؤها على مناداتها بالاسم الثاني قبل أربع سنوات من تقديم الطلب. ويفهم من نص القرار أنها هي التي طلبت من محيطها مناداتها باسم آخر، وذلك على خلفية أن اسمها بالولادة يعبّر عن انتمائها الطائفي وأنها ترغب بالابتعاد وتغيير كل ما يمكن أن يدل على طائفتها أو دينها؛ علماً أنها كانت قد قامت بشطب قيدها الطائفي من قيود السجلات الشخصية انسجاماً مع هذه الرغبة. كما يفرد القرار بعض مقاطعه لعرض دوافعها في هذا المجال: فهي اقتنعت “من خلال معايشتها للواقع اللبناني ورؤيتها لصراع الطوائف فيه، الذي وصل إلى حد الاقتتال… بعدم جدوى الانتماء إلى دين معين، وعموماً الى أي طائفة” وهي “تعتبر نفسها فتاة علمانية لا ترغب بالانتماء إلى أية طائفة لا من حيث الاسم ولا العقيدة” وهي “غير مقتنعة بالواقع الفعلي للطوائف والأديان في لبنان” وإن كانت “تؤمن بوجود الله”. وتالياً، جاء استدعاؤها استكمالاً لنضالاتها السابقة والتي هدفت الى تغليب الهوية التي تريدها على هويتها الموروثة. فهي نجحت في التحرر من نسبها الى طائفة والدها بالولادة في قيود الدولة؛ وها هي تسعى الى التحرر قانونياً من اسمها الذي يعكس الهوية التي أرادها والداها لها عند الولادة بعدما نجحت في انتزاع اعتراف محيطها بحقها بتحديد هويتها الجديدة. ومن هذه الوجهة، يشكل هذا القرار تطوراً أساسياً على صعيد حق الفرد في التحرر من الهوية الطائفية، يضاف الى التطور الكبير الذي أحدثته مسألة شطب الطائفة وعقود الزواج المدني في لبنان.

ولتحديد وجهة القرار، ناقش القاضي مسائل ثلاثاً في حيثيات عدة، وذلك انطلاقاً من الأحكام القانونية والمبادئ العامة التي ترعى مسألة تغيير الاسم، وخاصة المادة /21/ من المرسوم الصادر في 15/1/1932، التي تنص على عدم جواز تغيير الاسم إلا بموجب تصحيح تقوم به المحكمة المختصة. ومرد التمييز بين تغيير الاسم وتغيير قيود شخصية أخرى يمكن إجراؤه بقرار إداري كالصنعة والمذهب والدين ومحل الإقامة، هو الحؤول دون الإخلال باستقرار العلاقات الاجتماعية والمالية والإضرار بالغير.

والمسألة الأولى التي تعرّض لها القاضي انطلاقاً من ذلك هي كيفية تفسير مفهوم “التصحيح” الوارد في المادة 21 المشار اليها أعلاه. وقد استقى القاضي من قرارات محكمة التمييز ما يسمح له بتوسيع هذا المفهوم ليشمل حالات تتجاوز حالات الخطأ المادي البحت. فوفق القرارات المشار اليها فيه، بالإمكان تصحيح الاسم لجعله “مطابقاً للواقع بعدما كان خطأ وبغض النظر عن مصدر أو سبب هذا الخطأ، إذ إن العبرة هي لتطابق القيد مع واقع الحال”[1]  أو أيضاً  “في حالات معينة ولو لم يكن هنالك أي خطأ يشوبه عند إجراء القيد، وذلك عندما يسبِّب الاسم أضراراً نفسية بليغة بصاحبه، أو أن يكون محط ازدراء وسخرية أفراد المجتمع”[2]. وانطلاقاً من هذه القرارات، خلص القاضي الى القول بأن طلب التصحيح المعروض أمامه مشمول من حيث المبدأ بمفهوم التصحيح الوارد في المادة 21 المذكورة أعلاه، بعدما تثبت أن اسم المستدعية الواقعي، والحقيقي الذي تنادى به، راهناً، وقبل أربع سنوات من تقديم الدعوى الراهنة، هو دانة، ما يجعل اسمها “زينب” المدوّن في سجلات الأحوال الشخصية، “غير معبّر عن الواقع”.

ومن خلال تقويم أولي للقرار، يظهر أن قبول الطلب كان متصلاً مباشرة في نجاح المستدعية في إثبات تجاوب محيطها مع مطلبها، وأن القبول ما كان ليحصل لولا نجاحها في ذلك. فكأنما القاضي يعلن حصول تغير الاسم واقعياً من دون أن ينشئه، على نحو يحد من حالات قبول طلبات مماثلة. وبالمقابل، تجدر الإشارة هنا الى أن الواقع الذي أخذ به ليس واقعاً نشأ بفعل عوامل خارجة عن إرادة المستدعية، إنما على العكس تماماً، ما كان لهذا الواقع أن ينشأ لولا هذه الإرادة. وهذا الأمر إنما يؤشر الى توجه القاضي الى تفسير مفهوم التصحيح على نحو يوسع هامش إرادة الشخص في تعديل اسمه، وإن بقيت هذه الإرادة غير حاسمة وغير كافية. وما يعزز هذه القراءة هو تساهل القاضي في تثبيت الواقعة من دون اشتراط تحقيقات إضافية لما قامت به المديرية العامة للأمن العام والتي اتصلت بمعرفة سبب التغيير من دون أي إشارة الى مدى تداول الأهل والأصدقاء بهذا الاسم.

أما المسألة الثانية التي تطرق القرار اليها، فقد اتصلت بالتدقيق في مدى تعارض الطلب مع أي من قواعد النظام العام. فلا يمكن قبول الطلب إذا كان سبب اختلاف الاسم الحقيقي عن الاسم المدوّن غير مشروع. وهنا، انتهى القاضي الى تجاوز هذه المسألة أيضاً، وذلك على ضوء الحجج التي أعطيت لإثبات الحق بشطب القيد الطائفي من قبل مصممي حملة الشطب[3]ومن ثم من قبل هيئة التشريع والاستشارات[4]، فضلاً عن استناده الى الميثاق العربي لحقوق الإنسان.

وأهمية القرار تكمن هنا في أمور عدة: الأول، أنه أكد مجدداً الطابع المطلق لحرية المعتقد، وذلك تيمناً بعدد من القرارات الصادرة سابقاً عن عدد من المحاكم العدلية[5]. وبذلك، تشمل حرية المعتقد إمكانية اعتناق معتقد معين أو عدم اعتناقه من دون أن تكون ممارستها محصورة بالأديان المعترف بها رسمياً كما عبّر عنه مجلس شورى الدولة مؤخراً في عدد من قراراته[6]. والثاني، أنه أول قرار قضائي يؤكد أن حرية المعتقد تشمل أيضاً حرية التعبير علنياً أو غير علني عنه، وهي الحرية التي استند اليها الأشخاص الذين طلبوا شطب قيودهم الطائفية. لا بل إن القرار ذهب الى حد القول بأن عدم إظهار الانتماء الديني، هو حق يضمنه الدستور اللبناني، مستمداً ذلك من حرية إقامة الشعائر الدينية المكرّسة في المادة 9 من الدستور. وانطلاقاً من ذلك، اعتبر الحكم في حيثية هامة أن تغير الواقع تم لأسباب مشروعة ما دام قد استند الى إرادة مشروعة ومضمونة بحرية المعتقد.

وهنا، تجدر الإشارة الى أن القرار تناول هذه المسألة من زاوية مشروعية التغيير الحاصل واقعياً في مناداة المستدعية (أي مشروعية الواقع الجديد) وليس مشروعية حقها بتغيير اسمها بحد ذاته. وهذا الأمر إنما يؤكد ما ذكرناه أعلاه وهو أن المحكمة آثرت التدقيق في صحة الطلب انطلاقاً من أنه تصحيح لواقع سبق تغييره، أكثر مما هو تغيير لواقع. وهذا الأمر يعكس هنا أيضاً، حذراً لدى القاضي مفاده حصر إمكانية تغيير الاسم بمن تثبت لديه إرادة ثابتة ومستقرة وفاعلة في محيطه المباشر على نحو أدى الى إيجاد واقع جديد. وقد يفسر هذا الموقف بسعي القاضي الى الموازنة بين مقتضيات حرية المعتقد وضرورة المحافظة على استقرار القيود ومصداقيتها والحؤول دون الإخلال بالعلاقات الاجتماعية والمالية والإضرار بالغير وبالمصلحة العامة. وهي تالياً ترتبط بالمسألة الثالثة التي ناقشها القرار والمتصلة في مفاعيل تغيير الاسم على الغير، لينتهي الى تجاوزها أيضاً من منطلق الواقع المستجد، والذي يفرض على العكس تماماً تغيير الاسم المدوّن ضماناً لصحة القيد وتطابقه مع الواقع.

وبالطبع، يطرح هذا الموقف القضائي أسئلة مشروعة حول إمكانية تطوره مستقبلاً، في اتجاه الاعتراف بهامش أوسع للفرد بتغيير اسمه وتالياً بفرض الهوية التي يريدها على الهوية المفروضة عليه بالولادة، بمعزل عن أي تغيير للواقع. أفلا يمهد الربط الحاصل بموجب هذا القرار بين إرادة تغيير الاسم وحرية المعتقد، ومن خلالها مجمل الحريات الملازمة للفرد، لتجاوز المادة 21 قضائياً وإلا تشريعياً، على أساس المبادئ  العامة أو المعاهدات الدولية؟ وما يعزز هذا التوجه هو بعض القرارات القضائية التي وضعت أن حرية التعبير قولاً وكتابة المنصوص عنها في المادة 13 من الدستور تنطوي تحتها حرية المرء في اختيار الاسم الذي يعرف به بين أنداده وذلك بدعوتهم لمخاطبته بهذا الاسم أو الشهرة أو للتعامل معه على أساسهما[7].

مهما يكن التوجه مستقبلاً في هذا الصدد، فإنه من المؤكد أن هذا القرار يقدّم مؤشراً آخر على تصاعد المعركة الحقوقية المرتبطة بتحرير الفرد من الهوية الطائفية وتوسعها نحو أشكال وساحات جديدة من أبرزها ساحة القضاء. وربما تؤدي حيطة القاضي في اشتراط قبول الطلب بنجاح الطالب بانتزاع اعتراف محيطه به، الى تحولات غير منتظرة في سياق هذه المعركة: فيتحول الناشط من مطالب لإعمال الحق الملازم لشخصه بمعزل عما يريده الآخرون، الى فاعل اجتماعي يسعى الى إقناع محيطه المباشر، أقله في عدد من القضايا، لاكتساب مشروعية المطالبة بما يرغب به.
بقي أن نشير الى أن القاضي نفسه كان قد أصدر قراراً آخر في 11-2-2014 بتصحيح اسم عائلة من عبد علي الى عبد العلي وذلك على أساس أن شهرته التي تصوره كعبد لإنسان لا كعبد لله، مخالفة لما يعتنقه ويؤمن به من مبادئ شرعية وفقهية. عند مقاربة الحكمين، يظهر أن اجتهاد المحكمة والتزامها في هذا المجال هو سعي الى احترام حرية الفرد برسم هويته وإعلانها وفق المعتقد الذي يراه مناسباً، في موقف حقوقي لا غلبة فيه لمعتقد على آخر.

نشر في العدد الخامس عشر من مجلة المفكرة القانونية  للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا

المزيد عن الحكم على الرابط ادناه


[1]قرارات صادرة في 9-7-2002 و29-6-2004  و28-2-2007 عن الغرفة الخامسة لمحكمة التمييز، منشورة في موسوعة كساندر الإلكترونية،
[2]قرار صادر في 27-10-1988 عن محكمة استئناف جبل لبنان، منشور في مصنف الرئيس عفيف شمس الدين، في قضايا الوصية والإرث والأحوال الشخصية، بيروت 1996، ص 466، كذلك قرار صادر في 26-7-1989 عن استئناف النبطية، المرجع عينه، ص 470.
[3]وضع النص الكاتب طلال الحسيني وقدمه عدد من الشبان في منتصف نيسان 2007 كتعبير لرفضهم الطائفية.
[4]صدرت الاستشارة في 5-7-2007.
[5]نزار صاغية، القاضية الخطيب وحزب التحرير والمادة 9 من الدستور: لمن اراد ان يؤمن بالخلافة اوان لا يؤمن”، المفكرة القانونية، عدد 4،
[6]غيدة فرنجية، شورى الدولة يضحي بحريات أساسية على مذبح النظام، المفكرة القانونية، عدد 9، أيار 2013.
[7]قرار صادر في 19-6-1967 عن الغرفة الثالثة لمحكمة التمييز، منشور في مصنف الرئيس شمس الدين الإلكتروني.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مجلة لبنان ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني