تطبيق متعثّر لمنظومة الشراء العمومي على الخط «تونيبس»: «الفساد يتغذى من العتمة والسرّ»


2020-08-15    |   

تطبيق متعثّر لمنظومة الشراء العمومي على الخط «تونيبس»: «الفساد يتغذى من العتمة والسرّ»

تصدرت التقارير الرقابية حول قضية تضارب المصالح لرئيس الحكومة المستقيل إلياس الفخفاخ المشهد التونسي حيث سلطت الضوء على جملة من الإخلالات والتجاوزات التي تطال إبرام الصفقات العمومية في مختلف مراحلها. تحتل العقود التي تبرمها الإدارة في علاقة بالشراءات العمومية مكانة هامة من ميزانيتها. حيث تمثل الشراءات العمومية أكثر من 18% من الناتج الداخلي الخام للدولة التونسية وحوالي 35% من ميزانية الدولة[2]. وقد عرفت مبالغ هذه الصفقات ارتفاعا خلال الست سنوات الأخيرة اذ قفزت سنة 2011 من 2440 مليون دينار إلى 6363 مليون دينار سنة 2016[3]. ونظرا لما لهذه الأموال من انعكاسات على جميع الأصعدة، فإن سوء التصرف فيها يحول دون تحقيق التنمية والإستثمار. حتى أنّ رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد كان قد أفاد مؤخرا أن 25 % من اجمالي الصفقات العمومية تذهب إلى جيوب الفاسدين.

إنّ الإطار القانوني للصفقات العمومية في تونس في تطور مستمر خاصة بعد قيام الثورة التونسية وصدور الدستور في سنة 2014 والذي يفرض الإلتزام بتكريس واحترام مبادئ المساواة والشفافية. ويعتبر الأمر عدد 1039 المتعلق بالصفقات العمومية من النصوص المتميزة الذي تعرّض في المجمل لكل النقاط المتعلقة بالشراءات العمومية حيث كرّس جميع المبادئ المنظمة للشراءات العمومية. ولعلّ تطرقه لمنظومة الشراء العمومي على الخط يعدّ من أهم مظاهر تدعيم مبدأ النزاهة ومكافحة الفساد ورقمنة الإدارة.

وقد أعلنت رئاسة الحكومة في نهاية سنة 2013 عن انطلاق مشروع تونيبس «Tunisia On line E-Procurement System» في إطار تعاون مشترك تونسي كوري. وبذلك أصبحت تونس أول دولة أفريقية وعربية شرّعت للشراء العمومي على الخط تحفيزا للإستثمار وتسهيلا للإجراءات وتدعيما للشفافية والمساواة ونجاعة الشراء العمومي. وقد انطلقت المنظومة بتركيز 10 مواقع نموذجية متمثلة في 4 وزارات و6 منشآت عمومية على أن يتم تعميمها وجوبيا على بقية المشترين العموميين بمقتضى الأمر عدد 416 لسنة 2018 المتعلق بتنقيح وإتمام الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية والذي ينص في فصله الثالث على اجبارية اعتماد منظومة الشراء العمومي على الخط ابتداء من غرة سبتمبر 2018 بالنسبة للوزارات والمؤسسات العمومية التي لا تكتسي صبغة إدارية والمنشآت العمومية وغرة سبتمبر 2019 بالنسبة للمؤسسات العمومية والجماعات المحليّة.

إنّ منظومة «تونيبس» جاءت لتدعيم دور الصفقات العمومية في تحقيق الأهداف التنموية من خلال تبسيط الإجراءات وتسريع نسق إنجاز الصفقات وتحقيق النجاعة في الشراءات العمومية وذلك بالحرص على الموازنة بين عنصري الجودة والكلفة وتكريس الحوكمة الرشيدة من خلال تدعيم التشاركية ببعث مجلس وطني للطلب العمومي وتدعيم الحضور غير الإداري صلب بعض اللجان المختصة[4].

لكن تفعيل منظومة «تونيبس» على أرض الواقع، على غرار جميع التجارب الجديدة في انطلاقاتها، شهد بعض الصعوبات والنقائص التي تم تدارك بعضها في آخر عملية صيانة للمنظومة. تشمل هذه النقائص مختلف المراحل منذ التسجيل بالمنظومة وحتى إتمام اجراءات الصفقة. كما شهدت المنظومة بعض الإخلالات الإجرائية القانونية.

التسجيل بالمنظومة: رقمنة البيروقراطية

إنّ الولوج إلى المنظومة يتم حصريا بعد التسجيل والحصول على مفتاح عبور أو شهادة للإمضاء الإلكتروني «ID-Trust Certificat» من الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية. ولعل ما يُعاب على المنظومة الرقمية هو وجوبية التوجه لتونس العاصمة لإيداع الملفات في مرحلة أولى والإنتظار في الطوابير بالساعات ثم في مرحلة ثانية (بعد حوالي أسبوع) تسلم الشهادات ومفاتيح العبور بالنسبة للمشتري العمومي. وتضاف مرحلة ثالثة للمزود وهي التوجه لتونيبس لتفعيل شهادة الإمضاء الالكتروني. تعقيد الإجراءات كان له تأثير على تأخير تسجيل المزودين ذوي المستويات التعليمية المحدودة خصوصا وأن جميع الوثائق يتم تعميرها باللغة الفرنسية. لكن حتى عندما أتاحت الوكالة إمكانية إرسال مفاتيح العبور عبر البريد حصلت العديد من المشاكل التي تمثلت خاصة في ضياع هذه الشهادات بين مكاتب البريد ونظرا لعدم تمكن الوكالة من الرد على جميع المكالمات يجد المزود نفسه مضطرا للعودة للعاصمة لاستخراج شهادة جديدة. إلا أنه ما يحسب للمنظومة هو بداية التعود على استعمال البريد الالكتروني كوسيلة تواصل بين المشتري العمومي والمزود.

كان علينا انتظار الاجراءات المتخذة في إطار الحجر الصحي المترتب عن فيروس الكورونا وبالتحديد أواخر مارس 2020 لإتاحة الفرصة لمن يريد الحصول على شهادة إمضاء إلكتروني من إيداع مطلبه على الخط على موقع الوكالة ونأمل أن يتواصل اعتماد هذا الإجراء بعد رفع الحجر الصحي نهائيا.

الإخلالات الاجرائية القانونية

من أوّل الاخلالات القانونية المسجلة في المنظومة هو عدم اجبارية إعداد المخطط التقديري السنوي لإبرام الصفقات العمومية.  هذا ما يؤدي إلى إمكانية تنزيل طلب عروض من دون أن يكون مبرمجا مسبقا على المنظومة وهو ما يخالف أحكام الفصل 8 من الأمر 1039 الذي ينص على إجبارية إعداد المخطط التقديري السنوي وفق مشروع الميزانية قبل موفى شهر فيفري من كل سنة و أحكام الفصل 12 من نفس الأمر بإعلان المخطط للعموم وفق نموذج يضبط من قبل الهيئة العليا للطلب العمومي. بالتالي، وضمانا لمبدأ الشفافية والنزاهة يتوجب عدم قبول تنزيل طلب عروض غير مبرمج مسبقا في الآجال القانونية من قبل المشتري العمومي.

أما الاخلال الثاني فيتمثل في عدم تمييز المنظومة بين اجراءات طلب العروض بالإجراءات العادية واجراءات طلب العروض بالإجراءات المبسطة. إذ يتم اعتماد اجراءات موحدة مما يؤدي إلى خلط في اللجان وفي الاجراءات. وبالتالي يجب على «تونيبس» التوافق مع النص القانوني.

أما الإخلال الثالث فيتمثل في عدم الأخذ بعين الاعتبار للقسم الثاني من الأمر عدد 1039 المتعلق بفتح العروض حيث أن فتح العروض في طلب العروض بالإجراءات العادية يتم بواسطة لجنة الفتح القارة أما في المنظومة، فيتولى عملية الفتح المسؤول عن طلب العروض الذي لا يكون بالضرورة عضوا في اللجنة القارة للفتح فتجد هذه الأخيرة نفسها مفرغة من صلاحياتها.

رابعا، ينص الفصل 7 من قرار من رئيس الحكومة مؤرخ في 31 أوت 2018 المتعلق بالمصادقة على دليل الإجراءات الخاص بإبرام الصفقات العمومية عبر منظومة الشراء العمومي على الخط على أنه يقع التثبت من وثيقة الضمان الوقتي المرسلة إلكترونيا. والحال أنه إلى حدود هذه اللحظة لم يقع ربط البنوك بالمنظومة و هذا ما أدى إلى تباين في المواقف حول إمكانية قبول ملف أرسلت وثيقة الضمان الوقتي على الخط الخاصة به في شكل وثيقة ممسوحة ضوئيا خصوصا و أنه تم التأكيد في الدورات التكوينية التي نظمتها الهيئة العليا للطلب العمومي أنه طالما أن البنوك لم يتم ربطها بالمنظومة يجب أن ترسل هذه الوثيقة الأصلية خارج الخط. تباين المواقف أدى إلى قبول الوثيقة الواردة على الخط في بعض المؤسسات ورفضها في مؤسسات أخرى وهو ما يمس بمبدأ المساواة مع العلم أنها وثيقة إقصائية.

كل هذه الإخلالات يجب تداركها حتى لا تترك مجالا لتجاوزات تمسّ من جوهر مبادئ الصفقات العمومية.

«تونيبس» لم تفِ بوعودها في التطبيق

نجحت منظومة الشراء العمومي على الخط في أن تكون أول منصة جامعة متاحة للجميع يعتمدها المزودون لمتابعة الشراءات العمومية. إلا أن هذه العملية تتطلب جهدا. حيث يتوجب على المزوّد إجراء بحث يومي للتعرف على الإعلانات المنزلة في مجال عمله. فيحبذ إذن لتسهيل عملية البحث وضمان وصول المعلومة أن يتم إعلام المزودين عبر إشعار أو رسالة إلكترونية بكل شراء عمومي يدخل في مجال عمله. كما يحبذ تفعيل إمكانية البحث على المنظومة باعتماد الفصول موضوع الإستشارة أو طلب العروض، إذ يتم حاليا اعتماد استراتيجية البحث بالعناوين وليس بالمحتوى. يعني أن البحث المتخصص (recherche spécifique) أو المعمّق غير متاح.

كما أن المنظومة لم تسهم في تقليص التأخير في الآجال حيث أنه لا وجود لرقابة على آجال تنزيل نتائج فتح وتقييم وإسناد العروض. فأغلب طلبات العروض لا يقع إعلان نتائج فتحها دون أن يكون هناك هيكل أو تطبيقة تقوم بتذكير رئيس لجنة التقييم أو المسؤول عن طلب العروض بتنزيل نتائجه.

كذلك، ورغم أن المنظومة تمكن المشتري العمومي من التثبت مباشرة في الوضعية الجبائية للمشاركين في طلب العروض وانخراطهم في الضمان الإجتماعي، إلا أن الاخلالات البرمجية المتكررة تحول دون ذلك. وكثيرا ما تبقى «تونيبس» في حالة عطب تقني لأيام فيتم استكمال هذه الوثائق خارج الخط مما يتسبب في إهدار الوقت.

كما لا يتم اعتماد نموذج يتضمن جميع معطيات محضر الفتح ومحضر التقييم. بالتالي يتوجب على المشتري العمومي إعداد محضر خارج الخط وفق الطريقة القديمة، ثم إنزال المعطيات مرة أخرى على المنظومة وهو ما يكلفه وقتا مضاعفا، ذلك أن المحاضر التي يتم تحميلها لا تتضمن المعطيات الكافية ولا يمكن إدخال تعديلات عليها.

ولعل من أكبر الإصلاحات التي طالت منظومة الشراء العمومي على الخط، هو إمكانية تحميل جدول مقارنة الأثمان. لكن المشتري العمومي يجد نفسه أمام جدول مغلوط. حيث أن بعض المزودين يقدمون عرضهم بالدينار والبعض الآخر بالمليم. بالتالي يحصل خطأ عند ترتيب الأثمان آليا بالمنظومة حيث أنّ 1000 دينار مثلا تكون العرض الأقل ثمنا من 600000 مليم في حين أن العكس صحيح. فعلى التقنيين إيجاد حل لهذا الإشكال بتوحيد العملة.

أما بالنسبة لتكريس مبدأ الشفافية، فقد سجلت منظومة «تونيبس» تراجعا ملحوظا حيث أنه إلى حدود بداية سنة 2020 كان من الممكن الاطلاع على نتائج طلب عروض جميع المشترين العموميين الذين قاموا بتنزيل النتائج. لكن مع بداية سنة 2020 أصبحت المنظومة تمحي كل طلب عروض تم فتحه في خرق واضح لمبدأ الشفافية. فلم يعد بإمكان المشاركين الإطلاع على نتائج طلبات العروض أو معرفة سبب إقصائهم. كما لم يعد بإمكان المشترين الإستئناس بالنتائج لتحديد معقولية الأثمان. وبالتالي تم إفراغ علنية ووجوبية الإشهار من محتواه.

صحيح أن منظومة الشراء العمومي على الخط «تونيبس»، استجابت للعديد من مطالب الاصلاحات. إلا أن المشتري العمومي في عصر الحواسيب والهواتف الذكية والرقمنة في حاجة أيضا إلى منظومة ذكيّة ومرنة تمكنه من إجراء عملية بحث والحصول على النتيجة في ثوان. فحتى خاصية النسخ واللصق (copier-coller) غير متوفرة فيجب على المشتري العمومي إدخال كل فصل على حدة، لأنه لا يمكن نسخ ولصق جميع الفصول في نفس الوقت. كما أنه من غير المعقول العمل على منظومة لا تقوم بالإصلاح الآلي للأخطاء الحسابية التي يقوم المزود بإرتكابها وهو ما يكلف المشتري العمومي وقتا إضافيا في التثبت وإعلام المزود بها والحال أنه قبل بداية استغلال المنظومة كان معظم المشترين العموميين يشترطون إرسال جدول الأثمان على قرص مضغوط في شكل excel بالتالي كانت عملية التثبت أكثر سهولة وتطورا.

إن اعتماد منظومة «تونيبس» في تونس يعتبر إنجازا مهما لما فيه من ريادة ومن رغبة حقيقية في رقمنة الشراء العمومي من ناحية ومزيد تدعيم الشفافية والمساواة والحد من ظاهرة الفساد في الصفقات العمومية من ناحية أخرى. إلا أن هذه المنظومة يجب أن تكون مفتوحة على التطورات التكنولوجية التي تستبدل “الفاكس” بالبريد الإلكتروني وأن تسهل عملية الشراء العمومي حتى تضمن استمرارها وحتى لا تسمح لبعض الأطراف الراغبين في إنهاء العمل بها على بلوغ مرادهم خاصة وأنّها الكفيل الوحيد لتوحيد اجراءات الشراء العمومي وضمان حيادية اللجان والمساواة والحدّ من الفساد والحفاظ على المال العمومي.

 


[1] « La corruption se nourrit de l’opacité et du secret » GUILLAUME DECHAZ ? « Éduquer pour mieux lutter contre la corruption » , journal Mediapart , juin 2017.

[2] Amira TLILI ? Réforme de la réglementation des marchés publics en Tunisie :  Étude comparée avec les normes internationales, université de Strasbourg, 2014, P11.

[3] التقرير السنوي للهيئة العاامة لمراقبة المصاريف العمومية لسنة 2016 ، ص 77.

[4] كلمة السيد رضا عبد الحفيظ في الملتقى السنوي لمراقبة المصاريف العمومية، الصفحة الرسمية لمنظومة الشراء العمومي على الخط تونيبس على الفايسبوك.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني