تضامن أكاديمي دولي مع الباحث باتريك جورج زكي: حين أصبحت الحرية الأكاديمية وقفاً على الموافقات الأمنية في مصر


2020-02-21    |   

تضامن أكاديمي دولي مع الباحث باتريك جورج زكي: حين أصبحت الحرية الأكاديمية وقفاً على الموافقات الأمنية في مصر

في 7 فبراير 2020 صباحا، ألقت قوات الأمن المصرية القبض على باتريك جورج زكي الباحث بالنوع الاجتماعي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وطالب الماجستير بجامعة بولونيا الإيطالية، في مطار القاهرة أثناء عودته من إيطاليا في إجازة دراسية قصيرة. ووجهت له النيابة العامة عددا من الاتهامات التي غالبًا ما تُوجه لأغلب الموقوفين بسبب أنشطتهم السياسية أو المتعلقة بالشأن العام، وهي إشاعة الأخبار والبيانات الكاذبة، والتحريض على التظاهر وقلب نظام الحكم، بالإضافة إلى إدارة واستخدام حساب على الفيس بوك بغرض الإخلال بالنظام العام، قبل أن تأمر بحبسه 15 يومًا على ذمة التحقيقات[1].

وقد أثارت واقعة القبض على زكي أصداء واسعة ليس فقط داخل أوساط المتابعين للشأن العام ووضع حقوق الإنسان في مصر، بل أيضًا داخل الأوساط الأكاديمية على مستوى واسع محليًا وعالميًا. ففضلاً عن التصريحات التي أدلى بها عدد من السياسيين والبرلمانيين الأوروبيين، مثل وزير التعليم الإيطالي السابق، وعدد من أعضاء البرلمان الإيطالي ورئيس البرلمان الأوروبي حول ضرورة الإفراج الفوري عن زكي وإسقاط التهم الموجهة في حقه وضمان عودته لدراسته، أرسلت لجنة الحريات الأكاديمية بالجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط والتي تضم مئات الباحثين والأكاديميين على مستوى العالم خطابا مفتوحا إلى السلطات المصرية تطالب فيه بالإفراج عن باتريك، كما تطالب الحكومة الإيطالية والمؤسسات الأوروبية ببذل كل الضغط والجهد المطلوب لإنهاء معاناة باحث أكاديمي لم يقترف ذنب.

لذا يعتبر هذا المقال محاولة لتسليط مزيد من الضوء حول وضع الحريات الأكاديمية، والتضييق المفروض على الأكاديميين وحرية البحث العلمي في مصر. خاصة وأن تلك الواقعة ليست الأولى من نوعها بل سبق وأن تعرض عدد من الباحثين وطلاب الدراسات العليا سواء مصريين وأجانب إلى وقائع قبض واحتجاز على أيدي قوات الأمن المصرية[2]. بالإضافة إلى فتح النقاش حول أهمية التضامن والتشبيك الذي تمارسه المجتمعات والمؤسسات الأكاديمية فيما بينها على مستوى العالم، ومدى تأثيره في تعزيز الحرية الأكاديمية.

تضامن دولي واسع يثير استنكار الدولة المصرية

أثارت واقعة القبض على الباحث باتريك زكي موجة تضامن واسعة في عدد كبير من الجامعات والمعاهد العلمية على مستوى العالم، لم يتوقع الكثيرون أن يصل صداها لذلك المدى. فبالإضافة إلى تصريحات السياسيين والبرلمانيين الأوروبيين التي سبق وأشرنا إليها في مستهلّ هذا المقال، نظمت الاتحادات الطلابية في عدد من الجامعات الأوربية مسيرات ووقفات احتجاجية تطالب بالإفراج الفوري عن باتريك. في الوقت نفسه، تناول الإعلام الإيطالي واقعة القبض على زكي بشكل غير مسبوق، حيث أفردت أكبر الصحف والقنوات التلفزيونية مساحات واسعة لتغطية الواقعة. كما تشهد مدينة بولونيا الإيطالية، التي يدرس بها باتريك، مظاهرات مستمرة منذ القبض عليه منذ حوالي أسبوعين. الأمر الذي وصل إلى أن الصفحة الرسمية لنادي بولونيا الإيطالي أعلنت دعمها لباتريك، وطالبت بالإفراج عنه في لافتة هي الأولى من نوعها. ويرجع الاهتمام الواسع لدى الرأي العام الإيطالي على وجه التحديد بهذه القضية، لما أثارته من أوجه تشابه بقضية الباحث والأكاديمي الإيطالي جوليو روجيني الذي لقى مصرعه في مصر منذ 4 سنوات، والذي تعتقد السلطات القضائية الإيطالية أن أجهزة الأمن المصرية لها يد في مصرعه[3]. فكلاهما باحثان أكاديميان، وتعرضا لانتهاكات بسبب أنشطتهما الدراسية.

وفي السياق ذاته، جاءت ردود الأفعال الرسمية في مصر مُستنكرة ورافضة بشكل قاطع سيل البيانات والتصريحات التي تندد بالواقعة. فأصدر د. علي عبد العال رئيس مجلس النواب بيانًا يعرب فيه عن رفضه الشديد للتصريحات التي صدرت عن رئيس البرلمان الإيطالي، والتي تطالب بالإفراج عن الباحث باتريك زكي. واعتبر أن هذه التصريحات تعد تدخلًا غير مقبول في الشأن الداخلي المصري، فضلًا عن كونها تمثل اعتداءً وتشكيكًا في السلطة القضائية المصرية، وفى إجراءات سير العدالة[4]. وهو ما أشار إليه بيان النائب العام بشأن الواقعة، حيث أكد على أن النيابة العامة هي “الأمينة” على الدعوى الجنائية، كما طالب كافة الجهات المحلية والأجنبية ووسائل الإعلام أن تلتزم بما تنشره النيابة العامة من معلومات حول القضية[5]. ومن جانبنا، فإننا نؤكد على أهمية حملات التضامن والتشبيك التي أطلقها عدد من الناشطين والمهتمين بالحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي في تسليط الضوء على واقع البحث العلمي في مصر. بالإضافة إلى أهميتها في تعزيز الضغوط الدولية من أجل الإفراج عن الباحث باتريك زكي وتحسين شروط احتجازه، وضمان معاملته بشكل لائق.

الموافقات الأمنية شرط ممارسة البحث العلمي في مصر

كفل دستور 2014 حرية البحث العلمي[6]، واستقلال الجامعات[7]، كما ألزم الدولة برعاية الباحثين والمخترعين وحماية ابتكاراتهم، والعمل على تطبيقها[8]. وذلك على اعتبار أن البحث العلمي وضمان حرية ممارسته هما وسيلة أساسية لتحقيق السيادة الوطنية، وبناء اقتصاد المعرفة[9]. ولكن بالنظر إلى الواقع الفعلي لممارسة البحث العلمي في مصر والظروف التي يعمل فيها الأكاديميون، نجد أن أداء الدولة المصرية يختلف بشكل جذري عن التزامها الدستوري المنوطة بتنفيذه تجاه البحث العلمي واستقلال الجامعات. فعلى سبيل المثال، يعتبر اشتراط الموافقة الأمنية على سفر أعضاء هيئة التدريس لحضور أي مؤتمر علمي أو ورشة تدريبية خارج مصر أحد أبرز القيود التي يتم ممارستها على حرية البحث العلمي، مما أثر سلبا على العمل الأكاديمي لهؤلاء الباحثين، وعطل تطوير مهارتهم[10]. فوفقًا لعدد من القرارات الإدارية التي أصدرتها معظم إدارات الجامعات المصرية، يتطلب سفر أي عضو من الباحثين أعضاء هيئات التدريس موافقة أجهزة الأمن، بعدما كانت مجالس الأقسام العلمية وإدارات الكليات هي المسؤولة عن إصدار مثل تلك الموافقات[11]. وفي الوقت نفسه، أصدرت وزارة التعليم العالي توجيهات غير منشورة إلى كافة إدارات الجامعات المصرية “بعدم جواز عقد أو استضافة أي مؤتمر دولي في مصر إلا بعد الحصول على موافقة وزارة الخارجية والتنسيق معها في كل ما يتعلق بالنواحي الإدارية والتنظيمية”[12].

وهو الأمر الذي فسرته إحدى القيادات الجامعية على أنه “خوفًا من اختراق البلاد من خلال البعثات الخارجية، ولأن معظم المشاريع المقدمة من الجهات الأجنبية وراءها أغراض تضر البلاد”[13]. وبالتالي، إذا كانت أجهزة الدولة والقيادات الجامعية تنظر إلى البعثات الدراسية والمؤتمرات العلمية وورش التدريب المشتركة على أنها خطر على الأمن القومي وتستهدف الإضرار بالبلاد، فلا مجال للحديث عن حرية البحث العلمي، وضمان حرية تنقل الباحثين، أو حقهم في الوصول إلى المعلومات وتداولها.

من ناحية أخرى، لم تكن واقعة القبض على الباحث باتريك زكي هي الأولى من نوعها التي يتم فيها استهداف أحد الباحثين أو الأكاديميين بسبب أنشطته البحثية أو اهتمامه بالشأن العام. في مايو 2018 ألقت قوات الأمن القبض على وليد الشوبكي طالب الدكتوراه المصري بجامعة واشنطن الأمريكية بعد إجرائه عدد المقابلات المتعلقة ببحثه الميداني حول دور القضاء في التغيرات السياسية في مصر في السنوات الأخيرة[14]، وذلك قبل أن يتم إخلاء سبيله بتدابير احترازية لاحقًا بعد حوالي 7 أشهر من الحبس الاحتياطي[15]. في الوقت نفسه، خلال السنوات الأخيرة الماضية امتدّت الممارسات الأمنية المُقيدة للبحث العلمي في مصر إلى توقيف عدد من الباحثين والأكاديميين المصريين[16] والأجانب[17] في المطارات المصرية المختلفة، وعدم السماح لهم بدخول مصر من الأساس. وهو الأمر الذي فسرته إحدى التقارير الحقوقية بأن وجود أسماء هؤلاء الباحثين في القوائم الأمنية للممنوعين من دخول البلاد، هو دليل واضح على متابعة الأمن لهم وعلمه المُسبق بآرائهم وأنشطتهم. كل ما سبق يجعلنا نرى بوضوح أن واقعة القبض على الباحث باتريك جورج، والتحقيق معه لساعات بشأن عمله البحثي ودراسته داخل إحدى مقرات الأمن الوطني[18]، ما هي إلا حلقة جديدة ضمن سلسلة السياسات الأمنية والانتهاكات التي تمس حرية البحث العلمي في مصر، ويتم ممارستها بشكل يومي في مواجهة الباحثين والأكاديميين مهما اختلفت أنشطتهم أو جنسياتهم.

خاتمة

لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل واقع البحث العلمي واستقلال الجامعات عن الواقع السياسي الذي تشهده مصر في السنوات الأخيرة الماضية، حيث تتعامل أجهزة الدولة المختلفة بمنظور أمني بحت مع كل ما يمس الشأن العام حتى ولو كان بشكل أكاديمي محايد. لذلك، فإنه مع الأخذ في الاعتبار أن رؤية الدولة تجاه تنظيم المؤتمرات الدراسية أو السماح بسفر أعضاء هيئات التدريس للبعثات الخارجية يشكل خطرا على الأمن القومي ويستهدف الإضرار بالبلاد، فإننا نخشى أن لا تكون واقعة القبض على الباحث باتريك زكي الأخيرة من نوعها. فلطالما سوف ينظر النظام الحالي إلى الباحثين والأكاديميين المستقلين على أنهم مصدر تهديد يجب مواجهته. وهو ما يعني أن التكاتف والتشبيك بين الناشطين والمعاهد والجامعات الأكاديمية المختلفة على مستوى العالم الذي أحدثته واقعة القبض على زكي، يجب أن يتم استثماره بشكل يخدم تعزيز الحريات الاكاديمية في مصر، ويعمل على توثيق الانتهاكات التي يتعرض إليها الباحثين بسبب ممارستهم لعملهم المشرع الذي أفرد له الدستور الحماية.

  • لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الراط أدناه:

Arresting Patrick George Zaky: Academic Freedom Now Contingent on Security Clearances in Egypt


[6] مادة (66) من الدستور المصري لسنة 2014.

[7] مادة (21) من الدستور المصري لسنة 2014.

[8]  مادة (23) من الدستور المصري لسنة 2014.

[9]  مادة (23) من الدستور المصري لسنة 2014.

[10] في انتظار رد اﻷمن.. عن عوائق سفر أعضاء هيئة التدريس – تقرير صادر عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير – 19 يونيو 2019. ص4.

[11]  راجع المرجع السابق.

[12] راجع المرجع السابق، ص5.

[13]  راجع المرجع السابق.

[18] راجع المرجع رقم (1).

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني