تصورات خاصة بشأن الحصانات الدستورية: أو حين تبقى ملفات قضائية في الرفوف إلى حين..


2021-01-07    |   

تصورات خاصة بشأن الحصانات الدستورية: أو حين تبقى ملفات قضائية في الرفوف إلى حين..

بالاستناد للمعيار الوظيفي، يمكن أن نعرّف الحصانات التي تُسند لأعضاء المجلس النيابي والهيئات والقضاة بكونها شرطا لممارسة السلطة في كنف الاستقلالية وبعيدا عن الترهيب أو التوظيف. ويمكن أن نعرّفها تقنيا بكونها مجموع الإجراءات التي يجب اتخاذها قبل مباشرة تتبع عدلي في مواجهة من تسند لهم. على أرض الواقع وفي منظار الرأي العام، يبدو أن تلك الأداة الوظيفية تحوّلت في تمثّلها إلى امتياز لمن يتمتع بها يُستعمل لغاية الإفلات من المحاسبة. وهذا ما يتمّ من خلال التمسّك بها في غالب الحالات بغاية غلق الملفات التي تُثار أو إبطاء حركتها بما يجعلها تسقط في خانة النسيان. وربما كان هذا الواقع ما برر مطالبة ناشطين بحذفها في جدل مجتمعي انطلق في شبكات التواصل الاجتماعي وانتهى لأن يكون موضوعا لحديث رئيس الجمهورية لوزير العدل بتاريخ 21-09-2020[1].

أهمية الحصانة تلك في تصورها الوظيفيّ وما يبدو قد لحقها من انحراف يجعل من المهمّ طرح السّؤال حولها في بعديْها المتعلّقين بأعضاء المجلس التشريعي والقضاء، وهو سؤال عن حقيقة توظيفها وعن الحلول الممكنة للإشكاليات التي نشأت عن تطبيق التصوّرات الدستورية بهذا الشأن. وهذه التصورات هي تحديدا بما يتصل بأعضاء المجلس التشريعي ما تكرّس في الفصل 68 من الدستور بالنسبة لنواب الشعب والذي اقتضى أنه “لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه، أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها، في ارتباط بمهامه النيابية”. وهي بما يتصل بالقضاة ما تكرس في الفصل 104 من الدستور والذي نصّ على “تمتع القضاة بحصانة جزائية ولا يمكن تتبعهم أو إيقافهم ما لم ترفع عنهم”.

الحصانة البرلمانية: متاهة الإجراءات 

تعددت الملفات المنشورة لدى القضاء حول شبهات فساد تتعلق بنواب نافذين. وقد تنامى بفعلها الحديث عن سياحة حزبية يمارسها عدد من نواب الشعب وتغير من حين لآخر لونهم الحزبي لفائدة من يدفع لهم أكثر. في مقابل هذا، لم تجد لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الإنتخابية بمجلس نواب الشعب حرجا في إعلان رفضها لكل مطالب رفع الحصانة التي وصلتها من قضاة التحقيق بالقطب القضائي المتخصص في قضايا الفساد المالي لاعتبارات قيل أنّها إجرائية. فقد استندت اللجنة لما ورد بالمادة 28 من النظام الداخلي للمجلس من تنصيص على كونه “يمكن للنائب المعني عدم الاعتصام بالحصانة” للإنتهاء إلى القول بأنّ شرط طلب رفع تلك الحصانة سبق تمسك النائب بها مما يفرض عليها رفض تلك المطالب من دون التثبت من انطباق شرط الحصانة أو النظر في موضوعها. وقد أدى هذا الأمر على أرض الواقع إلى قبر كل الملفات التي تتعلق بالنواب لما تبين للقضاة المتعهدين بها من عدم استجابة النواب للاستدعاءات التي تبلغ لهم وبالتالي استحالة إثبات ما طلب من دليل على تمسكهم بالحصانة. وهنا لم يشكل استثناء في هذا المشهد إلا نائبان اختارا طوعا منهما مواجهة التتبعات القضائية التي تعلقت بهما معلنيْن صراحة تنازلهما عن حصانتهما.

واجه هذا الموقف المُكرِّس لثقافة الإفلات من العقاب معارضة من ناشطي المجتمع المدني. وبادرت في هذا الإطار جمعية آي واتش إلى توجيه طلب لمجلس النواب بهدف معرفة قائمة النواب المعنيين بطلبات رفع الحصانة وعددهم. قبِل المجلس الجزء المتعلق بعدد الطلبات فذكر أنها 14 تعلّقت ب 10 نواب لكنه رفض كشف أسمائهم بدعوى حماية معطياتهم الشخصية وقرينة البراءة التي يتمتعون بها، فكان ذلك مدخلا لمعركة قضائية بينه وبين الجمعية اختلفت فيها مواقف الهيئات المختصة.

فإذ لجأت الجمعية إلى هيئة النفاذ للمعلومة لتطلب إلزام المجلس بمدها بطلبها، أصدرت هذه الهيئة بتاريخ 25-10-2018 قرارا لفائدتها اعتبرت فيه أن السؤال لا يمكن أن يكون من قبيل المعطيات الشخصية لتعلقه بشخصيات عامة. لم يقنع موقفها ذاك المجلس الذي طعن فيه أمام المحكمة الإدارية والتي انتهت بتاريخ 19-11-2019 للتصريح بنقض القرار ورفض الطلب لكون موضوعه من قبيل المعطيات الشخصية ويمسّ من سرية الأبحاث القضائية[2].

عند هذا الحدّ، لم ينجح الحراك الحقوقي في تحقيق المحاسبة لمن اعتمدوا الحصانة وسيلةً لتعطيل الأبحاث القضائية ولكنه انتهى لإحراج السلطة التشريعية بما فرض عليها أن تطرح السؤال علنا عن الإشكاليات التي تولدت عن تصور المشرعين لشروط رفع حصانتهم.

وفي هذا الإطار، خصصت لجنة الحصانة في بداية سنة 2020 أول اجتماع لها في ثاني مددها النيابية مع المجلس الأعلى للقضاء واختارت ألا تكون مخرجاته سرية. تمسّك ممثلو القضاة خلال حديثهم بأن الموقف الذي اتخذته اللجنة في المدة النيابية الأولى يؤدي لمنع تتبع النواب خلافا لما قيل وقتها من كونه يسمح بإعادة تتبعهم مجددا بعد تصحيح الإجراءات[3]. وقد أيدوا موقفهم بما تضمنه الفصل 33 من النظام الداخلي للمجلس من تحجير لإعادة طلب رفع الحصانة بعد رفضه. وانتهوا لمطالبة النواب “بوضع إجراءات محددة لآليات رفع الحصانة تكون كفيلة بضمان مبدأ المواجهة وحق الدفاع من جهة وعدم الإفلات من العقاب من جهة أخرى”. إلا أن هذا الحوار بقي من دون أي مفعول عملي.

ماذا عن الحصانة القضائية؟

خلال عهدة الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، صدرت عديد قرارات رفع الحصانة عن قضاة كانوا محل تتبعات عدلية. طعن عدد منهم فيها أمام المحكمة الإدارية فصدرت لفائدتهم قرارات بإيقاف تنفيذها لما ورد فيها من خلل تمثل في عدم احترام مبدأ المواجهة. فرض هذا الأمر على مجلس القضاء لاحقا أن يربط قراره برفع الحصانة باستماع المعني بها وبجلسة تعقد لاحقا للبت فيه.

في هذا السياق، أكد وليد المالكي عضو في مجلس القضاء العدلي في تصريح إعلامي له[4] أن مجلس القضاء العدلي تلقى 62 مطلبا في رفع الحصانة عن قضاة وذلك في الفترة الممتدة بين 2019 و2020. وقد قبل 25 منها ورفض خمسة وأرجأ البت في ملفين في انتظار إتمام اجراءات وينتظر تعيين جلسات في البقية. وذكر في نفس التصريح أنه لا يوجد إشكال مع القضاء في هذا الملف خاصة وأن أغلب القضايا تتعلق بحوادث مرور وشيكات ولا وجود لملفات شبهات فساد أو غيرها ضمنها. ويبدو قوله هذا غير مؤيّد، إذ تؤكد مصادر قضائية أن ثمة قضايا فساد منشورة أمام القضاء قدّمت أبحاث فيها وهي تتعلق بقضاة منهم من يباشر فعليا عمله ومنهم من صدر خلال سنة 2019 قرار بعزله من القضاء بما يعني أن مجلس القضاء تعهد بمطالب رفع قضايا موضوعها الفساد ولكنه لا يصرح بذلك.

وتبين هذه الملاحظة أن هذا المجلس أيضا تغيب الشفافية الكاملة عن عمله فيما تعلق بملف مطالب رفع الحصانة. وقد يكون ما يشاع من أخبار عن صراعات تشقه على خلفية مطلب رفع الحصانة الذي تقدم به في صائفة 2020 وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس ضد الرئيس الأول الحالي لمحكمة التعقيب التونسية مما يؤكد ذلك أيضا.

***

خصّص مجلس نواب الشعب التونسي جلسته العامة ليوم 12-11-2020 للحوار مع المجلس الأعلى للقضاء. حرِص هنا رؤساء المجلس الحاضرون بها وجانب من النواب على إبراز أن غاية الجلسة هي الحوار بين ممثلي السلطتين التشريعية والقضائية احتراما لمبدأ استقلالية القضاء. إعلان النوايا ذاك لم يمنع الجلسة من أن تتحول لجلسة مساءلة للمجلس الذي اتُّهم بلعب دور سلبيّ في إدارة ملف على علاقة بالفساد تحوم شبهته حول أحد أعضائه المعينين بالصفة.

خلال الحصة المسائية لجلسة الحوار، أكّد النائب حاتم المانسي أن حرب الحكومة على الفساد سنة 2015 والتي كانت من أهم وقائعها القبض على عدد من كبار المتهمينن بالتورط في التهريب انتهت لملف فساد قضائي. كما ذكّر أن مجلس القضاء “تعهد بذاك الملف وقرر عزل قاضيين من عملهما وإحالتهما للنيابة العمومية للبحث ولكن جديته تلك عادت لتتحول إلى صمت بعد أن توجهت شكوك في تورط مسؤول قضائي من أعضاء المجلس في الموضوع”. وانتهى لأن سأل حول معقولية “أن يظل المسؤول القضائي المشتبه في تورطه في فساد كبير يمارس صلاحياته ولأن يقول لهما: “نحن نعتبر أنكم في موضع شبهة كبرى وننتظر منكم توضيحا وصراحة وجدية أكبر. تونس تريد قضاء يحارب الفساد لا قضاء متورطا فيه”. من جهتها، كانت النائبة سامية عبو أكثر وضوحا في ذكر الوقائع إذ أكدت أن المسؤول المقصود ليس إلا رئيس محكمة التعقيب الذي هو عضو بالصفة بالمجلس ولتستعرض أمام الحضور ما قالت أنها رسوم عقارية تثبت تضخما كبيرا لثروات المعني”.

لم يتجنب يوسف بوزاخر- رئيس المجلس الأعلى للقضاء- الجواب عن السؤال الذي طرح عليه كما لم يظهر عليه ارتباك في تعاطيه معه. وقال أن ما لم يعلمه المتساءلون هو أن المجلس من أثار ملف الفساد الذي عنه يتحدثون وهو بالتالي يرفض القول بكون المجلس محل شبهة ومضى ليؤكد أن الأمور سـتأخذ مجراها الطبيعي والقانوني في الموضوع مع احترام كامل الضمانات وفي مقدمتها الحق في ضمانات المؤاخذة العادلة بعيدا عن التوظيف.

 

 

نشر هذا المقال  بالعدد 20 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

قضاء تونس في زمن الياسمين

 

[1]  ورد في  بلاغ صدر عن رئاسة الجمهورية عقب اللقاء أن موضوعه كان ” سير المرفق القضائي وخاصة وضعية بعض القضايا التي بقيت عالقة لسنوات.وتم التأكيد على ضرورة تطبيق القانون على الجميع على قدم المساواة. وان رئيس الدولة  شدد في هذا الإطار على أن الحصانة لم توضع إلا لضمان استقلالية من يتمتع بها، لا للتنصل من المساءلة أو الجزاء

[2]  هناك قضية ثانية في ذات الموضوع تعهدت بها المحكمة الادارية وكانت جمعية بوصلة من قامت بنشرها  وينتظر صدور الحكم فيها نهاية سنة 2020

[3]  في التقرير الذي حررته لجنة النظام الداخلي والحصانة على الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب بتاريخ 07-02-2017 وتعلق بجملة مطالب رفع الحصانة  وصادقت عليه الجلسة العامة  كانت صيغة القرار إعادة الملفات إلى القضاء لإصلاح الخلل الإجرائي المتسرب إليها والمتمثل في عدم عرض الملفات بصفة مسبقة على النواب للتعبير عن تمسكهم الحصانة من عدمه طبقا للفصل 69 من الدستور

[4]  صحيفة المغرب 26-09-2020

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة تونس ، مجلة ، محاكم دستورية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني