تشريح حالة الطوارئ في لبنان


2021-03-13    |   

تشريح حالة الطوارئ في لبنان

شكل اعلان حالة الطوارئ في مدينة بيروت بموجب المرسوم رقم 6792 تاريخ 7/8/2020 عقب انفجار المرفأ فرصة من أجل اعادة اكتشاف الأصول التاريخية لهذا النظام الاستثنائي. ومن خلال مقارنة النظام القانوني الذي يرعى إعلان حالة الطوارئ والمنصوص عليه في المرسوم الاشتراعي رقم 52 تاريخ 5/8/1967 مع النصوص الفرنسية التي تشكل المصدر المباشر للتشريع اللبناني يتبين لنا مدى خطورة نظام حالة الطوارئ المعتمد في لبنان وطابعه الهجين الأمر الذي سنناقشه في هذه المقالة.

في 9 آب 1849 صدر في فرنسا القانون المتعلق بحالة الحصار (état de siege). وقد نصت المادة السابعة[1] منه أنه فور إعلان حالة الحصار تنتقل صلاحيات السلطات المدنية المتعلقة بحفظ الأمن إلى السلطة العسكرية، بينما عددت المادة التاسعة صلاحيات إضافية يمكن للسلطة العسكرية اتخاذها وهي التالية: تحري المنازل ليلا ونهارا، إبعاد المشبهوين والذين لا يقطنون في المنطقة الخاضعة لحالة الحصار، البحث ومصادرة الأسلحة والذخائر، منع النشرات والاجتماعات التي تعتبرها مخلّة بالأمن.

عرف لبنان خلال الانتداب الفرنسي مجموعة من التشريعات التي تنقل صلاحيات السلطات المحلية إلى المفوض السامي الفرنسي في حال تعرض أمن البلاد للخطر. فعلى سبيل المثال وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في أوروبا أصدر المفوض السامي القرار رقم 223 تاريخ 9 أيلول 1939 الذي نصت مادته الأولى على إعلان حالة الحصار في جميع البلاد المشمولة بالانتداب الفرنسي، بينما نصت المادة الثانية على نقل الصلاحيات التي كانت ممنوحة للسلطة المدنية للحفاظ على الأمن إلى السلطة العسكرية.

احتاج لبنان بعد الاستقلال إلى تشريع جديد ينظم حالة الحصار الأمر الذي تم في عهد الرئيس كميل شمعون مع إصدار المرسوم الاشتراعي رقم 27 تاريخ 16 شباط 1953 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية. وهكذا تمّ تبنّي في لبنان مصطلح قانوني جديد حلّ محل “حالة الحصار” التي تتلاءم أكثر مع التاريخ الفرنسي. ونلاحظ أن المرسوم الاشتراعي يستخدم تعبير “حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية” بشكل مترادف ما يعني أنه لا يوجد اختلاف في النظام القانوني بين حالة الطوارئ والمنطقة العسكرية إذ نصت المادة الثانية على التالي: “فور إعلان حالة الطوارىء أو المنطقة العسكرية توضع تحت أمرة السلطة العسكرية المباشرة قوى الدرك والشرطة والأمن العام ورجال القوة المسلحة في الموانئ ومخافر الجمارك” ما يعني أن حالة الطوارئ هي نظام عسكري يرسي هيكلية قانونية استثنائية مشابهة للنظام الذي أوجده قانون حالة الحصار الفرنسي لسنة 1849. ويصبح هذا الأمر جليا في حال مقارنة الصلاحيات التي تنيطها المادة الثانية أيضا مع النص الفرنسي إذ تعلن أنه يكون للسلطة العسكرية الحق في: فرض التكاليف العسكرية، إعطاء الأوامر بتسليم الأسلحة والذخائر والتفتيش عنها ومصادرتها، منع الاجتماعات والنشرات المخلة بالأمن، تحري المنازل في الليل والنهار وإبعاد المشبوهين. وهذه الصلاحيات الإضافية هي استعادة شبه حرفية لأحكام المادة التاسعة لقانون 1849 الفرنسي حول حالة الحصار.

في سنة 1955 ونتيجة للأزمة الخطيرة التي واجهتها فرنسا في الجزائر، صدر قانون في 3 نيسان 1955 أنشأ نظاما قانونيا استثنائيا جديدا عرف بحالة الطوارئ (état d’urgence) وهو يختلف عن حالة الحصار كونه يؤدي فقط إلى توسيع صلاحيات السلطات المدنية لا سيما وزير الداخلية والمحافظين. فحالة الحصار نظام عسكري هدفه أساسا مواجهة أخطار ناجمة عن حرب خارجية أو ثورة مسلحة، بينما حالة الطوارئ نظام مدني يمكن وضعه موضع التنفيذ لمواجهة الأخطار الداهمة الناشئة عن خلل خطير في السلامة العامة أو عن حوادث تأخذ طابع الكارثة العامة. وقد نصت المادة 65 من هذا القانون الفرنسي على التدابير التالية التي يمكن تفعيلها عند إعلان حالة الطوارئ: حظر تجول الأشخاص والآليات في مناطق وضمن أوقات يتم تحديدها بقرار، إنشاء أماكن أمان تخضع فيها إقامة الأفراد لنظام معين، منع إقامة الأشخاص الذين يهددون بعرقلة عمل السلطات العامة، فرض الإقامة الجبرية من قبل وزير الداخلية على الأشخاص الذين يهددون السلامة العامة.

وهكذا نلاحظ أن حالة الطوارئ على الرغم من تصويرها باعتبارها حالة متوسطة بين الوضع العادي وحالة الحصار لكنها في حقيقة الأمر تؤدي إلى فرض قيود على الحريات العامة للمواطنين أشد من حالة الحصار. فالتدابير التي يمكن اتخاذها في حالة الطوارئ كفرض الإقامة الجبرية والإبعاد وحظر التجول لا وجود لها في حالة الحصار. وهذا هو تماما ما توصل إليه القانوني الشهير رولان دراغو في سنة 1955[2].

لم يكن نظام حالة الطوارئ الفرنسي موجودا سنة 1953 عندما صدر المرسوم الاشتراعي رقم 27 في لبنان لذلك كان مصدر النظام القانوني لحالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية في سياقها اللبناني القانون الفرنسي الصادر سنة 1849. لكن سنة 1967 أي بعدما باتت حالة الطوارئ الفرنسية من النظم القانونية المعروفة في لبنان، قامت الحكومة اللبنانية مستغلة اندلاع الحرب بين الدول العربية واسرائيل بالطلب من مجلس النواب منحها صلاحيات إصدار مراسيم اشتراعية في القضايا المتعلقة بالسلامة العامة الأمر الذي تم بالقانون رقم 45 تاريخ 5 حزيران 1967. واستنادا على هذا القانون، صدر المرسوم الاشتراعي رقم 52 في 5/8/1967 الذي ألغى المرسوم الاشتراعي 27 لسنة 1953 واستبدل أحكامه بنظام جديد حول إعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية.

من خلال تفحص أحكام المادة الرابعة من هذا المرسوم الاشتراعي، يتبين لنا أن السلطة العسكرية العليا التي تتولى المحافظة على الأمن يمكن لها اتخاذ التدابير التالية: فرض التكاليف العسكرية بطريق المصادرة التي تشمل الأشخاص والحيوانات والأشياء والممتلكات، تحرّي المنازل في الليل والنهار، إعطاء الأوامر بتسليم الأسلحة والذخائر والتفتيش عنها ومصادرتها، فرض الغرامات الاجمالية والجماعية، إبعاد المشبوهين، اتخاذ قرارات بتحديد أقاليم دفاعية وأقاليم حيطة تصبح الإقامة فيها خاضعة لنظام معين، فرض الإقامة الجبرية على الأشخاص الذين يقومون بنشاط يشكل خطرا على الأمن العام، منع الاجتماعات المخلة بالأمن، إعطاء الأوامر في إقفال السينما والمسارح والملاهي ومختلف أماكن التجمع بصورة مؤقتة، منع تجول الأشخاص والسيارات في الأماكن وفي الأوقات التي تحدد بموجب قرار، منع النشرات المخلة بالأمن واتخاذ التدابير اللازمة لفرض الرقابة على الصحف والمطبوعات والنشرات المختلفة والإذاعات والتلفزيون والأفلام السينمائية والمسرحيات.

وهكذا يتبين لنا أن حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية التي فرضها المرسوم الاشتراعي رقم 52 هي في حقيقة الأمر دمج لنظام حالة الحصار لسنة 1849 ولنظام حالة الطوارئ لسنة 1955 الفرنسيين ما يعني عمليا منح السلطة العسكرية صلاحيات أقل ما يقال فيها أنها خارقة في كل المجالات بحيث تصبح أقوى من أي نظام قانوني معمول به في فرنسا. فحالة الطوارئ في لبنان هي نظام عسكري لا تنتقل فيها صلاحيات المحافظة على الأمن إلى الجيش فقط بل هي أيضا تمنح هذا الأخير صلاحيات إضافية تمارسها في فرنسا السلطات المدنية التي تخضع قراراتها لرقابة القضاء المختص.

وما يعكس مدى خطورة النظام اللبناني هو أن المادة 1-2131 من قانون الدفاع الفرنسي الصادر في 20 كانون الأول 2004 تنص صراحة أنه لا يجوز في المنطقة نفسها وفي وقت واحد إعلان حالة الحصار وحالة الطوارئ معا. فحالة الطوارئ توسع صلاحيات السلطات المدنية بشكل خطير بينما حالة الحصار تنقل صلاحيات السلطة المدنية إلى السلطة العسكرية، أي أن إعلان حالة الطوارئ وحالة الحصار معا يعني فعليا منح السلطة العسكرية ليس فقط صلاحيات السلطة المدنية العادية، لكن أيضا صلاحياتها الاستثنائية الناجمة عن إعلان حالة الطوارئ ما يشكل تهديدا كبيرا للحريات العامة.

وما يفاقم من خطورة الأمر ليس فقط دمج أحكام حالة الحصار وحالة الطوارئ في لبنان وتركيزها بيد السلطة العسكرية العليا بل أيضا الضعف في رقابة مجلس النواب على حالة الطوارئ. فحالة الحصار في فرنسا كما حالة الطوارئ يتم إعلانهما بمراسيم لكن تمديدهما لفترة تفوق 12 يوما تحتاج إلى موافقة مجلس النواب الصريحة التي تتم عبر إقرار قانون بذلك. أما في لبنان فإن المادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 52 تكتفي بالنص على ضرورة “اجتماع مجلس النواب للنظر بهذا التدبير في مهلة ثمانية أيام وإن لم يكن في دور الانعقاد”. فهل النظر بهذا التدبير يعني ضرورة موافقة مجلس النواب صراحة على إعلان حالة الطوارئ علما أن السوابق التاريخية في لبنان لم تكن حاسمة في هذا المجال. ففي فرنسا كل إعلان لحالة الحصار أو الطوارئ لفترة تزيد عن 12 يوما تفرض صدور قانون يحدد المهلة الزمنية لتطبيق حالة الطوارئ على أن يتم تمديد هذه المهلة بقانون جديد أيضا يقره البرلمان. لا بل أكثر من ذلك تنص المادة الرابعة المعدلة من قانون 1955 الفرنسي على أن القانون الذي يمدد حالة الطوارئ يصبح لاغيا حكما بعد 15 يوما من حل الجمعية الوطنية أو استقالة الحكومة، بينما في لبنان تم تمديد حالة الطوارئ بطريقة مشكوك جدا بدستوريتها عندما كانت الحكومة مستقيلة.

كل هذه الملاحظات تؤكد أن النظام القانوني الذي أرساه المرسوم الاشتراعي لسنة 1967 هو نظام هجين ويحتاج إلى إعادة نظر ملحة من أجل حماية الحريات العامة وتوضيح الأطر القانونية التي تسمح بمراقبة تطبيق حالة الطوارئ بشكل شفاف وسليم.

  1. “Aussitôt l’état de siège déclaré, les pouvoirs dont l’autorité civile était revêtue pour le maintien de l’ordre et de la police passent tout entiers à l’autorité militaire”.
  2. Roland Drago, L’Etat d’urgence et les libertés publiques, RDP, 1955, p. 670 « L’état d’urgence est infiniment plus rigoureux que l’état de siège. C’est aujourd’hui l’état de siège qui semble être, si on compare les textes, un état intermédiaire (…) En un mot l’état d’urgence se caractérise, comme l’état de siège mais plus que l’état de siège, par une diminution des libertés publiques et de leurs garanties contre l’exécutif »
انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، أجهزة أمنية ، البرلمان ، مؤسسات عامة ، تشريعات وقوانين ، لبنان ، دستور وانتخابات ، مجزرة المرفأ



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني