بقع التعذيب التي لا تراها النيابات العامّة: شكاوى الثوّار في عهدة المشكو منهم


2020-10-20    |   

بقع التعذيب التي لا تراها النيابات العامّة: شكاوى الثوّار في عهدة المشكو منهم
تصوير ماهر الخشن

نشر هذا المقال ضمن العدد 66 من المفكرة القانونية حول “الثورة في مواجهة السلطة وعنفها”، وهو يتضمّن سلسلة تقارير توثق أساليب قمع السلطات اللبنانية لحرية التظاهر بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين. تظهر هذه التقارير حجم تضحيات القوى المعترضة في لبنان وتشكّل مضبطة اتّهام بحقّ السّلطة، وتحديداً المرفق القضائي-الأمني، لجهة استخدام القوّة ضدّ معارضيها وارتكاب الأجهزة الأمنية جرائم عديدة وجسيمة بقيت بمنأى عن أيّ محاسبة جدّية. وفي هذا المقال، نبحث في كيفية استخدام القانون، وتحديداً قانون معاقبة التعذيب، لمواجهة تعسّف السلطة بحق المنتفضين.

رغم انتشار أعمال العنف والتعذيب في أداء العديد من الأجهزة الأمنية، قلّما نشهد تحقيقاً جدّيّاً في الشكاوى المقدّمة ضدّها أو ضدّ عناصرها من الأشخاص المعتدى عليهم. وفي ظلّ ذلك، يسود انطباعٌ عامّ يعبّر عنه الناشطون في اليوم المخصّص لضحايا التعذيب من كل سنة بأنّ قانون معاقبة جرائم التعذيب رقم 65/2017 الذي انبثق عن مخاض عسير يبقى إلى حدّ كبير حبراً على ورق. في هذا السياق، أتت شكاوى التعذيب التي قدّمتها لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين كأحد أهمّ التحديات لتطبيق هذا القانون. 15 من هذه الشكاوى قُدّمت دفعة واحدة في منتصف كانون الأول 2019 واستتبعها مؤتمر صحافي أقامته اللجنة بتاريخ 6 شباط 2020 تبعاً لحفظ هذه الشكاوى. وقد أوضحت اللجنة في هذا المؤتمر الإجراءات التي سبقت هذا الحفظ وقادت إليه، ومنها أنّ النيابة العامّة التمييزية تمسّكت بإحالتها إلى النيابة العامّة العسكرية التي تمسّكت بدورها بإحالتها إلى الأجهزة الأمنية المشكو منها، قبل أن تصدر قراراً بحفظها على خلفية رفض الجهة المشتكية الإدلاء بإفاداتها أمام هذه الأجهزة. وعليه، فيما خلَتْ هذه الإجراءات من أيّ تحقيق جدّي في أعمال العنف والتعذيب، فإنّها قادت عمليّاً إلى تحميل المعتدى عليهم مسؤولية إجهاض الملاحقة.

وهذا ما سنحاول الغوص فيه وتحليله في هذه المقالة، بالنّظر إلى أهميّته الفائقة لفهم أهم أسباب تعطيل قانون 65/2017.

1- عن تعذيب لا يخضع لمعاقبة التعذيب؟

بخلاف النيابة العامّة التمييزية، رأت النيابة العامّة العسكرية (بشخص معاونة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية منى حنقير) أنّ الأفعال موضوع الشكاوى المحالة إليها لا يشملها قانون معاقبة جرائم التعذيب 65/2000. ويُعتقد أنّها اتخذت موقفها انطلاقاً من معطييْن:

الأول، أنها اعتبرت أن تعريف التعذيب في قانون 65/2017 يختلف عن تعريفه في الاتّفاقية الدوليّة لمكافحة التعذيب والتي صادق لبنان عليها. ومحور الاختلاف يتأتّى ليس عن الجهات التي ارتكبت العنف ولا عن الهدف منه (فتعريف النصّين متطابق في هذا الخصوص)، إنّما عن الفترة التي حصل العنف خلالها. وهذا ما يتحصّل من العبارة التي أضافها قانون معاقبة التعذيب على التعريف المعتمد في الاتفاقية الدولية ومؤدّاها حصر حالات التعذيب في أفعال العنف الحاصلة في مراحل الاستقصاء والتحقيق الأوّلي والتحقيق القضائي والمحاكمات وتنفيذ العقوبات. وعليه، وبفعل تضارب هذين التعريفين، بات النظام اللبناني يعيش ازدواجيّة، بحيث أنّ الفعل الذي يشكّل تعذيباً وفق الاتفاقية الدولية التي باتت جزءاً من المنظومة القانونية اللبنانية قد لا يكون كذلك وفق قانون 65/2017، كأنّما يقال إنّ التعذيب لا يشكل تعذيباً وإن الالتزام الدولي بمكافحة التعذيب ينطبق على بعض حالاته دون الأخرى. وقد تفاقمت الازدواجية هذه مع صدور قانون إنشاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان ومن ضمنها اللجنة الوطنية للوقاية من جرائم التعذيب والذي عاد ليعتمد تعريف التعذيب المعتمد في الاتفاقية الدولية. وقد تفرّعت عن هذه الازدواجية تساؤلات عدة. فهل تُسلّم النيابات العامّة ومعها القضاء بهذا الاختلاف فتُخلّ بالتزام الدولة بمكافحة جرائم تعذيب مع ما يستتبع ذلك من إنكار لعدد واسع من ضحاياه أم تعمد، على العكس من ذلك، إلى تفسير النصّ اللبناني على نحو يتناسب مع احترام هذا الالتزام ويُنصف الضحايا والأهم يُعيد الانسجام إلى النظام القانوني ككلّ؟ بدت النيابة العامّة في هذا الخصوص وكأنّها اعتمدت الخيار الأول.

الثاني، أنّها اعتبرت ضمناً أنّ الأفعال المشكو منها حصلت خارج مراحل الاستقصاء والتحقيق الأوّلي والتحقيق القضائي والمحاكمات وتنفيذ العقوبات. وبغضّ النّظر عن مدى سدادة التمييز في تعريف التعذيب، فإنّ اعتبار الأفعال المشكو منها حاصلة خارج هذه المراحل يقبل بدوره الانتقاد. فبمراجعة الشكاوى، يظهر أنّ العنف المستخدم قد تمّ في غالبه في سياق القبض على المعتدى عليهم أو في سياق احتجازهم في مقرّات الأجهزة الأمنية (وليس في سياق فضّ التظاهرات)، وتالياً في مراحل نشط فيها العناصر الأمنيّون في ملاحقة أشخاص بعينهم على خلفية افتراض ارتكابهم جرائم معيّنة، أي في مراحل يفترض أن يكون شملها التعريف الضيّق للتعذيب كما ورد في قانون 65/2017. وما يعزز هذه القراءة أيّ التوسّع في تعريف “الاستقصاء” هي الفائدة المرجوّة من تفسير الأحكام القانونية على نحو يقلل من حال الازدواجية الحاصلة أو يعيد الانسجام المفقود قدر الممكن.

 

تصوير ماهر الخشن

2- عن صلاحية النيابة العامّة العسكرية

تنفصل هذه الإشكالية عن الإشكالية المشار إليها أعلاه. فبمعزل عن التباين بين النيابة العامّة التمييزية والنيابة العامّة العسكرية لجهة تعريف الأفعال، فإنّ كلتاهما سلّمتا بصلاحية هذه الأخيرة في تولّي التحقيقات، خلافاً لمطالب لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين.

يُخالف هذا الاتّجاه من حيث نتيجته الاتّجاه الذي كانت انتهت إليه هاتان النيابتان بخصوص الشكوى التي تقدّم بها الممثل زياد عيتاني ضدّ ضباط أمن الدولة في 2018. فبعدما كانت النيابة العامّة التمييزية أحالت شكواه إلى المحكمة العسكرية، أعادتها هذه الأخيرة بناء على طلب عيتاني في ظلّ دعم عدد من المنظمات الحقوقية إلى النيابة العامّة التمييزية لكونها غير مختصّة في التحقيق فيها. تبعاً لذلك، أحالت النيابة العامّة التمييزية الشكوى إلى النيابة العامّة العدلية (الاستئنافية في بيروت) لإجراء التحقيقات اللازمة، وقد بدأت هذه الأخيرة فعليّاً بذلك. فما عدا ممّا بدا؟ وما هو التفسير الذي تعتمده النيابة العامّة في هذا الخصوص؟ وهل يشكّل اتّجاهها في قضية عيتاني اتّجاهاً مناقضاً لموقفها حيال شكاوى المتظاهرين، أم أنّ ثمّة أوضاعاً مختلفة تبرّر الأحكام المختلفة؟ للإجابة على ذلك، يقتضي تدوين الأمور الآتية والتذكير بها:

– تكريس صلاحية المحكمة العدلية لزوم ما لا يلزم

كانت هذه المسألة إحدى أكثر المسائل إثارة للجدل لدى مناقشة اقتراح القانون 65/2017، وبخاصّة لدى مناقشة البند الذي جرّد المحكمة العسكرية من أيّ صلاحية في هذا الخصوص ملغياً في الوقت نفسه ضرورة الحصول على أذون مسبقة للملاحقة في هذه الجرائم.

وفيما تمسّك عدد من النوّاب خلال الجلستين المخصّصتين لهذه الغاية وفق ما وثّقته “المفكرة القانونية” بإزالة الصلاحية الشاملة للمحاكم العدلية (العادية) بحجّة أنّ المحكمة العسكرية خطّ أحمر أو أنّ ثمّة ضرورة في تحصين الضبّاط الذين استثمرت الدولة مبالغ طائلة في تخريجهم (!)، خلص النقاش بالنتيجة إلى إزالة البند المذكور على أساس أنّه لزوم ما لا يلزم. وقد تمّ ذلك بعدما لفت بعض النواب إلى أنّ المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تجيز للنائب العامّ التمييزي ملاحقة أيّ خلل في عمل الضابطة العدلية أمام المحكمة العدلية ومن دون حاجة إلى إذن مسبق، تؤدّي إلى النتيجة نفسها.

وعليه، ورغم حماوة النقاش حول المحكمة العسكرية (والذي أخذ في بعض أبعاده منحىً كاريكاتورياً)، فإنّ اقتراح تجريدها من أيّ صلاحية في قضايا التعذيب لم يؤخذ به، ليس لأنّ الغالبية عارضته، بل لأنّه اعتبر لزوم ما لا يلزم. وبذلك، بدا واضحاً أنّ نيّة الغالبية النيابية اتّجهت، أقلّه ظاهرياً، إلى حصر صلاحية المحكمة العسكرية في هذا الخصوص. وما يعزز ذلك هو أنّ القانون صدر مرفقاً بأسبابه الموجبة التي تضمّنت حرفيّاً: تناط صلاحية الملاحقة والتحقيق والمحاكمة بالقضاء العدلي العادي دون سواه من المحاكم الجزائية الاستثنائية”.

يضاف إلى ذلك سؤال ثانٍ يتأتّى عن سوء صياغة المادة 15 نفسها. ففيما كرّست هذه المادة في فقرتها الأخيرة صلاحية شاملة للقضاء العدلي للنظر في إخلال الضابطة العدلية في مهامّها، فإنّها خوّلت في فقرة أخرى النائب العامّ التمييزي أن يطلب من أحد النواب العامّين الاستئنافي أو المالي أو العسكري أن يدّعي بحقّ من يرتكب جرماً جزائياً منهم في أثناء قيامه بوظيفته أو في معرض قيامه بها من دون أن يطلب إذناً بملاحقته. وقد فتح سوء الصياغة هذا باباً للتأويل. فمع التسليم بأنّ مجمل الأخطاء المرتكبة (ومنها جرائم التعذيب) من قبل الضابطة العدلية تعود للصلاحية الحصرية للمحاكم العدلية، يبقى الاختلاف قائماً حول مدى صلاحية النيابة العامّة العسكرية في التحقيق و/أو الادّعاء في الجرائم التي قد ترتكبها الضابطة العدلية العاملة تحت إشرافها، أي الجرائم المرتكبة منها بمناسبة التحقيق في الجرائم التي تدخل ضمن صلاحية المحاكم العسكرية. ومن شأن هذا التأويل أن يؤدّي إلى نتائج هجينة حيث يكون للنيابة العامّة العسكرية أن تدّعي أمام القضاء العدلي، وهو أمرٌ لا يستقيم وفق أصول المحاكمات الجزائية. وتبقى النيابة العامّة ومعها القضاء مدعوّة هنا أيضاً إلى إعادة الانسجام للنظام القانوني من خلال حصر التحقيق كما المحاكمة في القضاء العدلي، وذلك بهدف تعزيز إمكانيات تنفيذ الالتزام الدّولي بمكافحة جرائم التعذيب.

تصوير ماهر الخشن

3- في تكليف الأجهزة الأمنية التحقيق في الشكاوى المقدّمة ضدها

تكمن المسألة الثالثة الهامّة في هذا الإطار في إمكانية تكليف الأجهزة الأمنية بالتحقيق في أفعال التعذيب المدّعى بها. وترتبط هذه المسألة بالمادة 24 مكرّر من أصول المحاكمات الجزائية المُضافة بموجب قانون 65/2017 والتي تحظّر على النيابة العامّة استنابة الضابطة العدلية أو أي جهاز أمني آخر للتحقيق في قضايا التعذيب. بل يتعيّن عليها في حال الحاجة إلى التحقيق إمّا إجراء التحقيق بنفسها وإمّا أن تحيل الادّعاء إلى قاضي التحقيق المختصّ. وهذا الأمر إنّما يجنّب الضحايا الخضوع للجهاز الأمني الذي حقق معهم أو أي جهاز أمني آخر ويحصر التحقيق معهم بالقضاة، بما يشكّل حماية أساسيّة لهم ولحقّهم بالانتصاف القضائي.

ورغم وضوح هذا النص، فإنّ معاونة مفوّض الحكومة منى حنقير أحالت الشكاوى لإجراء التحقيقات اللازمة إلى مخابرات الجيش وفرع المعلومات، الأولى بالنسبة للأفعال المعزوّة لعناصر الجيش أو المخابرات، والثاني بالنسبة للأفعال المعزوّة لقوى الأمن الداخلي. وفيما عادت النيابة العامّة التمييزية لتصدر بتاريخ 13 كانون الثاني 2020 بناء على طلب لجنة المحامين، أمراً خطّيّاً بوجوب الالتزام بالمادة 24 وإحالة الأوراق إمّا إلى قاضي التحقيق المختص أو إجراء التحقيقات شخصياً، تمسّكت حنقير بموقفها لتنتهي إلى حفظ الشكوى لعدم استجابة المشكو منهم لدعوتهم إلى الحضور أمام المخابرات. ولم تخالف بذلك النص القانوني فحسب، إنّما أيضاً الأمر الصادر عن النائب العامّ التمييزي والأهمّ المبادئ العامّة التي ترعى مبادئ المحاكمة العادلة والتي تفترض عدم وضع أيّ متقاضٍ في وضعيّة الخضوع لتحقيق لا تتوفّر فيه شروط الحياديّة، كأن يكون المشتبه به عنصر في الجهاز الذي تمّ تكليفه إجراء التحقيق. وهذا الأمر ينطبق بشكل خاصّ في الظروف التي يشتبه فيها أنّ أعمال التعذيب لا تتأتّى عن أخطاء فردية لبعض العناصر، بل في الغالب عن نهج يتحكّم في آليات عمل الجهاز برمته.

بخلاف توجّه حنقير، اعتمد مفوّض الحكومة العسكري المستقيل بيتر جرمانوس منحىً مختلفاً في قضية تعذيب أخرى باشرها من تلقاء نفسه في أيار 2020 بعدما تداولت بها وسائل إعلام عدّة، حيث رجع عن إشارته بتكليف مديرية المخابرات المركزية بالتحقيق في قضية تعذيب محتجزين في المخابرات (فرع صيدا) بالصعق الكهربائي بناء على مذكّرة قدّمها إليه محامو اللجنة ليعود ويحوّلها إلى قاضي التحقيق العسكري دون ورقة طلب.

ختاماً، يُلحظ في هذا المضمار، أنّ الأجهزة الأمنية تمسّكت، في سياق مناقشات جانبية مع لجنة المحامين، بصلاحياتها في التحقيق في شكاوى مماثلة، بالنّظر لكونها المرجع المختصّ لتأديب العناصر واتّخاذ عقوبات مسلكية بحق المخالفين منهم. وعدا عن أنّ هذه الحجّة لا تتّصل بأي حال من الأحوال بالتحقيقات الحاصلة في إطار الشكاوى الجزائية التي تخضع لأصول المحاكمات الجزائية حصراً، يبقى أنّه كان من المستحسن أن ينظّم المشرّع صراحة التحقيقات المسلكية لمنع أيّ تأثير قد ينتج عنها على مآل هذه الشكوى.

خلاصة

تلك بعض أبرز التحديات التي أثارتها شكاوى التعذيب التي تقدّمت بها لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين، في إطار تصدّيها لتعسّف السلطة. تحدّيات يستحسن أن نستمع إليها وندرسها ونتعلّم منها جيّداً فلا تحصل مظلمة من دون تغيير.

 

 

نشر هذا المقال في العدد 66 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان. للاطلاع على مقالات العدد اضغطوا على الرابط: الثورة في مواجهة السّلطة وعنفها

انشر المقال

متوفر من خلال:

حراكات اجتماعية ، قضاء ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، حريات ، انتفاضة 17 تشرين ، المرصد القضائي ، أجهزة أمنية ، محاكم عسكرية ، حركات اجتماعية ، قرارات قضائية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني