“
أتى إقرار موازنة العام 2017 بعد 11 عاماً دون قانون موازنة (2006-2016 ضمناً)، لكنّه لم يُشكّل صدمةً إيجابية على الصعيد الماكرو-إقتصادي. فعلى أهمية “انتظام” الإنفاق العام والرقابة النيابية عليه، إلا أنّ الموازنة تفتقد إلى رؤية إقتصادية وإجتماعية وإلى إصلاحات ظرفية مُلحّة وأخرى بنوية مطلوبة على صعيدي السياستين المالية والضريبية. بغياب هاتين السياستين، تحوّلت موازنة العام 2017 إلى سلسلة طويلة من العمليات المحاسباتية، أي إلى جملة إيرادات لا تهدف سوى لتغطية مئات الصفحات من النفقات (72% منها للرواتب والأجور، لتحويلات الكهرباء ولخدمة الدين)[1].[2] نتطرّق في هذه المقالة إلى شق النفقات العامة في الموازنة، إذ نُفصّل ونحتسب بشكل دقيق سلسلة من النفقات الوهمية التي دفعتها السلطة التنفيذية عام 2017 وبمصادقة السلطة التشريعية عبر قانون الموازنة. رغم الجهد الذي بُذل في لجنة المال والموازنة النيابية (42 جلسة) والأخذ والرد في الهيئة العامة لتخفيض النفقات “غير الهامة” والتي “يمكن تجنّبها”، أظهرت حساباتنا 63 مليار ليرة من النفقات الوهمية بعد تدقيقنا في أكثر من ألف صفحة من جداول الإنفاق في الموازنة.
نقصد ب“النفقات الوهمية” الأموال المصروفة على مشاريع أو برامج أو مؤسسات غير موجودة فعلياً أو كانت قائمة لكنها إما توقّفت عن العمل وإما أنهت عملها قبل بداية العام المالي 2017، أي أنها لم تعمل يوماً واحداً خلال العام المذكور. ما يعني أننا لا نحتسب النفقات غير المُجدية أو غير الضرورية أو المصروفة في غير مكانها كما لا نحتسب الهدر في النفقات على أُسسٍ سياسية وطائفية ومناطقية (كالعطاءات إلى جهات لا تتوخى الربح من جمعيات وأندية، الدعم للطوائف، المدارس المجانية الطائفية والعشوائية…)، بل نكتفي فقط بتعريف “النفقات الوهمية” بالمعنى الأضيق للكلمة.
بناءً على هذا التعريف، ترتفع قيمة النفقات الوهمية إلى 000 205 867 62 ليرة لبنانية عام 2017، وسنقسمها إلى فئتين. تشمل الفئة الأولى النفقات المصروفة على مشاريع متوقّفة أو على برامج كانت مؤقّتة وانتهت؛ ترتفع نفقات هذه الفئة إلى 30.295 مليار ليرة. بدورها، تحتوي الفئة الثانية على نفقات “خيالية” بمعنى أنّها مَبالغٌ مقدّمةٌ إلى مشاريع ومجالس لم تكن يوماً قائمة (من نسج الخيال) أو أنها أموالٌ مُبالغٌ بها جداً؛ ترتفع نفقات هذه الفئة إلى 32.58 مليار ليرة.
30 مليار لمؤسسات متوقّفة عن العمل
تشمل الفئة الأولى من النفقات الوهمية 000 000 295 30 ليرة مصروفة على مشاريع وبرامج ومراكز كانت تعمل سابقاً، لكنها توقّفت عن العمل ولم تعمل يوماً واحداً عام 2017، وذلك إما لأنّ سبب إنشائها لم يعد قائماً فوجب حلّها وإمًا لأنها بالأساس برامج مؤقّتة بين الوزارات والمؤسسات الدولية. وفي الحالتين، تحوّل موظفو هذه المشاريع والبرامج إلى أصحاب أجور دائمة وسنوية ضمن الموازنة. مع العلم أنّ التوظيف في الأساس كان سياسياً عند انطلاقة هذه المشاريع، ولذلك تحوّل الدفع إلى دائمٍ. يضمّ هذا الشق الأول من النفقات الوهمية ما يلي: المركز اللبناني لحفظ الطاقة، المجلس الأعلى للخصخصة، مشروع “اليسار”، المجلس الأعلى اللبناني-السوري ومصلحة السكك الحديدية.
- المركز اللبناني لحفظ الطاقة : خصصت الموازنة 2 مليار ليرة لما يُعرف ب”المركز اللبناني لحفظ الطاقة” الذي انتهى عمله فعلياً. أُنشئ هذا المركز ضمن مشروع لوزارة الطاقة مع ال UNDP؛ انتهى المشروع وتحوّل المركز الى جمعية “دائمة” ضمن وزارة الطاقة (حظيت بالعلم والخبر لتأسيسها عبر وزارة الداخلية)؛ بات للمركز نفقات عامة ضمن باب وزارة الطاقة في الموازنة. للمزيد من الدقة، يصرف هذان الملياران فقط لدفع أجور موظفي “المركز اللبناني لحفظ الطاقة” إذ لا يوجد لهذا الأخير أية نفقات تشغيلية أخرى[3].
- المجلس الأعلى للخصخصة : ككل موازنة (أو نفقات من خارج الموازنة)، حظي المجلس الأعلى للخصخصة على مليار ليرة عام 2017، وذلك ضمن الفصل 207 من موازنة رئاسة مجلس الوزراء (الباب 3) (بند المساهمات داخل القطاع العام – بيان التبويب الخاص بالتحويلات)؛ صُرف المبلغ بكامله لدفع أجور ورواتب أعضاء مجلس الخصخصة.
- مؤسسة “اليسار” : علماً أنه مُعلّق منذ سنين عديدة، حظي مشروع “اليسار” بمبلغ ثلاثة مليارات وأربعمائة وعشرة ملايين ليرة عام 2017، وذلك ضمن الفصل 205 من موازنة رئاسة مجلس الوزراء (الباب 3).
- المجلس الأعلى اللبناني-السوري : شملت نفقات العام 2017 كسائر نفقات الأعوام السابقة مساهمة للمجلس الأعلى اللبناني-السوري بقيمة 885 مليون ليرة. رغم إنشاء السفارات بين الجمهوريتين اللبنانية والعربية السورية، لا يزال المجلس الأعلى قائماً، ما يطرح علامة استفهام حول فائدته. يُخصص المبلغ للمجلس الأعلى من موازنة رئاسة مجلس الوزراء (الباب 3) عبر بند “المساهمات داخل القطاع العام” ويُدفع بكامله للأجور والرواتب.
- السكك الحديدية : بزيادة كبيرة عن كافة السنوات السابقة، خصصت الموازنة 23 مليار ليرة للسكك الحديدية[4] ضمن موازنة وزارة الأشغال العامة والنقل (الباب 9)، منها 13 مليار “للشؤون العامة المتعلّقة بالسكك” (الادارة والأجور ومختلف النفقات الجارية لمصلحة السكك) و 10 مليار لبناء وتخطيط السكك الحديدية؛ بشأن هذا المبلغ الأخير لا تعليق! مع العلم أنّ المبلغ المرصود سابقاً لسكك الحديد لم يكن يشمل سوى الجزء الأول من الموازنة (نفقات تشغيلية للمصلحة)، لكن موازنة عام 2017 رفعت مبلغ المصلحة ووزّعته على جزئي موازنة الوزارة.
إشارةً، أننا لم نضع المجلس الإقتصادي الإجتماعي ضمن حسابات النفقات الوهمية بفعل إعادة تشكيله بمرسوم صدر في الفصل الأخير من سنة 2017. علماً أنّ مبلغاً قيمته 2 مليار ليرة كان يُخصّص للمجلس سنوياً عندما كان متوقّفاً عن العمل وذلك على مدى سنوات عدّة.
33 مليار ليرة من النفقات الخيالية
بخلاف الفئة الأولى ومشاريعها المتوقّفة، تشمل الفئة الثانية من النفقات الوهمية المبالغ المصروفة على مشاريع وبرامج لم تؤسّس ولم تبدأ عملها (ولو ليومٍ واحدٍ). يبلغ مجموع نفقات هذه الفئة الثانية 000 205 572 32 ليرة. يلفت نظر من يتصفّح جداول الموازنة العامة بعض البنود الإنفاقية الخيالية والغريبة، إما بسبب عدم وجودها فعلياً وإما بسبب عدم معرفة ماهيتها وإما بسبب الأرقام المبالغ بها لأمور بسيطة ومكرّرة كل عام. يضم هذا الشق الثاني مشروع تعزيز قدرات مقررات مجلس الوزراء، نفقات النصوب والشتول والأعياد والتمثيل ويمكن إضافة إيجار مبنى “الإسكوا”.
- تعزيز قدرات مقررات مجلس الوزراء: خصصت الموازنة العامة 000 205 172 2 ليرة كمساهمة لدعم مشروع تعزيز قدرات مقررات مجلس الوزراء، وذلك ضمن التحويلات (بيان التبويب 14) من موازنة رئاسة مجلس الوزراء (الباب 3)، تحديداً في بند “المساهمات داخل القطاع العام”. وتُظهر الجداول أنّ هذا المبلغ مخصّص بكامله للأجور والرواتب، ما يُؤشّر لغياب ما يسمى ب”المشروع”، فلا هيكلية ولا نفقات تشغيلية له (مراسلات واتصالات، أمانة سر، أرشيف، مواصلات، وقود وتدفئة…) كسائر بنود نفقات المشاريع الأخرى في الموازنة.
- نصوب وشتول : ضمن نفقات السلطات وكافة الوزارات يوجد بند إنفاقي يتكرّر سنوياً في الموازنات ومشاريع الموازنات (والنفقات من خارج الموازنة في السنين الأخيرة) هو بند النصوب والشتول؛ إذ يُستغرب تكرار هذا البند الإنفاقي سنوياً في كل أبواب الإنفاق. يرتفع مجموع مبالغ هذه البنود في مختلف أبواب الإنفاق ضمن موازنة العام 2017 إلى 4.3 مليار ليرة.
- أعياد وتمثيل : كنفقات النصوب والشتول، تشتمل مختلف أبواب الموازنة على بندٍ إنفاقيٍ مبالغ به ويتكرّر سنوياً مخصّص للأعياد والتمثيل ؛ ترتفع قيمة مجموع نفقات الأعياد والتمثيل عام 2017 إلى 11.1 مليار ليرة.
إلى هنا يصل مجموع الفئة الثانية من النفقات الوهمية إلى 18 مليار ليرة، لكنّ الموازنة تُظهر بدل إيجارٍ فعلي قيمته خياليّة هو إيجار مبنى “الإسكوا”. ترتفع قيمة بدل الإيجار في وسط بيروت إلى 15 مليار ليرة عام 2017 مدفوعة إلى شركة “سوليدير”. رغم أنّ الشركة والمبنى حقيقيّان، لكنّ القيمة من ضروب الخيال. لقد ارتفع إيجار هذا المبنى مليار و800 مليون ليرة خلال عام واحد (2016-2017). إذا تم احتساب مجموع ما دُفع من المال العام كبدلات إيجار لهذا المبنى وحده خلال أحد وعشرين عاماً (منذ العام 1997 وحتى العام 2017 ضمناً) يرتفع المبلغ (مدوّراً) إلى 000 000 500 247 ليرة، أي أكثر من كلفة إنشاء عدد من المباني المماثلة. مع العلم أنّه وفق حسابات “الدولية للمعلومات” يشكّل إيجار مبنى “الإسكوا” وحده 15% من مجمل كلفة إيجار المباني الحكوميّة، البالغة حوالي 100 مليار ليرة سنوياً[5].
إشارةً إلى أنّ موازنة العام 2017 قد خصّصت وللمرة الأولى مساهمةً للمجلس الوطني للسلامة المرورية بقيمة ملياري ليرة الذي قام ببعض النشاطات والمؤتمرات عام 2017؛ وعليه لن نشمله في حساباتنا. لم يُفعّل هذا المجلس بشكلٍ جدي سابقاً (حصل أول اجتماع له عام 2015)[6] ولم يكن له أية مساهمة مالية.
في الخلاصة، خصّصت موازنة العام 2017 حوالي 63 مليار ليرة صُرفت خلال العام المالي المُنصرم على مشاريع وبرامج ومصالح عامة غير موجودة أو متوقّفة تماماً عن العمل (48 مليار دون مبنى “الإسكوا”). علما أن النفقات المخصصة لهذه البنود قد ارتفعت بين آخر مشروع موازنة عام 2012 وموازنة العام 2017 حوالي 37 مليار ليرة –للمزيد يمكن العودة لمقالتي 26 مليار ليرة لمؤسسات عامة غير موجودة)[7]. يعود جزءٌ من الإرتفاع إلى التغيّرات في السلطة السياسية التي دخلها أفرقاء جدد مطالبين بحصصهم من المشاريع والبرامج والتوظيفات “الوهمية” على “قاعدة 6 و 6 مكرّر”.
كما نشير إلى أنّ إضافة المساهمات للجمعيات والهيئات (من طائفية وسياسية بغطاء إجتماعي) و”المشاريع” المشتركة مع هذه الأخيرة (195.105 مليار ليرة) وللمدارس المجانية الطائفية (115 مليار) يوصلنا إلى حوالي 300 مليار ليرة من النفقات التي يمكن تجنبها أو تخصيصها لغايات أخرى (دون المساهمات إلى النقابات وممثلي عدد من المهن وأصحاب العمل).
[1] في موازنة العام 2017، يُخصص حوالي 72% من النفقات العامة لثلاثة بنود أساسية وهي الرواتب والاجور وملحقاتها، خدمة الدين العام والتحويلات الى “مؤسسة كهرباء لبنان”. للمزيد حول العجز ونفقات الكهرباء وخدمة الدين العام يمكن العودة لمقالة موريس متى، “موازنة 2017 تبصر النور بعد تأخر 11 عاماً العجز يبقى مقلقاً مع استمرار تنامي الدين العام”، صحيفة النهار، 18 تشرين الأول 2017.
[2] إضافةً لغياب الرؤية الإقتصادية، ترافق إقرار الموازنة مع إخفاقين أساسيين. الإخفاق الأول هو استحداث مادة قانونية تُجيز إقرار الموازنة من دون قطع حساب للنفقات السابقة. فيما يظهر الإخفاق الثاني في إهمال الموازنة لإشكالية النزوح السوري بمساهماته الإيجابية وبأكلافه السلبية على الإقتصاد والأمن والبنية التحتية والخدمات العامة.
[3] إشارةً أنّ مشروع الموازنة خصص 6 مليارات ل”المركز اللبناني لحفظ الطاقة” ثم خُفّض المبلغ لمليارين بعد نقاشات الهيئة العامة لمجلس النواب (لا سيما بين النائب محمد قباني والوزير سيزار ابي خليل)؛ وقد “أفتى” النواب بتخفيض المبلغ على أن يكفي لدفع أجور موظفي المركز. سجّل النائب فضل الله اعتراضه بقوله حرفياً “هذا هو الفساد، 2 مليار ليرة للتنفيعات. أين هو عمل 4 أشهر داخل لجنة المال؟” فقال الرئيس نبيه بري (الذي يُسجّل له إرادته بشطب البند بكامله من الموازنة أثناء النقاشات) بالقول: “عم نرقّع ترقيع“.
[4] أقصد هنا الوظيفتان الفرعيتان 4531 و4532 ضمن الوظيفة الثانوية رقم 45 (جدول التصنيف الوظيفي لموازنة العام 2017).
[5] حسابات “الدولية للمعلومات” منشورة في مقالة فيفيان عقيقي،”أسرار الموازنة: ما لم نشاهده على الشاشات”، صحيفة الأخبار، العدد 3307 25 تشرين الأول 2017
[6] قانوناً، يرأس المجلس المذكور رئيس مجلس الوزراء ويضم أربعة وزراء ويتألّف من أمانة السر واللجنة الوطنية للسلامة المرورية (برئاسة وزير الداخلية).
[7] جورج عازر الحداد، “26 مليار ليرة لمؤسسات عامة غير موجودة”، المفكرة القانونية، العدد 36، شباط 2016، ص.16
“