انحياز النيابة العامة المصرية في القضايا السياسية


2017-11-29    |   

انحياز النيابة العامة المصرية في القضايا السياسية

أصدرت النيابة العامة المصرية بتاريخ 12-9-2017 قراراً بحفظ التحقيقات فى قضية مقتل الشهيد جابر صلاح الشهير بجيكا[1] والمعروفة إعلامياً بأحداث محمد محمود الثانية[2]، وذلك بزعم عدم توصلها إلى معرفة الجاني. وحصل ذلك على الرغم من تقديم  محامي المجني عليه كافة الأدلة المرئية والمنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ والتي توضح لحظة قتل جيكا على يد أحد ضباط الأمن المركزي؛ وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات حول جدية التحقيقات التي أجرتها النيابة على مدار خمس سنوات. وهذه ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها هذا التساؤل، حيث حفظت النيابة خلال السبع سنوات الماضية، منذ الثورة، العديد من التحقيقات في حالات قتل متظاهرين أثناء تظاهرات واشتباكات بين المتظاهرين وأفراد الشرطة. وعلى نقيض ذلك، نلاحظ أن أداء النيابة العامة يختلف في القضايا التي يكون المجني عليه ضابط شرطة، حيث تتحرى الدقة فى التحقيقات مع المتظاهرين ولا تتردد فى حبسهم احتياطياً لاستكشاف كافة الوقائع التي قد تساعد في معرفة الجاني. وهو ما يسلّط الضوء على انحياز النيابة العامة في القضايا السياسية إلى السلطة التنفيذية؛ مما يؤدي إلى إهدار كافة الحقوق القانونية المكفولة للمواطنين بمقتضى القانون والدستور، وإفلات العديد من الضباط المتهمين بقتل المتظاهرين من المحاكمة. يحاول هذا المقال تسليط الضوء على هذا الانحياز وآثاره، مع مناقشة تأثير النظام الهرمي للنيابة العامة وشبهة عدم استقلاليتها على أعمالها.   

تقاعس النيابة العامة عن الحفاظ على الأدلة: وسيلة لتبرئة أفراد الشرطة

تعتمد النيابة العامة بشكل عام فى تحقيقات الجرائم على الأدلة والمضبوطات التى استُخدمت فى ارتكاب الجريمة ولو كانت بسيطة وتعتبر الأدلة المادية ركنا أساسيا فى معرفة الجاني. فقبل البدء فى التحقيقات وأخذ الأقوال، على  النيابة العامة أن تنتقل سريعاً إلى مكان وقوع الجريمة بمجرد العلم بها وذلك خشية من العبث بمسرحها وتغيّر معالمه، ويعاونها فى ذلك رجال الشرطة وخبراء وفنيون من الأجهزة المختصة[3]. من الجدير ذكره أن قانون الإجراءات الجنائية عند تنظيمه أعمال النيابة العامة في هذا الأمر استخدم فى نصوصه عبارات ومدلولات عامة ومطاطة، مما أدى إلى اعتماد النيابة على كتاب التعليمات القضائية الذي يصدر عن النائب العام سنوياً. ونشير إلى أن النيابة العامة تخالف كلا التشريعين بتقاعسها عن سرعة القيام بالمعاينة الجدية وتحريز وضبط الأسلحة المستخدمة في قتل المتظاهرين؛ مما قد يمثل تواطؤاً ومساعدة للجناة على إخفاء عناصر إدانتهم؛ ويهدر بدوره حق المجنى عليهم. فعلى سبيل المثال، في قضية جيكا، لم تتحرك النيابة العامة لإجراء أي من المعاينات لمكان وقوع الجريمة، ولم تقم بالتحفظ على أسلحة رجال الشرطة المتواجدين في الميدان يومها لتحديد الناقص من ذخيرتها لحصر عدد المشتبه فيهم من رجال الأمن المركزي؛ خاصة أن الطب الشرعي أثبت، بعد فحص الطلق الناري، أنه مما تستخدمه الشرطة فى فض الاشتباكات. وخالفت النيابة بذلك كتاب التعليمات العامة للنيابات الذي خصص فصلاً كاملاً[4] عن التحقيق مع أفراد الشرطة وضح فيه صراحة ضرورة سرعة التحقيق فى القضايا التي يتهم فيها أفراد شرطة وسرعة ضبط أسلحتهم والتحفظ عليها لضمان عدم تلفها حتى ولو استلزم الأمر إيداعها بمخازن النيابة العامة. وأدى امتناع النيابة العامة عن تنفيذ تلك التعليمات إلى إخفاء جهاز الشرطة الأدلة التي قد تدينه من الأسلحة والدفاتر الخاصة بأسماء وبيانات المكلفين بالخدمة فى مكان الواقعة. وما يؤكد تقاعس النيابة العامة عن القيام بدورها في المعاينة وتحريز الأسلحة في تلك الجرائم هو سرعة انتقالها إلى مكان مقتل شيماء الصباغ، في فعالية إحياء ذكرى الثورة 2015، وأمرها بالتحفظ على كافة الأسلحة المستخدمة من الضباط خلال تلك الفعالية، وذلك على أثر الغضب المجتمعي الواسع من مقتل شيماء الذي كاد أن يشعل الأحداث مرة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن السلطة التنفيذية حاولت اتهام الإخوان المسلمين بقتل شيماء. إلا أن الفيديو المصور للضابط عاقها عن ذلك؛ مما دفعها للاستعانة بالنيابة العامة لسرعة اتخاذ الإجراءات القانونية ضد الجاني. وهو ما يدلل على استخدام النيابة العامة كأداة لتهدئة الرأي العام في هذه الواقعة، أو لتبرئة أفراد الشرطة في القضايا السابق ذكرها.

على جانب آخر، في قضية جيكا، قدم المحامون للنيابة أدلة جوهرية هي عبارة عن فيديوهات وصور واضحة تبين لحظة ضرب الضابط وسقوط جيكا قتيلاً. إلا أن النيابة العامة لم تلتفت إليها؛ بالإضافة إلى أن كافة الأدلة المقدمة من المحامين، وأقوال الشهود وتقرير الطب الشرعي أثبتت أن مُحدث الإصابة هو ضابط بوزارة الداخلية؛ ولكن النيابة قامت بغض النظر عن كل تلك الدلائل. كما أنها سلكت نفس النهج فى قضية مقتل محمد الشافعي في أحداث ذكرى الثورة الثانية عام 2013، وقامت كذلك بحفظ التحقيقات لعدم معرفة الجاني، بعد سنتين من التحقيقات. بالإضافة إلى ذلك، تتجاهل النيابة العامة في حالات كثيرة تسجيلات الكاميرات العامة والخاصة الموجودة بمحيط الاشتباكات، إذا كانت ستؤدي إلى إدانة الشرطة. فعلى سبيل المثال، في قضية من قضايا تظاهرات الأرض، قامت نيابة قصر النيل بالتراجع عن طلبها بتفريغ كاميرات المراقبة المثبتة بمكان الواقعة بزعم ضرورة الإحالة للمحاكمة العاجلة[5]؛ وهو الأمر الذي يدلل على سعي النيابة العامة لتبرئة رجال الشرطة خاصة أن المتهمين ومحاميهم أكدوا على عشوائية القبض واستخدام العنف من قبل الشرطة خلال القبض عليهم وطلبوا تفريغ تسجيلات الكاميرات لإثبات ذلك.   

ويدلل ما سبق على انحياز واضح من النيابة العامة إلى جهاز الشرطة، والسعي إلى تبرئة أفراده من أي تهمة قد توجه إليهم من خلال إعطائهم الوقت اللازم لإخفاء كافة الأدلة المادية التي قد تدينهم أو عن طريق عدم الالتفات إلى الأدلة التي يقدمها المحامون وعدم مطالبة وزارة الداخلية بتسليم دفاتر الخدمة الخاصة ببيانات أفراد الشرطة المكلفين بالخدمة وقتها والتي يمكن اعتبارها دليل إدانة لفرد من أفراد الشرطة. ويمثل ذلك تنحّيا من قبل النيابة العامة عن أهدافها فى تحقيق العدالة المجتمعية بالبحث عن الجناة الحقيقيين في الجرائم وتقديمهم للمحاكمة العلنية كونها تعتبر “محامي الشعب”.

تحقيقات النيابة العامة مع الضباط والمتظاهرين وإجراءات ما بعد التحقيق: مواقف مسبقة وتحقيقات صورية

إلى جانب الانتهاكات التى تم ذكرها فى تعامل النيابة العامة مع الأدلة المادية وأقوال شهود الواقعة، نلاحظ تبني النيابة العامة سياسيات تمييزية ضد المتظاهرين وانحيازها للضباط أثناء مرحلة التحقيق.

فالنيابة العامة تمارس انتهاكات عديدة أثناء التحقيق مع المتهمين بالقضايا السياسية، حيث تتغاضى دائماً عن الانتهاكات التي تقع من رجال الشرطة على هؤلاء خلال عملية القبض العشوائي والتعذيب داخل مقرات الاحتجاز قبل العرض على النيابة العامة. كما أن أعضاء النيابة العامة، أثناء التحقيق، يقومون بتوجيه أسئلة للمتهمين توحي بتوجيه الاتهام لهم بناء على آرائهم السياسية وليس على أساس وقائع؛ مما يعكس موقفهم المسبق المنحاز إلى السلطة التنفيذية. فعلى سبيل المثال، وجهت النيابة العامة للمتهمين بالتظاهر من أجل مصرية جزيرتي تيران وصنافير، والمقبوض عليهم في أبريل 2016، أسئلة تتعلق بانتماءاتهم السياسية ومواقفهم من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية وما إذا سبق لهم الاشتراك فى تظاهرات من قبل؛ قبل التطرق إلى سؤالهم عن واقعة تظاهرهم بدون ترخيص أو تعطيل المرور[6].  

أما فى قضية مقتل محمد الشافعي، فتعدى الانحياز مجرد توجيه أسئلة سياسية إلى المتظاهرين إلى حدّ اتهام بعضهم بقتل ضباط وحرق مدرعات، وأمرت بحبسهم احتياطياً لمدة قاربت السنتين، في نفس الوقت الذي لم تحرك الدعوى الجنائية فى وقائع قتل المتظاهرين في نفس الحدث تجاه أي ضابط شرطة، وأمرت بحفظ القضية بعد مرور سنتين من التحقيقات؛ كما أشرنا. بالإضافة إلى ما سبق، نجد النيابة تنتقل في قضايا كثيرة للتحقيق مع المتهمين في مقرات شرطية، وتعتمد على رجال الشرطة كشهود منفردين ضد المتظاهرين، كما تستعين بهم في بعض الأحيان ليقوموا بمهام أمناء السر في التحقيق، رغم اعتبارهم من الخصوم[7].

وفي موازاة ذلك، يختلف أداء النيابة العامة كلياً فى القضايا التى يتهم فيها ضباط شرطة، حيث يتم اعتبار الضباط ومسؤولي الأقسام  شهوداً على الواقعة ضد المتظاهرين، وليسوا متهمين بقتل والشروع فى قتل المتظاهرين. ففي قضايا مظاهرات الأرض[8]، على سبيل المثال، تجاهلت النيابة العامة ادّعاءات المتهمين بانتهاك قوات الشرطة لحقوقهم أو احتجازهم تعسفياً لمدة طويلة أو تلفيق التهم لهم، بالإضافة إلى رفض النيابة العامة تحويل المتهمين للطب الشرعي لإثبات ما بهم من إصابات ناتجة عن التعذيب. وفي قضية اتهام ضابط بإطلاق نار على مواطنين في 2011 مما أدى إلى مقتل أحدهما وإصابة الآخر، قررت النيابة ألا وجه لإقامة الدعوى، معتمدة على توصيف الضابط للواقعة على أنها مطاردة للمجني عليهم لحيازتهم المخدرات؛ متجاهلة كافة الأدلة الفنية وأقوال المجني عليه الثاني[9].

بالإضافة إلى ذلك، يظهر الخلل في العلاقة بين النيابة العامة ووزارة الداخلية من خلال اعتماد وكلاء النيابة على محاضر جمع الاستدلالات التي يحررها أفراد الداخلية، والتي تعكس آراءهم العدائية عن المظاهرات والمتظاهرين، دون التدقيق فيها أو البحث في مدى صحتها؛ على الرغم من أن كتاب تعليمات النيابة العامة[10] يمنع محرري محاضر الاستدلالات، وهم رجال الشرطة من كتابة آرائهم التي تعكس انحيازهم. وبذلك يصبح جهاز الشرطة، الخصم فى الدعوى، وأداة إدانة للمتظاهرين، لأن كافة التحريات التى تحرر بمعرفة الشرطة تفيد بصحة ارتكاب المتهمين للواقعة محل الاتهام. كما يصبح جهاز الشرطة وسيلة لتبرئة ضباطها حيث تنفي في محاضرها تهم القتل عنهم وتلصقها ببعض البلطجية من حاملي السلاح و المندسين بين المتظاهرين أو المتظاهرين أنفسهم.

ويتضح مما سبق هيمنة السلطة التنفيذية على أعمال النيابة العامة، ليس فقط فى اتخاذ قراراتها إنما فى تقديم أدلة تثبت تورط المتظاهرين وتنفي التهمة عن الضباط. وبالتالي، يتم استخدام النيابة العامة كسلاح في يد السلطة التنفيذية لردع معارضي النظام ومعاقبتهم على مواقفهم السياسية وممارسة حقوقهم المدنية والسياسية المكفولة لهم بالقانون والمعاهدات الدولية. وما يسهل ذلك هو جمع النيابة العامة بين سلطتي التحقيق وتوجيه الاتهام مما قد يجعلها الخصم والحكم في بعض الحالات  في بعض الحالات، خاصة تلك المتعلقة بقضايا لها طابع سياسي. وهذا الجمع يخالف المعايير الدولية المتعلقة باستقلالية النيابة العامة[11] وضمانات المحاكمة العادلة[12]. كما أن تنظيم النيابة الحالي يخالف تلك المعايير حيث يقوم على التنظيم الهرمي، الذي يعتمد على خضوع أعضاء النيابة حسب درجاتهم إلى تعليمات وأوامر من هم أعلى منهم درجة وخضوعهم كلهم للتعليمات والأوامر الصادرة من النائب العام. وهو ما يسهل السيطرة على أعضاء النيابة كذلك. فنلاحظ أثر هذا التنظيم فى قضايا الأرض[13]، حيث قام وكيل النيابة، بعد الانتهاء من التحقيقات، بانتظار قرار المحامي العام للتصرف فى التحقيق، وهو ما يدلل على غياب الحيادية في عمل النيابة و ينتهك استقلاليتها خاصة فى حالات خصومة المتهمين مع النظام الحاكم. كما أنه في قضية قتل السجناء في سجن استئناف القاهرة أثناء ثورة 2011، قامت النيابة العامة بحفظ الدعوى، رغم قيامها بالتحقيقات اللازمة وتقديم أدلة تدين الضباط[14]؛ مما يوحي بتدخل من قبل عضو نيابة أعلى درجة أو من السلطة التنفيذية لعدم تحريك الدعوى ضد الضباط.

ولعل ما يحمي أعضاء النيابة العامة من المساءلة حول قرارات الحفظ أو القرارات القائلة بأن لا وجه لإقامة الدعوى، هو كتاب التعليمات القضائية للنيابات الذي خول لعضو النيابة العامة صلاحية حفظ الأوراق إذا اقتضت اعتبارات الصالح العام[15]، دون أي تعريف للصالح العام؛ مما يؤدي إلى سلطة تقديرية واسعة لوكيل النائب العام فى تقدير أهمية إحالة القضية للمحاكمة من عدمه. وهو الأمر الذي يعطي النيابة العامة ذريعة قانونية لحفظ التحقيقات في قضايا قتل المتظاهرين أو أي قضايا ضد ضباط شرطة، دون أي محاسبة.

خاتمة

تدخّل السلطة التنفيذية فى أعمال النيابة العامة ليس وليد اليوم. إلا أن تلك التدخلات أصبحت ملحوظة مع بداية ثورة يناير، نظراً لكثرة عدد القضايا السياسية المتزامنة مع التظاهرات وأعمال العنف والقمع ضد المتظاهرين. ونظراً لسوء سمعة نيابات أمن الدولة في عصر مبارك، تم إحالة القضايا التي كانت تحال إليها إلى النيابة العامة بعد الثورة، مع تدخل أوضح من السلطة التنفيذية فى قراراتها، مما عصف باستقلالية النيابة العامة كجزء من المنظومة القضائية وأدى إلى تراجع دورها فى إرساء العدالة المجتمعية. وأدى كل ما سبق إلى استخدام النيابة العامة كأداة لتبرئة أو منع محاكمة أفراد الشرطة، كجزء من النظام الحاكم؛ وبالتالي العصف بمبدأ المحاكمات العادلة والمنصفة؛ وعدم استرداد حقوق المجني عليهم من المواطنين. وهو الأمر الذي يعكس غياب تكافؤ الفرص القانونية بين المجني عليهم، المتقاضين، على حسب وضعهم في المجتمع، مما أدى إلى ظهور النيابة العامة كشريك جديد للنظام الحاكم وبالتالي إيجاد حالة من النفور المجتمعي تجاهها.

وأدى غياب الدور الحقيقي للنيابة العامة وزيادة سيطرة السلطة التنفيذية على قراراتها إلى تكريس نوع من الحصانة لرجال الشرطة من العقاب، مما دفعهم للقيام بالمزيد من أعمال العنف تجاه المواطنين وكثرة حالات التعذيب داخل المقرات الشرطية.

نشر هذا المقال في العدد 9 من مجلة المفكرة القانونية في تونس.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، مصر ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني