“
بعد أن قضى الناشط السياسي علاء عبد الفتاح خمسة أعوام في السجن كعقوبة لمشاركته في تظاهرة، بدأ مباشرة في تنفيذ عقوبة إضافية عن ذات الفعل مدتها خمس سنوات تسمى بالوضع تحت مراقبة الشرطة، وقد ألزمت وزارة الداخلية علاء بأن يذهب يوميًا الساعة السادسة مساء إلى قسم الشرطة التابع له ويتم إيداعه إحدى الغرف حتى صباح اليوم التالي، ومنعه خلال ذلك من حيازة الحاسوب الآلي الشخصي أو أي من وسائل التواصل مثل التليفون المحمول. وهو الأمر الذي اعتبره عبد الفتاح وعائلته يخالف القانون ويهدد اندماجه داخل عائلته وتواصله مع ابنه، وهو ما دفعه إلى إقامة دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري يطالب فيها بإلغاء قرار وزارة الداخلية بتحديد مقر قسم الشرطة مكانا يقضي فيه الليل تنفيذا لعقوبة المراقبة الصادرة بحقه بدلا من منزله المعلوم لدى الشرطة، معتبرًا أن ذلك هو التطبيق الصحيح للقانون[1]. كما قام عبد الفتاح برفع دعوى أخرى لتحسين ظروف المراقبة ذاتها، وتقدمت والدته “ليلى سويف” بطلب لقسم الشرطة مؤخرًا لقضاء عيد الأضحى مع أسرته من دون مراقبة، وهو الطلب الذي لم يلق جواباً من جانب الشرطة[2].
عبد الفتاح ما هو إلا مثال واحد فقط عن عشرات من النشطاء السياسيين الذين تم وضعهم تحت المراقبة في السنوات الأخيرة، ويعانون من نفس المشاكل، وعدم قدرتهم إلى عودتهم إلى حياتهم الطبيعية بعد قضاء عقوبتهم. والملاحظ أنه يتم منذ سنوات استهداف النشطاء وخاصة المحكوم عليهم في قضايا تظاهر من خلال وضعهم تحت المراقبة الشرطية لمدة مماثلة لمدة سجنهم؛ وهو الأمر الذي يعكس رغبة ما في معاقبتهم لأطول فترة ممكنة والتأثير سلباً على حياتهم، في إيحاء بانتقام سياسي. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل حول ماهية المراقبة الشرطية وكيف يتم تطبيقها على المحكوم عليهم السياسيين؟ وما هي البدائل الممكنة لها؟
ماهية الوضع تحت المراقبة الشرطية
الوضع تحت مراقبة الشرطة هي عقوبة وقائية يُحكم بها في بعض الحالات خاصة تلك المتعلقة بالاعتياد على ارتكاب الجريمة، ولذا نجد أنه يجوز الحكم بها حال العودة إلى ارتكاب جنح السرقة والنصب وكذلك من ارتكب جرائم الدعارة والتي في أغلبها متعلق بالاعتياد على الفعل. ويبدو أن ظروف الظلام قديمًا والخوف من استغلاله لارتكاب الجرائم كان لها عامل مؤثر سواء في وضع قواعد المراقبة أو الحكم بها ولذا نجد جواز الحكم بالمراقبة على من يرتكبون جرائم حددها المشرع ليلًا[3] والتشدد في عدم السماح للمحكوم عليه بالتنقل أثناء الليل إلا بإذن الشرطة، وإلزام المحكوم عليه بعدم حمل أي أدوات من الممكن أن تستخدم في الاعتداء على الأشخاص أو الممتلكات أو فتح المحلات والمساكن. وبالتالي، فإن المُراقب يلتزم بعدم مغادرة مسكنه من غروب الشمس حتى شروقها،[4] ويجوز الإعفاء من ذلك لمن تحتم ظروف عمله أو أي سبب مشروع آخر التواجد خارج مسكنه ليلا[5]، ومن المفترض أن تقوم دوريات شرطية بالمرور على مسكن المحكوم عليه للتأكد من وجوده في سكنه.[6] تلك هي القواعد الأساسية لعملية المراقبة واستثناء من ذلك إن لم يكن للمراقب سكن أو اتخذ مسكنا يصعب الوصول إليه والتحقق من وجود المراقب فيه جاز أن تحدد له الشرطة مكانا يقضي فيه الليل ومن الممكن أن يكون هذا المكان قسم الشرطة بوصفه الملجأ الأخير.[7]
ويعتبر الأمر العالي رقم 18 لسنة 1891[8] أول تنظيم لإجراءات وضوابط تنفيذ تلك العقوبة، ولم تكن تسمح القواعد بإلزام المراقب بالمبيت في أقسام ومراكز الشرطة، وإنما يلزم بعدم مغادرة مسكنه من الغروب للشروق، ولكن مع صدور أمر الحاكم العسكري رقم 96 لسنة 1940[9]جاز إلزام المراقب بالمبيت في قسم الشرطة وفقا للشروط سابقة الذكر ومن حينها ولا تزال تلك القاعدة يعمل بها حتى الآن، حيث نقل نصها إلى القانون الساري حاليا رقم 99 لسنة 1945 بشأن تنظيم الوضع تحت مراقبة البوليس،[10] ولم يشهد قانون المراقبة الأخير أي تعديلات جوهرية من أربعينيات القرن الماضي حتى اليوم.
ونلاحظ أن الهدف الأساسي من هذه العقوبة هو التقييد على الأشخاص الذين يشير ماضيهم الجنائي امتهانهم الجريمة وارتفاع فرص عودتهم لها مجددًا، وبالتالي، يصبح الغرض منها حماية المجتمع. وهنا يجب طرح التساؤل حول تطبيق هذه العقوبة على الناشطين السياسيين وبخاصة المحكوم عليهم بسبب اشتراكهم في تظاهرة.
كيف يوضع السياسيون تحت مراقبة الشرطة؟
يستخدم القضاة المرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2011 من المجلس العسكري بشأن الترويع والتخويف والمساس بالطمأنينة (قانون البلطجة)[11]لإصدار أحكام بالوضع تحت المراقبة ضد المقبوض عليهم في تظاهرة. هذا القانون يشمل بالإضافة لعقوبة الحبس، عقوبة الوضع تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لعقوبة الحبس المقضي بها وبحد أقصى خمس سنوات. ونلاحظ أن النيابة العامة اعتبرت المتظاهرين بلطجية ووجهت لهم – في قضايا التظاهر بدون ترخيص- تهم استعراض القوة بطريقة من شأنها إلقاء الرعب في نفوس رجال الشرطة أو السكان؛ وذلك لضمان حبسهم، حيث أن تهمة التظاهر بدون ترخيص لا تؤدي إلى عقوبة مقيدة للحرية؛ بالإضافة إلى إمكانية الحكم عليهم بعقوبة الوضع تحت المراقبة الشرطية لمدة مماثلة لمدة الحبس.
ويعكس تطبيق قانون البلطجة على المقبوض عليهم بسبب التظاهر بدون إخطار بكل وضوح رغبة الدولة الانتقامية من هؤلاء، وضرورة تلقينهم درسًا لعدم محاولة معارضة سياسات النظام مرة أخرى. وأفضل طريق لذلك هو تدمير حياتهم لمدة قد تصل إلى 10 سنوات بالسجن أولا ثم المراقبة ثانيا؛ وهي المدة الكفيلة بقلب حياة شخص رأسًا على عقب وجعل من الصعب جدا عليه معاودة حياته بشكل طبيعي.
تنفيذ حكم القانون أم تعسف في تطبيقه؟
كما وضحنا، فأن الأصل أن يلتزم المُراقب بعدم مغادرة مسكنه من الغروب إلى الشروق طالما اتخذ سكنا في دائرة الشرطة التي يراقب بها، وقد وضع المشرع استثناء وحيدا على ذلك وهو كون السكن الذي اتخذه المراقب يتعذر مراقبته فيه، والمقصود بذلك عدم قدرة الشرطة على التثبت من أن الشخص الموضوع تحت المراقبة لم يترك مسكنه أثناء الساعات المحددة لذلك وفقًا لأحكام المادة 21 من القانون 24 لسنة 1923[12]. والاستثناء هنا يعود على السكن ذاته ومكان تواجده وقدرة الوصول إليه وليس هناك استثناءات متعلقة بشخص المحكوم عليه أو جرمه، يكون للشرطة أن ترفض على أساها مبيت المحكوم عليه في سكنه، بمعنى أنه يكون عليها إذا رغبت تعديل شروط المراقبة أن تعاين السكن وأن تبيّن أوجه التعذر تلك مع اتاحة الفرصة للمحكوم عليه في اتخاذ سكن آخر يوافق المعايير التي تضعها الشرطة لتتمكن من المراقبة وذلك إذا ما كان لديها معايير من حيث الأصل. أما إذا ما اعتمدت الداخلية على كون النص يعطيها سلطة تقديرية في تحديد ما إذا كان هذا السكن يمكن التحقق من وجود المتهم بداخله أم لا بدون إعطاء أسباب منطقية وواقعية فيكون قرارها تعسفا في استخدام السلطة.
لا يتوقف الأمر حاليًا عند مجرد إلزام المحكوم عليهم بالمراقبة بالمبيت في أقسام الشرطة رغم أن لديهم سكن معلوم للداخلية ولكن يتم تعرضهم للعديد من الانتهاكات خلال تواجدهم في تلك الأقسام. ويأتي على رأس تلك الانتهاكات احتجازهم في غرفة مغلقة، قد يصل عدد المحتجزين فيها إلى عشرين شخصًا مع عدم توفير أسرة أو ظروف ملائمة للنوم. وتجدر الإشارة إلى أنه وفقا للقانون، لا يجوز وضع المراقب في مقرات الاحتجاز الملحقة بأقسام ومراكز الشرطة لكون المراقب غير مقبوض عليه أو محبوس احتياطي أو يقوم بتنفيذ عقوبة حبس حيث أن تلك الفئات فقط هي التي يجوز إيداعها السجون ومقرات الاحتجاز[13]، ويتحايل القسم على ذلك بإدخال المراقب في غرفة غير تلك المخصصة للاحتجاز وقفل الأبواب عليه وهو ما يجعل منها في الحقيقة غرفة احتجاز غير قانونية، فالعبرة ليست بمسمى الغرفة ولكن بمدى تقييد حرية الفرد؛ مما يجعل ما يحدث مع المراقبين شكلا من أشكال الاحتجاز التعسفي، وسبق ووصف علاء عبد الفتاح ما يحدث بـ”سجن نصف يوم“[14]. كما أن منع المُراقب من استعمال أي وسيلة اتصال مع العالم الخارجي أو قيامه بأداء عمله، يعزز فكرة أنه مُحتجز وليس مُراقب.
وبالتالي؛ تتحول المراقبة من إجراء احترازي يهدف إلى حماية المجتمع من عودة المحكوم عليه للجريمة إلى شبه تدمير للحياة اليومية للمراقب ليلًا ونهارًا، فلا يستطيع أن يحصل على الحد الأدنى من النوم اليومي وينعكس ذلك على مدى قدرته على العمل أو التعليم نهارًا كما يؤثر بالسلب على حالته الصحية والنفسية[15] وهو ما يتعارض مع الهدف من الوضع تحت المراقبة حيث لا يتم تقويم المُراقب وإدماجه في المجتمع، كما يخالف قانون المراقبة ذاته الذي يشجع في أكثر من مادة على تخفيف وتحسين ظروف المراقبة على من يعمل أو يتعلم. يُذكر أن علاء عبد الفتاح لجأ إلى محكمة القضاء الإداري لتحسين ظروف مبيته هناك، والسماح له باصطحاب جهاز حاسب آلي محمول وهاتف خلوي[16] لتمكينه من العمل خلال تواجده بالقسم، فالمراقب ليس بسجين أو محتجز ليتم حرمانه من الأدوات التي لا يعتبر حيازتها في حد ذاته جريمة، وقد حددت المحكمة جلسة 27 -08-2019[17] للنظر في الدعوى.
ضرورة تطوير طرق تطبيق المراقبة الشرطية؟
كما أشرنا فإن القانون المعمول به حاليًا للمراقبة الشرطية هو قانون صادر من أربعينات القرن الماضي؛ وقد حدث تطور في الوسائل العقابية كما في التكنولوجيا مما يستدعي إعادة النظر في هذا القانون. فأولا يجب إعادة النظر في الهدف من تطبيق عقوبة المراقبة: هل هو فقط التأكد من عدم معاودة المتهم للجرم أم أيضًا إدماجه في المجتمع؟ ثانيا، أيا كان الهدف فإن تقييد حرية الحركة لن يؤدي له، وبالتالي يجب التفكير في استخدام التكنولوجيا مثل السوار الإلكتروني وإلزام المراقب بعدم مغادرة حدود مدينة بعينها على سبيل المثال. وذلك مع اتخاذ خطوات موازية لإدماج المراقب في المجتمع وضمان أن يجد حياة مستقرة لا يعود فيها إلى جريمته أبدا. والسوار الإكتروني يصعب نزعه إلا من خلال إتلافه، وحال إتلاف الجهاز أو إذا ما غادر المحكوم عليه المنطقة المصرح له بها من قبل الشرطة أو إذا ما قام بنزع الجهاز، يقوم بإرسال إشارة للشرطة مع تحديد موقع المحكوم عليه، ويمكن محاكمة من يقوم بذلك بمخالفة أحكام المراقبة وفقا للقانون 99 لسنة 1945. وذلك النوع المتطور من المراقبة مستخدم في الإمارات والسعودية والجزائر والعديد من الدول. وقد صرح علاء عبد الفتاح عن موافقته على ارتداء السوار الالكتروني ولو من ماله الخاص[18].
على الجانب الآخر، يجب التأكيد على أن استخدام قانون البلطجة ضد المتظاهرين ومحاولة الدولة عقاب كل من يعارضها بكافة الطرق وأشد عقاب ممكن، يعكس بشكل جلي استخدام القانون كوسيلة للانتقام. وهو الأمر الذي يغير بشكل كبير الفلسفة العقابية التي يقوم عليها قانون العقوبات المصري؛ حيث أن من المفترض أن يقوم أي قانون عقابي على العقاب المتناسب مع الفعل والتقويم والإدماج في المجتمع؛ وتغيير تلك الفلسفة في التشريع وانتهاج المؤسسة القضائية لهذه الفلسفة ينذر بتغيير جذري قد لا تحمد عقباه على المدى البعيد.
- لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:
Probation in Egypt: A Means of Political Retaliation?
[2] راجع الصفحة الشخصية لأستاذة ليلى سويف على الفيسبوك.
- [3]المادة 356 والمادة 368 من قانون العقوبات
[4] المادة الخامسة والسابعة من القانون 99 لسنة 1945 بشأن الوضع تحت مراقبة البوليس
- [5]المادة 8 من القانون 99 لسنة 1945
[6] – المادة 21 من القانون رقم 24 لسنة 1923 والمنشور بالعدد 68 من الوقائع المصرية بتاريخ 05-07-1923
[7] -المادة الخامسة من القانون 99 لسنة 1945
[8] – العدد 79 من جريدة الوقائع المصرية والمنشور بتاريخ 13-07-1891
[9] – جريدة الوقائع المصرية العدد 142 والمنشور بتاريخ 20-10-1940
[10] – العدد 145 مكرر (أ) من الوقائع المصرية والمنشور بتاريخ 04-10-1945
[11] – العدد رقم 10 تابع من الجريدة الرسمية والمنشور بتاريخ 10-03-2011
- [12]تنص المادة 21 من القانون 24 لسنة 1923 على أنه “يحق للبوليس أن يتخذ جميع التدابير الضرورية للتثبت من أن الشخص الموضوع تحت المراقبة لم يترك مسكنه أثناء الساعات المحددة على أنه لا يجوز مع ذلك للبوليس أن يدخل مسكن الشخص الموضوع تحت المراقبة إلا اذا رفض بعد إنذاره مرتين أن يظهر نفسه وبشرط أن يكون ذلك بحضور اثنين من رجال البوليس يكون أحدهما ضابطا أو بحضور العمدة وشيخ الخفراء.”
- [13]المادة 41 من قانون الإجراءات الجنائية والمواد 1 مكرر و85 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956
“