الهيئة الاتهامية في بيروت تحبط جهود مكافحة الفساد: تفسير قانون الإثراء غير المشروع على نحو يضيق تطبيقه


2019-12-17    |   

الهيئة الاتهامية في بيروت تحبط جهود مكافحة الفساد: تفسير قانون الإثراء غير المشروع على نحو يضيق تطبيقه

أصدرت الهيئة الاتهامية أمس قرارا برد الاستئناف المقدم من النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون ضد قرار ترك المديرة العامة للنافعة، السيدة هدى سلوم. للتذكير، كانت عون ادّعت منذ أيام على سلوم بجرم الإثراء غير المشروع على خلفية أعمالها في النافعة أمام قاضي التحقيق الأول بالإنابة جورج رزق الذي أصدر قرارا بتركها. وقد استأنفت عون هذا القرار الأخير مدلية بأن قاضي التحقيق الأول تجاوز صلاحيتها حين أحال الأوراق للنائب العام الاستئنافي في بيروت زياد أبو حيدر لإبداء مطالبه على أساس أن النائب العام المختص هو النائب العام الذي باشر الدعوى أمامه والذي هو نائب عام جبل لبنان (أي هي) في هذه القضية. وفيما انتهى القرار إلى رد الاستئناف المقدم ضد قرار ترك “سلوم”، فإنه تضمن حيثيات مقلقة من شأنها تضييق امكانية الادعاء بجرم الإثراء غير المشروع من خلال تضييق دائرة النواب العامين المخولين القيام بذلك، وتاليا إحباط جهود مكافحة الفساد خلافا لما تنص عليه اتفاقية مكافحة الفساد والبيانات القضائية بتأكيد نية القضاء بمكافحة الفساد، حفاظا على مصالح الشعب. ومع التسليم بأن بعض مواد قانون الإثراء غير المشروع ملتبسة وربما هجينة، فإن الهيئة الاتهامية في هذا المضمار حسمت الالتباس على أساس تعليل تقني بحت (يقبل النقض لأسباب تقنية أخرى)، من دون إيلاء أي اهتمام لمفاعيل هذا التفسير وتأثيراته الاجتماعية. وأنها لو فعلت ذلك، لانتهت إلى نتيجة مناقضة تماما. وهذا ما سنحاول تبيانه أدناه.

تسخير التقنية القانونية لفرض توجه معين؟

المحور الأساسي لقرار الهيئة الاتهامية تمحور حول تفسير عبارة “النائب العام” الواردة من دون أي إضافة في قانون الإثراء غير المشروع، والتي تخول هذا الأخير الادعاء أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت. فهل هي تقصد أي نائب عام استئنافي سواء تواجد في بيروت أو في غيرها من المحافظات؟ أم أنها تعني حصرا النائب العام الاستئنافي في بيروت طالما أن الادعاء يتم حصرا وفق القانون أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت، بما يؤدي إلى موازاة تامة لجهة الاختصاص المكاني بين النائب العام وقاضي التحقيق؟

ومن البين أن لا مجال للحسم في هذه المسألة لغويا طالما أن تعبير “النائب العام” ورد من دون أي إضافة، بل أن الحسم يتطلب اجتهادا قضائيا للموازنة بين الحجج الداعمة لاتجاه أو لآخر، طالما أننا في معرض نص ملتبس غير واضح مما ينفي تماما قاعدة “أن لا اجتهاد من دون نص”.

وفي هذا الإطار وكما سبق بيانه، بدت الهيئة الاتهامية وكأنها حسمت خيارها على أساس التذرّع بقواعد تقنية محض تقبل النقاش والاختلاف لاصطدامها بقواعد تقنية أخرى لا تقل قيمة عنها. قوام تعليلها هو أن اختصاص النواب العامين هو مكاني وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية، وأنه لو أراد المشرع الخروج عن المبدأ العام لأورد عبارة واضحة بهذا الصدد كأن يورد مثلا أنه “خلافا أو استثناء للأصول المرعية”. وقد عززت هذا الموقف بقولها أن “المشرع لو أراد إعطاء صلاحية الادعاء أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت لغير النائب العام صاحب الصلاحية المكانية بحسب المبدأ العام الجوهري لكان استبدل البند 3 من المادة 10 بعبارة “للنواب العامين” لا عبارة “النائب العام” والتي من الواضح أنه قصد بها النائب العام في ذات المحافظة التابع لها قاضي التحقيق في بيروت ولكان نظم آلية متابعة النائب العام لمسار الدعوى غير التابع دائرة قاضي التحقيق في بيروت”. ويظهر من الحجج المذكورة أنها حجج تقنية محض تتصل بتوزيع الأعمال بين النواب العامين من دون أن يتصل أي منها بمبادئ المحاكمة العادلة. وعمليا، وإذا تجاوزنا الاعتبارات التقنية المذكورة، أمكن القول أن القاضي حدد موقفه من اختصاص النيابات العامة على ضوء موقف المشرع. فكما حصر هذا الأخير اختصاص التحقيق في هذه الدعاوى بقاضي التحقيق الأول في بيروت، انتهى القاضي إلى وجوب حصر اختصاص الادعاء فيها بالنائب العام في بيروت. ومن المعلوم أن من شأن هذا الأمر أن يؤدي إلى ضبط الادعاء على غرار ما فعله المشرع من خلال ضبط التحقيق.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كان بإمكان الهيئة أن تستبعد القاعدة التقنية المستخدمة بيسر لو أنها رغبت حقيقة أن تصل إلى تفسير معاكس أي إلى اعتبار النواب العامين الاستئنافيين في المناطق المختلفة مختصين لمباشرة دعاوى الإثراء غير المشروع. ومن الحجج المؤيدة لذلك مثلا هو أن صمت المشرّع في تعريف النائب العام بخلاف صراحته في تعريف قاضي التحقيق، إنما يفيد بإرادته فتح باب الإدعاء لجميع النواب العامين الاستئنافيين. حجة أخرى أكثر قوة تناقض ما ذهب إليه القرار، قوامها البلبلة وتعقيد الاجراءات اللذين قد يؤدي إليهما توجه الهيئة الاتهامية كلما كانت عناصر القضية مرتبطة بمحافظات خارج بيروت، طالما أن قانون الإثراء غير المشروع لم يمنح النائب العام في بيروت أي صلاحية تحقيق خارج بيروت. ففي هذه الحالة، سيتعين على النائب العام المختص في منطقة ما (خارج بيروت) التحقيق في ملف على أن يكون لنائب عام آخر (هو النائب العام في بيروت) صلاحية الادعاء فيه، وفق ما أشار إليه القرار صراحة. وهذه النتيجة عبثية طالما أنها تؤدّي إلى عوائق وتعقيدات غير ضرورية في مباشرة دعوى الإثراء غير المشروع وعمليا إلى الإخلال بمبدأ المساواة بين المواطنين وفق أماكن تواجدهم لجهة الأصول المتبعة في التحقيقات الأولية معهم والادعاء عليهم. كما أن هذا التوجه يشكل من حيث المبدأ مخالفة لتعهدات لبنان في اتفاقية مكافحة الفساد وبخاصة للمادة 11 منه المتصلة بضمان استقلال ونزاهة النيابات العامة، والمادة 30 المتصلة بالتدابير الواجبة لتحقيق توازن مناسب بين أي حصانات أو امتيازات قضائية ممنوحة لموظفيها العموميين وامكانية القيام بعمليات التحقيق والملاحقة والمقاضاة الفعالة في جرائم الفساد بالنظر إلى خطورتها وأيضا بوجوب ضمان ممارسة أي سلطة تقديرية في اتجاه ضمان الفعالية القصوى في ملاحقة هذه الجرائم.

تبعا لهذه الاعتبارات، جاز القول بأن الهيئة الاتهامية سخرت التقنية القانونية للوصول إلى النتيجة التي تريدها، وهي حصر الادعاء بنائب عام أوحد (هو النائب العام الاستئنافي في بيروت)، أكثر مما وصلت إلى النتيجة المذكورة على أساس تقنيات قانونية مقيدة وملزمة لها.

حلّ يناقض السياسة الموعودة في مكافحة الفساد

من البين أن مؤدى الحل هو تضييق امكانية الادعاء في قضايا الإثراء غير المشروع، بحيث يصبح أي ادعاء مرتبطا بإرادة النائب العام الاستئنافي في بيروت أو النائب العام التمييزي الذي باستطاعته إعطاءه الأوامر. كما يمكن للنائب العام المالي القيام بذلك بالنظر إلى الصلاحية الشاملة المعطاة له. والنتيجة العملية لذلك والتي تعبر بحدّ ذاتها عن الأثر السلبي للقرار هو إسقاط الادعاءين القائمين حاليا أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت، وهما الادعاءين ضد السيد نجيب ميقاتي ورفاقه والسيدة هدى سلوم ورفاقها، على اعتبار أن كلاهما تم بادعاء من النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون، وليس من النائب العام في بيروت.

وندرك حجم هذه النتيجة السلبية إذا عرفنا أن هذين الادعاءين هما جلّ ما تمخّض عنه القضاء اللبناني في تطبيق قانون الإثراء غير المشروع منذ 66 سنة. ومن شأن هذه النتيجة وحدها أن تؤدي إلى إضعاف الآمال المعقودة على الوعود القضائية في مكافحة الفساد حماية لمصالح “الشعب الذي هو مصدر جميع السلطات”، ومن أبرزها وعود الجمعية العمومية للقضاة (أيار 2019) ونادي قضاة لبنان ومجلس القضاء الأعلى (تشرين الأول 2019). وهذه الحجة (أي مدى توافق الحل المعطى مع المصلحة الاجتماعية الأكثر رجحانا) تشكل من وجهة نظري وفي ضوء التباس النصوص القانونية، المعيار الحاسم في المسألة المطروحة على الهيئة العامة.

بقي أن نأمل أن تسارع محكمة التمييز إلى نقض القرار المذكور ، بما يشرع الأبواب لمكافحة الفساد فعليا وحقيقة.

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني