حلّت الذكرى 73 للنكبة في 15 أيار الحالي في ظلّ هبّة شعبية تشهدها فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر. وهذه المرة الأولى منذ الانتفاضة الثانية (2015-2016) التي تعمّ التظاهرات كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة معيدة بعضاً من ملامح الوحدة الوطنية في فلسطين بعد سنوات من الانقسام.  

وبدأت كرة النار من حي الشيخ جرّاح في القدس بعد تهديد سكّانه الفلسطينيين بالتهجير عبر سلبهم بيوتهم من أجل إنشاء وحدات سكنية للمستوطنين اليهود في فعل أقلّ ما يقال عنه إنّه تطهير العرقي.  لم يسكت الأهالي فانفجروا غاضبين رافضين السطو على حقوقهم وممتلكاتهم. وتحوّل الحي إلى ساحة اشتباكات بينهم وبين المتضامنين معهم من جهة، والمستوطنين وقوات الشرطة الإسرائيلية من جهة ثانية. وسرعان ما تحوّلت الصدامات في هذا الحي إلى كرة نار لاهبة تدحرجت مولّدة هبّة شعبية واسعة في كل مناطق فلسطين التاريخية.  

هبّة شعبية

حلّت ذكرى النكبة أيضاً على وقع زهق دماء أهالي غزة في غارات إسرائيلية متواصلة منذ أحد عشر يوماً (بلغت حصيلة الضحايا حتى كتابة هذه السطور بحسب وزارة الصحّة في غزة: 232 ضحية بينهم 65 طفلاً و17 مسنّاً و1710 جريحاً). وفي الذكرى كانت لا تزال قضية حي الشيخ الجراح واقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى والاعتداء على المصلّين إضافة إلى استفزازات المستوطنين واعتداءاتهم، تؤجّج الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس ومدن الداخل المحتل، حيث تشهد منذ أسبوعين تظاهرات تقمعها الشرطة والجيش الإسرائيليان بالرصاص الحي والاعتقالات (بلغت حصيلة الضحايا 29 بينهم 4 أطفال، وبلغ عدد المعتقلين في القدس والضفة الغربية 1800 شخص بحسب نادي الأسير الفلسطيني بينما تجاوز عدد المعتقلين في مدن الداخل الألف شخص بحسب الشرطة الإسرائيلية).

شهدت مدينة اللد في الداخل المحتل المواجهات الأعنف بين الفلسطينيين من جهة والشرطة الإسرائيلية والمستوطنين من جهة ثانية بعد استشهاد الشاب الفلسطيني موسى حسونة (31 عاماً) برصاص مستوطن يوم الإثنين 10/5/2021. كما احتدّت فيها موجات الاعتقالات رغم تضييق الاحتلال الخناق على مدينة اللد من حصار وتعزيزات أمنية في شوارعها وحظر تجوّل ليلي.

قد تكون الأحداث الأخيرة هي الشرارة التي أشعلت الشارع الفلسطيني. لكنها ليست “قصة رمانة بل قلوب مليانة”، بحسب المثل الشعبي. فقلوب الفلسطينيين أثقلتها عقود من ظلم الاحتلال وممارساته العنفية تضاف إليها ممارسات المستوطنين واعتداءاتهم وسياسات الفصل العنصري والتهويد. فأرض فلسطين، كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش، “لم تر يوماً سلاماً”. وبالتالي، أدّت تراكم كلّ هذه الأسباب إلى الهبّة الشعبية التي نشهدها اليوم والتي تكلّلت الثلاثاء بإضراب شامل في كافة مناطق فلسطين التاريخية.

إضراب عام: “من الماء إلى الماء”

أعلن عن إضراب عام شامل في كافة المحافظات الفلسطينية والأراضي المحتلة عام 1948 والقدس الثلاثاء 18 أيار 2021. ودعا إليه ناشطون وناشطات وقوى فصائلية ومؤسّسات مجتمع مدني، وشمل جميع مناحي الحياة الفلسطينية إذ أغلقت المؤسسات الحكومية والمحال التجارية والمصانع، كما تعطّلت حركة المواصلات وقطاع التعليم بمختلف مستوياته. 

وأعلنت لجنة المتابعة العربية العليا الإضراب في جميع مدن وبلدات الداخل المحتل وأعلنت في بيان أنّ الإضراب  نجح في تلك المناطق وتحوّل إلى “إضراب الكلّ الفلسطيني، في الداخل وفي الأراضي المحتلة عام 1967 وفي مواقع اللجوء والشتات، ليؤكد أنّ الشعب الفلسطيني شعب حي، متمسّك بقضيته العادلة وبحقوقه الوطنية وعلى رأسها حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وحقه في الدفاع عن نفسه وعن كرامته وعن مقدساته الإسلامية والمسيحية”. 

“الإضراب من البحر إلى النهر وحّد الشعب الفلسطيني وأزال الفواصل الجغرافية والديمغرافية في مشهد لم نراه منذ أيام الانتفاضتين الأولى والثانية”، يقول رئيس الهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين أمين شومان لـ”المفكرة القانونية”. ويشبّه شومان هذا الإضراب بإضراب الثورة الفلسطينية عام 1936 التي قامت ضدّ الهجرة اليهودية وضد مشروع تقسيم فلسطين، لأنّه “ضمّ قطاعات شعبية كانت بمنأى عن المشاركة في الفعل السياسي ووجّه رسالة إلى الكيان الإسرائيلي مفادها: إذا مات الكبار لن ينسى الصغار حقهم في الوجود وفي استعادة الأراضي التي اغتصبت منهم”.

تعليق لكل مناحي الحياة في مدينة حيفا إلتزاماً بإضراب الكرامة.#إضراب_فلسطين pic.twitter.com/TS0SAPEWTc

— الجرمق (@aljarmaqnet) May 18, 2021

بالإضافة إلى نجاحه في توحيد الفلسطينيين، شلّ إضراب “الأمل والكرامة” كما سماه ناشطون فلسطينيون، قطاعات كبيرة داخل إسرائيل في ظل عزوف العمال والموظفين الفلسطينيين الذين يقطنون أراضي 48 عن الذهاب إلى أعمالهم. “هناك مليونا فلسطيني من إجمالي السكان في إسرائيل. والتزامهم بالإضراب يعني توقف 24% من الممرضين، و50% من الصيادلة، و9.2% من خبراء الهايتك، و50% من عمال البناء عن العمل في إسرائيل”، وفق ما جاء على صفحة “حمام راديو” النسوي الذي ينطلق من برلين على “إنستغرام”.

المغنيّة سناء موسى التي تشارك بشكل مستمرّ في التظاهرات، تفنّد في تصريح لـ”المفكرة” أهمّية الإضراب الذي يحصل للمرة الأولى “من الميّة للميّة” (أي من الماء (النهر) إلى الماء (البحر)). وتقول “من شأن الإضراب في الداخل أن يلحق خسائر بإسرائيل. فتصوّري كم هناك من الأطباء في المستشفيات الاحتلالية، تخيّلي خسائر  قطاع البناء مثلاً حيث غالبية العاملين فلسطينيون، تخيّلي فقط خسائر هذا القطاع في حال إضراب هؤلاء. تخيّلي فعالية مثل هذا الضغط  على الكثير من المؤسسات لتأخذ أمورنا على محمل الجد”. وتعتبر أنّ الإضراب “يمكن أن يكون جزءاً من العصيان المدني إن توحّدنا”. ونشرت سناء على صفحتها على فيسبوك رسالة تدعو فيها إلى الإضراب وتشدد على ضرورة عدم الاستخفاف به لأنه أحد أهم أساليب المقاومة الشعبية و”لأنّنا نتدرّب على التصرّف كروح واحدة وجسد واحد”.   

تظاهرات تعمّ الشوارع

في يوم الإضراب العام، شارك الفلسطينيون في الفعاليات الوطنية والجماهيرية التي انطلقت من مراكز المدن والقرى الفلسطينية إلى مناطق التماس مع الاحتلال الإسرائيلي عند الساعة الواحدة ظهراً. على وقع الأناشيد الوطنية، رفع المتظاهرون الأعلام الفلسطينية، وهتفوا للقدس والأقصى: “عالقدس رايحين شهداء بالملايين”، “بالروح بالدم نفديك يا أقصى ويا قدس”. كما هتفوا للشهداء والجرحى والأسرى ولغزة الثكلى التي تدفن أبناءها باستمرار. وإحياء لذكرى النكبة أكد المتظاهرون: “صمودنا طريق عودتنا”. 

يقول رئيس اللجنة الوطنية للدفاع عن حق العودة محمد عليان لـ”المفكرة” إنّ ما رآه من مشاركة واسعة لمختلف الفئات العمرية في التظاهرات أشبه “بهزة جميلة ترتقي لتسمّى انتفاضة الشعب الفلسطيني الثالثة”. هال عليان عدد الجموع المتراصّة من المنتفضين في رام الله في الضفة الغربية الذين نزلوا منذ ساعات الصباح الأولى إلى الشوارع وتوجّهوا إلى نقاط التماس مع الاحتلال الإسرائيلي. “لم يثنهم الرصاص الحي وسقوط مئات الضحايا بين شهيد وجريح والعديد من الاعتقالات عن النضال والصمود في ساحات الاشتباك”.

بعد ثمانية وعشرين عاماً من التوقيع على اتفاقية أوسلو يتأكّد الفلسطينيون يومياً أنّ إسرائيل لا تحترم التزاماتها ولا تزال مستمرّة في الاستيطان والتهويد والفصل العنصري ووجدوا أنّ لا خيار أمامهم سوى مواجهتها في الشارع. “تكوّنت لدينا قناعة في هذه المرحلة من الصراع مع المحتل أن إسرائيل لا تريد سلاماً، وتسعى إلى إدارة الصراع بدلاً من حلّه من خلال قضم الأراضي، والتوسّع، وتقطيع أوصال الدولة الفلسطينية، وتهجير أبنائها”، بحسب شومان. 

يحكي عليّان بدوره عن تغيّرات تحدث لصالح القضية الفلسطينية، أهمّها: “فضح الممارسات الإسرائيلية ونقل جرائم الاحتلال إلى العالم أجمع”، مما أعاد القضية الفلسطينية إلى الضوء بعد سنوات من تهميشها والتعتيم عليها. كما ينتشر جوّ من التضامن العالمي غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني وحقه في النضال من أجل انتزاع كامل حقوقه. 

جعفر حمايل: الجريح المنتفض

أضرب الموظف الحكومي الفلسطيني جعفر حمايل عن عمله نهار الثلاثاء مثله مثل كل من حوله، “فالجميع أضرب، حتى قنينة ماء ما كان فيك تشتري”، يقول حمايل لـ”المفكرة”. بعد صلاة الظهر توجّه في مسيرة برفقة زوجته وأبنائه الأربعة من بلدته كفرمالك في رام الله إلى حاجز عسكري إسرائيلي شمال المدينة يفصلها عن مقر الإدارة المدنية الإسرائيلية في بيت إيل. هناك، عادت به الذاكرة إلى العام 2016 عندما أصيب برصاص الاحتلال في ركبته أمام مستوطنة بيت إيل. “لا تزال الندوب الستة عشر في قدمي تشهد على ظلم العدو وإجرامه”. لا يهاب حمايل أن تتكرّر مأساته في “ساحة الجريمة” ذاتها، “فكلّنا مشاريع شهداء”، كما يقول. 

في منطقة الصراع المباشر مع الكيان الإسرائيلي المعبّدة بالخطر، وتحت أزيز الرصاص، وعلى وقع أصوات سيارات الإسعاف التي تقل الشهداء والجرحى يقف أبناء حمايل يحملون الأعلام الفلسطينية، ويهتفون ملء حناجرهم: “كلّنا شعب واحد”. سقط شهيد على مرأى أعينهم فلم يساورهم الخوف ولم يفكر حمايل بالعودة إلى منزله لأنّ “روحه وأرواح أولاده يقدّمها قرباناً لفلسطين”. ويقول: “إذا كلّنا خفنا من سيدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة؟”.

في حرارة الشمس اللاهبة وببطون خاوية ظلت عائلة حمايل حتى ساعات المساء المتأخرة في الشارع. همّها أن توصل رسالتها إلى أهالي غزة وحي الشيخ جراح: “نحنا معكم”. 

هل تتحوّل الهبّة إلى انتفاضة ثالثة؟

يحلو للكثير من الناشطين والناشطات اعتبار ما يحدث في فلسطين اليوم “انتفاضة شعبية”، إلّا أنّ هذه التسمية أثارت نقاشاً في الشارع الفلسطيني. شومان مثلاً ممّن يفضّلون اعتبارها “الهبّة الشعبية الجماهيرية”. “فالانتفاضة لها برنامجها وتحتاج إلى تخطيط وقادة وهذا غير موجود حتى البتة. لكن ليس بعيداً أن تتحول هذه الهبة إلى الانتفاضة”.

ويخشى كثر من أن يقع الفلسطينيون في “وهم” أنّ ما يحدث اليوم في الشارع هو انتفاضة بينهم الكاتب والناشط الفلسطيني مهند أبو غوش. ويشرح الأخير في منشور له على فيسبوك أنّ “الفرق بين الهبّة والانتفاضة وجود البنية التحتية. ففي الانتفاضة الأولى كان العمل الأهلي والنقابي والحزبي ضمانة للاستمرار، وفي الثانية كانت مؤسّسات أوسلو قادرة على ضمان استمرارية الفعل الانتفاضي. أما اليوم في 2021 نحن لا نملك مثل هذه البنى. فنحن نعيش مرحلة ما بعد خراب أوسلو، ووفاة منظمة التحرير، وتجشؤ الفطريات لما تبقى من جسم للجنة المتابعة، والأحزاب باتت، تقريباً، في نزعها الأخير. أما الحراكات، فلا يبنى عليها، لأنها بطبيعتها التنظيمية، ليست تنظيماً”. كيف نمدّ البنى التحتية اللازمة لإحراز إنجازات المنتفضين وتحويل هذه الهبة إلى انتفاضة خلال “وقت قصير جدًا”؟ يجيب أبو غوش بالقول: “علينا أن نواصل التشبيك مع الناس وتكثيف عملنا في الحارات والمخيمات والمدارس من تعليم شعبي وتأطير وعمل اجتماعي وتطوّعي”.

نسأل سناء موسى اليوم عمّا إذا كان الشارع الفلسطيني سيهدأ الآن مع الهدنة في غزة فتجيب: “نحن بس بلّشنا هلق!”، أي أنّها البداية فقط. وفي منشور على فيسبوك توضح أننا “ما زلنا تحت الاحتلال. الآن يجب الاستمرار في العمل ومعاً مرة أخرى لتحرير غزة من سجنها الكبير وحماية القدس وأهلها وإنهاء الاحتلال”.