النيابة العامة، يد السلطة على حريات المواطنين؟


2018-04-03    |   

النيابة العامة، يد السلطة على حريات المواطنين؟

يؤدي قضاة النيابة العامة دورا محوريا في النظام القضائي. فهم يتولون الإشراف على جميع القطع الأمنية بما يتصل بالتحقيقات الأولية في القضايا الجزائية. ويكون لهم بهذه الصفة دور أساسي في جمع الأدلة والتحقق منها وصولا إلى تحديد المسؤوليات الجزائية. ولهم في هذا المجال هامش واسع يتراوح بين تحريك الدعوى العامة على أساس أدلة متينة وعدم التحرك على الإطلاق، مرورا بفبركة ملفات على سبيل الضغط أو تكوين ملفات فارغة مؤداها إصدار قرارات بإعلان البراءة. يضاف إلى ذلك أن للنيابة العامة صلاحية في احتجاز الحرية الشخصية لفترة لا تتجاوز 4 أيام وفق القانون، وإن درجت العادة على تجاوزها على نطاق واسع. ومن هنا، لا نبالغ إذا قلنا أن الوجه الأكثر تعبيرا عن حقيقة العمل القضائي والأكثر تأثيرا في مستوى الثقة العامة بالقضاء هو النيابة العامة. وانطلاقا من ذلك، نسعى في هذا المقال إلى إبراز أهم العوامل المؤثرة في توجهات النيابة العامة وأعمالها.

هيكلية النيابة العامة وكيفية تكوينها:

النيابة العامة الحالية تتكون من ثلاث طبقات:

  1. النائب العام التمييزي والذي يعاونه محامون عامون تمييزيون (10 حاليا)،
  2. الطبقة الثانية تتكون من النواب العامين الاستئنافيين (نائب عام في كل من محاكم الاستئناف الموزعة على المحافظات الست والتي كانت تضم المحافظات الثلاث المنشأة بعد 2003 والتي ما تزال من دون محاكم استئناف)، ومن مفوّض الحكومة العسكري والنائب العام المالي. ويترأس كل من هؤلاء دائرة النيابة العامة ويعنى تاليا بتنظيم أعمالها (تحديد شروط تنظيم العمل)،
  3. الطبقة الثالثة تتكون من المحامين العامين الذين يعملون في الدوائر المشار إليها أعلاه، ويبلغ عددهم 46.

ويسجل في هذا الإطار الملاحظات الآتية:

  • أن النيابات العامة اكتسبت بموجب قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في 2001 استقلالها، أقله نظريا، عن وزير العدل. فوفق المادة 13 من هذا القانون، باتت سلطة النائب العام التمييزي تشمل جميع قضاة النيابات العامة وذلك على نقيض المادة 45 من قانون تنظيم القضاء العدلي التي كانت تخضع جميع قضاة النيابات العامة لوزير العدل، بما يؤدي عمليا إلى إلغائها ضمنا. وتبعا لذلك، تم إقصاء وزير العدل عن التنظيم الهرمي للنيابات العامة في لبنان،
  • أن مجموع أعضاء النيابات العامة على اختلافها يبلغ وفق التشكيلات القضائية الصادرة في 2017 (65) قاضيا. وفيما تعاني مختلف المراكز القضائية من شغور كبير بفعل نقص عدد القضاة، فإن عدد أعضاء النيابات العامة يفوض عن ملاكها، والذي يقتصر على (57) قاضيا. وهذا الأمر إنما يعكس حرص واضعي التشكيلات القضائية على تفعيل أدوارها بالأولوية على سائر الوظائف القضائية،
  • بخلاف العديد من الأنظمة القضائية، وبخاصة الأنظمة التي تدور في فلك التنظيم الفرنسي، يتمتع النائب العام التمييزي بصلاحيات استثنائية. فعدا عن أن بإمكانه التحقيق في جميع القضايا الجزائية ورفع الحصانات عن الموظفين العامين، فإنه يشكل عمليا الآمر الأوحد في مجال النيابات العامة، سواء أخذت الأوامر طابعا عاما أو خاصا. فبإمكانه إعطاء تعليمات لجميع أعضاء النيابة العامة، بما فيهم المحامين العامين في الطبقة الدنيا من الهرم، من دون المرور بالطبقة الثانية منه (النواب العامين الاستئنافيين). وهذا التحول إنما يؤدي عمليا إلى تمركز سلطة النيابة العامة في يد قاض واحد هو النائب العام التمييزي،
  • إذا وضعنا جانبا النيابة العامة العسكرية (الاستثنائية)، فإن النيابة العامة المتخصصة الوحيدة اليوم هي النيابة العامة المالية. وفيما قدمت مشاريع قوانين لإنشاء نيابات عامة متخصصة في مجال الحماية من العنف الأسري والبيئة، فإن المجلس النيابي استبعد هذه الفكرة ليفرض بالمقابل تكليف أحد المدعين العامين على صعيد كل نيابة عامة استئنافية للنظر في هذه القضايا.

النائب العام التمييزي

(يساعده محامون عامون)

مفوض الحكومة العسكري

النواب العامون الاستئنافيون (6)

(يساعده مدعون عامون)

النائب العام المالي

معاونو مفوض الحكومة

(6)

النبطية

الجنوب

البقاع

الشمال

جبل لبنان

بيروت

محامون عامون ماليون (6)

نائب عام استئنافي

نائب عام استئنافي

نائب عام استئنافي

نائب عام استئنافي

نائب عام استئنافي

نائب عام استئنافي

محام  عام (2)

محام  عام (3)

محام  عام

(6)

محام  عام

 (6)

محام  عام

(11)

محام  عام (6)

استقلالية النيابة العامة:

غالبا ما يصور نقل رئاسة النيابات العامة من وزير العدل إلى النائب العام التمييزي على أنه يعزز استقلاليتها إزاء السلطة التنفيذية. إلا أن هذه الاستقلالية تبقى شكلية ومنقوصة بشكل كبير بالنظر إلى المعطيات الآتية:

تعيين النائب العام التمييزي والنائب العام المالي بمرسوم وعزله بمرسوم

أن النائب العام التمييزي يعين بمرسوم يصدر في مجلس الوزراء بناء على اقتراح من وزير العدل، من دون أن يكون للهيئات القضائية أي دور في هذا التعيين، وبغياب أي معيار موضوعي باستثناء معيار الأقدمية. ويمكن عزله بالطريقة نفسها. وعليه، فإن تعيينه في منصبه كما استمراره فيه يبقى وقفا على إرادة السلطة التنفيذية. وقد تجلى ذلك بوضوح حين قامت هذه الأخيرة بعزل رئيس مجلس شورى الدولة بقرار من مجلس الوزراء في آب 2017، من دون أن تتكلف حتى بتعليل قرارها، وفق ما يفرضه قانون الوصول إلى المعلومات،

تطييف وتسييس مجمل مراكز النيابات العامة    

من ثم، تجدر الإشارة إلى أن تعيين أعضاء النيابات العامة يتم ضمن مرسوم التشكيلات القضائية الذي يتم بموجبه ملء مجمل المراكز القضائية. وفيما ينص قانون تنظيم القضاء العدلي على أن مرسوم التشكيلات يصدر بمرسوم بناء على مشروع يقره مجلس القضاء الأعلى بعد التباحث مع وزير العدل بغالبية 7 من أعضائه، فإن الأعراف اللبنانية حولت توقيع الوزراء المختصين ورئيسي الجمهورية والحكومة على مرسوم التشكيلات من إجراء شكليّ إلى ما يشبه الفيتو لكل من هؤلاء وفق ما أسهبنا في شرحه عند درس التشكيلات القضائية. وتبعا لذلك، باتت مراسيم التشكيلات القضائية جزءا من منظومة المساومات المستمرة بين القوى السياسية مع ما يستتبع ذلك من مسّ باستقلال جميع القضاة بما فيهم قضاة النيابة العامة. وما يفاقم المس بهذه الاستقلالية هو ثلاثة أمور:

  • الأول، هو غياب كلي لمبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه،
  • الثاني، تطييف المراكز الحساسة أو حتى الهامة في القضاء وفي مقدمتها مراكز النيابات العامة بالنظر إلى صلاحياتها والتي تشمل إمكانية التوقيف الفوري. وعليه، باتت مراكز النيابات العامة عموما ذات لون طائفي، وإن تستمر المساومات حول زيادة عدد المراكز العائدة لهذه الطائفة أو تلك في هذه المنطقة أو تلك. وفيما يمكن نظريا مناقشة مشروعية هذا الأمر من خلال الحرص على التمثيل الطائفي داخل القضاء، فإن الأمر يرتدي خطورة كبيرة في الممارسة العملية بعد تحويل الضمانات الطائفية إلى أداة للمحاصصة، بحيث يكون لكل من الزعماء السياسيين كلمة الملك (وأحيانا كلمة الفصل) في ملء المراكز العائدة للطوائف التي “يمثلونها”. وهذا ما لمحناه بوضوح في تشكيلات 2017 حيث أعطي كل من الزعماء أحقية تسمية المحامين العامين التابعين لطائفته، تحت طائلة إجهاض التشكيلات. وفيما عدا عدد قليل من هذه المناصب الأخطر (مثل النائب العام في جبل لبنان أو مفوض الحكومة في المحكمة العسكرية)، تم إقرار هذه التسميات من دون جدل يذكر. ويلحظ هنا أن أعضاء النيابات العامة توزعوا طائفيا وفق معادلات توازن بين المسيحيين والمسلمين كما توازن بين المذاهب داخل هذه الطوائف: (33 مسيحيا مقابل 32 مسلما). وقد توزع المسيحيون (21 ماروني و6 أرثوذكس و6 كاثوليك) فيما توزع المسلمون (14 سنيا و14 شيعيا و4 دروز).
  • الثالث، هو كيفية التوزيع الجغرافي والطائفي لمراكز النيابات العامة. فما هو المعيار المحدّد لطوائف أعضاء النيابة في هذه المنطقة أو تلك؟ إلى أي مدى يؤخذ اللون الطائفي للمنطقة بعين الاعتبار لتحديد هوية أعضاء النيابة العامة المعينين فيها؟ فهل يتوزع أعضاء النيابات العامة من طائفة معينة في جميع المناطق من دون تمييز، أم يتوزّعون في المناطق التي يكون فيها حضور غالب أو هامّ للطوائف التي ينتمون إليها أم يتوزعون على العكس من ذلك في المناطق التي يخفّ أو ينعدم فيها هذا الحضور؟ في الحالة الأولى، نكون أمام تطبيق محايد للمعادلات الطائفية. في الحالة الثالثة، نكون أمام مسعى لضمان حيادية قضاة النيابة العامة. أما في الحالة الثانية، فإن التعيينات التي تحصل عمليا “من قبل زعيم الطائفة” تصبح مدخلا لترسيخ نفوذه في المناطق التي تتواجد فيها هيئاته الانتخابية. وبالتدقيق في مذاهب هؤلاء وأماكن تعيينهم، أمكن الجزم بميل غالب ومهيمن لاعتماد المعيار الثالث. وهذا ما يتحصل من المعطيات الآتية:
    • أن لكل من الطوائف الرئيسية الست نائب عام استئنافي في إحدى المحافظات، علما أن تعيين كل منهم يحصل في المنطقة التي يكون فيها لطائفته الحضور الأبرز بالنسبة إليها. وعليه، يعين نائب عام ماروني في جبل لبنان، وسني في الشمال وشيعي في الجنوب وكاثوليكي في زحلة البقاع، وأرثوذكسي في بيروت ودرزي في النبطية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في بعض المناطق، لا تتمتع الطائفة المعنية بحضور غالب كما هو الأمر بالنسبة إلى الكاثوليك في البقاع أو الأرثوذكس في بيروت، لكن يبقى الحضور الأكثر أهمية بالنسبة إليها.
    • أنه يوجد 6 موارنة من أصل 12 عضو في نيابة عامة جبل لبنان وثمة محامين عامين موارنة في جميع النيابات العامة، ما عدا نيابتي الجنوب والنبطية حيث يبقى تواجد الموارنة الاجتماعي والسياسي محدودا.
    • أن ثمة 4 أعضاء دروز من النيابة العامة. فإلى العضوين المتواجدين في النيابة العامة المالية والتمييزية، يتواجد العضوان الآخران في النبطية وجبل لبنان، أي عمليا في مناطق تواجد الدروز حصرا.
    • أن أعضاء النيابات العامة السنة منتشرون في جميع النيابات العامة، إلا في النبطية حيث يبقى تواجد السنة جدّ محدود.

ومن شأن هذه الأمور مجتمعة أن تسمح للقوى السياسية ليس فقط بتعيين مقربين منها في المراكز العائدة للطوائف التي يمثلونها، بل بشكل أكثر تحديدا تعيينهم في المناطق التي يستمدون منها صفتهم التمثيلية، مع ما يستتبع ذلك من مخاطر زبائنية معممة وصرف نفوذ. ومن هذا المنطلق، يخشى أن تتحول تعيينات النيابات العامة إلى ما يشبه التعيينات الانتخابية، وأن يتحول أعضاء النيابة العامة إلى ما يشبه مفاتيح انتخابية للقوى التي عينتهم.

 النيابات العامة، قضاء تعليمات؟

أخطر من ذلك هو جعل النيابة العامة بفعل نظامها القانوني إلى ما يشبه قضاء تعليمات. فللنائب العام التمييزي توجيه تعليمات إلى جميع أعضاء النيابة العامة. وفي هذا المجال، يجدر تسجيل الملاحظات الآتية التي يشكل كل منها مؤشرا إلى خطورة التعرض لاستقلالية أعضاء النيابة العامة. وهي الآتية:

  • أن النئاب العام التمييزي يتفرّد بإعطاء التعليمات من دون أن يكون له أي شريك في اتخاذ ما يراه مناسبا على الصعيد العام أو في ملف بعينه،
  • أنه يعطي تعليماته مباشرة لأيّ من أعضاء النيابة العامة من دون أن يكون ملزما بمراعاة الهرمية، أو الطبقات المختلفة من التنظيم الهرمي،
  • أنه لا يتوفر أي معيار شكلي في إعطاء التعليمات التي يمكن أن تعطى شفاهة، وتاليا من دون أن تترك أي أثر حول مسؤوليته عنها،
  • أن بإمكانه توجيه تعليمات ذات طابع عام (بصيغة تعاميم) كما بإمكانه أن يوجه تعليمات فردية في ملفات بعينها،
  • أن هذه التعليمات تنتقص إلى الشفافية. فلا يوجد أي فرض بنشر التعليمات العامة ولا بإيداع التعليمات المتصلة بملف معين فيه، ليتسنى للأطراف المعنيين الاطلاع عليها،
  • أنه لا يوجد أي شرط لجهة مضمون هذه التعليمات، ولا حتى اشتراط أن تكون قانونية، وإن أمكن فرض هذا الشرط بالعودة إلى المبادئ العامة للقانون،
  • أنه لا يوجد أي باب يسمح لأي من أعضاء النيابة العامة الطعن بهذه التعليمات أو فرض مناقشتها،
  • أن من صلاحيات النائب العام التمييزي إحالة أي من المدعين العامين إلى التفتيش القضائي في حال مخالفة أي من تعليماته هذه.

ومن شأن اجتماع مجمل هذه العناصر أن يؤدي عمليا إلى ربط عمل النيابات العامة بشخص النائب العام التمييزي، مما يفتح الباب واسعا أمام مختلف أنواع التدخلات من خلال شخصه. ولا نبالغ إذا قلنا أن المحامين العامين كما النواب العامين يجدون أنفسهم بفعل ذلك وفي غالبية الأحيان، في موضع المأمور الذي عليه أن يستجيب لمطالب رئيسه، مما يتنافى مع أدنى معايير الاستقلالية. ولا يخرج عن ذلك إلا حالات قليلة من المحامين العامين الذين يتمتعون بحسّ عالٍ من الاستقلالية، الأمر الذي يدعوهم إلى التنحّي عن النظر في ملف معين كلما أتت التعليمات مخالفة لقناعاتهم.

سحب الملفات

يتولى النائب العام الاستئنافي تنظيم شؤون دائرته ضمن مبدأ وحدة النيابة العامة. وعملا بهذا المبدأ، له أن يوزع الأعمال على المحامين العامين التابعين لدائرته كما يرى مناسبا. والأخطر له أن يسحب الملف من أحد هؤلاء ساعة يشاء، من تلقاء نفسه أو وفق تعليمات النائب العام التمييزي أو بناء لأي طلب يرغب بتلبيته من دون أن يكون ملزما بذلك. وقد يبدو سحب الملف بالنسبة للنائب العام التمييزي أداة أكثر ملاءمة من توجيه تعليمات، كلما شعر أن التعليمات التي يزمع توجيهها لا تتلاءم مع قناعات المحامي العام المعني، وخاصة في حال أبدى هذا الأخير في مناسبات سابقة أي ميل للاستقلالية أو عناد في الاستجابة للمطالب. وقد أكد بعض المحامين العامين المشهود لنزاهتهم وكفاءتهم للمفكرة أنه لم يوجه لهم يوما تعليمات مخالفة لقناعاتهم، لكن سحب منهم بالمقابل، وغالبا من دون علمهم، عشرات الملفات سنويا.

Forum shopping

من يدقق في كيفية توزيع الشكاوى وإجراء التحقيقات الأولية، يعلم أن بإمكان المدعي أو رؤساء القطع في المخافر أو حتى بعض المحققين في الضابطة العدلية أن يستغلوا كيفية توزيع الملفات على المحامين العامين لتحديد هوية المحامي العام المشرف على التحقيقات. فإذا كان أحد المحامين العامين يتولى التحقيق في الاتصالات التي ترد من الضابطة العدلية في أيام الاثنين، يكون بإمكان أحد هؤلاء اللاعبين فرضه كمشرف على الملف من خلال مباشرة إجراءاته في يوم الإثنين. ومؤدى ذلك هو إعطاء الفرقاء أو الرتباء امكانية اختيار المحامي العام في حالات عدة، مما يشكل مسا بمبدأي استقلالية القضاء والقاضي الطبيعي واللذين يفرضان خضوع جميع المتقاضين لقضاة معينين مسبقا من دون أن يكون لهم أي هامش في اختيارهم.

كيفية فهم النيابة العامة لدورها

هنا، سنتناول جانبا آخر من العوامل المؤثرة في عمل النيابات العامة. فكيف تفهم النيابات العامة دورها؟ هل هي تمثل الصالح العام أم مصالح الحكومة؟ وفي الحالة الأولى، هل هي تمثل الصالح العام كما تفهمه على ضوء القوانين السائدة أو على النحو الذي يحدده النظام السياسي السائد، مما يجعله عمليا حصنا أو دعامة لهذا الأخير؟ وفي هذا المجال، تكثر المؤشرات على فهم النواب العامين التمييزيين لأدوارهم على أنها أدوار يؤدونها في منطقة متوسطة بين العمل القضائي والسياسي.

ولعل المؤشرات الأكثر دلالة على هذا الموضوع هو تصريح للنائب العام التمييزي السابق عدنان عضوم، بعد تعيينه في هذا المنصب. وقد جاء فيه أن “المصلحة الوطنية العليا ليست عملاً قضائياً صرفاً إنما عمل قضائي وسياسي. هناك ضرورات تبيح المحظورات”. وقد عاد وأكدّ في محاضرة في نقابة المحامين ردّاً على القائلين أن النيابة العامة هي منصب سياسي، بأنّ وظيفة النائب العام أو المحامي العام “هي وظيفة قضائية لا تعنى إلا بحسن سير المرفق القضائي من خلال تنفيذ ما وكله القانون إليها. ولكن ما يميزها عن غيرها من فروع القضاء هو تمثيلها مصالح الشعب والدولة في آن واحد. ولا يخفى أن السلطة التنفيذية هي جزء أساسي من الدولة. وبالتالي، فمن البديهي والمنطقي أن تحكم علاقتهم أواصر التنسيق والتعاون القائم بين أي وكيل وموكله وليس في ذلك ما يضير أحداً. ويتجلى هذا الأمر ببعض التدابير التي تتخذ أحياناً لمصلحة الدولة والنظام العام وهذا ما تعارف على تسميته Raison d’Etat (المصلحة الوطنية العليا)”.

ومن شأن هذا الفهم أن يجعل النيابة العامة أكثر تفهما وانسجاما مع مقتضيات النظام السياسي مما هي مع المنظومة الحقوقية.

صلاحيات النيابات العامة

تتمتع النيابة العامة بصلاحيات كثيرة ذكرنا عددا منها في مقدمة هذا المقال. ومن أهم هذه الصلاحيات فيما يعنينا هنا، صلاحية النيابة العامة في احتجاز الأشخاص في فترة التحقيقات الأولية، وهي عمليا الصلاحية التي تمكن السلطة بكلام أكثر تعبيرا من وضع يدها على حريات الأفراد. وفيما يتميّز قانون أصول المحاكمات الجزائية بتحديد مدة الاحتجاز ب 48 ساعة قابلة للتجديد لمرة واحدة، فإن الأعراف آلت عمليا إلى التفلت من هذه القاعدة في كثير من الحالات تحت ذرائع عدة، منها حاجة المحامين العامين إلى وقت لدراسة ملفاتهم أو الأسوأ امتلاء زنزانات قصور العدل أو زنزانات القطع الأمنية المختصة لإجراء مزيد من التحقيق مما يعيق إحالة الموقوف إليها. ولا نبالغ القول أنه في حالات عدة، بات المعيار المحدد لأمد التوقيف ليس مبادئ أصول المحاكمات المدنية (وهي مبادئ ورثناها بنتيجة قرون من التطور الحقوقي صونا للحرية الشخصية ولقرينة البراءة)، إنما مساحة الزنزانة. ومن النافل القول أن من شأن التفلت من هذه القاعدة أن يؤدي إلى إيلاء النيابات العامة صلاحيات مضاعفة، صلاحيات تزيد خطورتها بقدر ما يزيد استتباعها وتسخيرها لخدمة أصحاب النفوذ.

 كلوديت سركيس. مجلس الوزراء يعيّن “حاكم لبنان القضائي”. جريدة النهار، 7 تموز 1995

 كلوديت سركيس. عضوم: نعد بأننا لن نتهاون في كل ما يمس الأمن والبحر والهواء. جريدة النهار، 15 تشرين الثاني 1996

نشر في العدد الخاص عن القضاء في لبنان، للاطلاع على العدد انقر/ي هنا 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني