المفهوم المصري لاستقلال القضاء في مشروع الدستور الجديد


2013-12-30    |   

المفهوم المصري لاستقلال القضاء في مشروع الدستور الجديد

جاءت نصوص السلطة القضائية في مشروع الدستور الجديدلتكون تجسيدا لتصور الجماعة القضائية المصرية لدورها واستقلالها في علاقتها بباقي مؤسسات الدولة والشعب المصري.

ولا عجب في ذلك: فلقد استسلمت لجنة الخمسين -دون مقاومة تذكر – لرغبات رموز السلطة القضائية، وتركت لهم وحدهم صياغة المواد المنظمة لعملهم، كما لو كانت هذه النصوص نصوصا في دستور دولة أجنبية، وليست جزءا من دستور لكل المصريين. واقتصر دور لجنة الخمسين على محاولة التوفيق بين الجهات والهيئات القضائية عندما تتعارض مصالحها فيما بينها. ومن أسباب عدم قدرة لجنة الخمسين على الدفاع عن الصالح العام هو السرية التي أحاطت بعمل هذه اللجنة. فتلك السرية منعت الرأي العام والمتخصصين من التأثير على اللجنة، ومنعت تلك السرية أعضاء لجنة الخمسين من إشراك الرأي العام في النقاش الدستوري – أو الحوار المجتمعي الذي وعد به الإعلان الدستوري – للتخفيف من حدة الضغوط التي تمارس عليهم من مؤسسات الدولة. وبنتيجة ذلك، كان منتظرا أن يرضخ أعضاء لجنة الخمسين لمراكز القوى في الدولة.

وتلك العيوب الإجرائية في صياغة الدستور، أنتجت عيوبا موضوعية. فتحت غطاء استقلال القضاء، بدت نصوص السلطة القضائية وكأنها تكرس فكرة استقلال القضاء عن الدولة المصرية. فقد منحت هذه النصوص امتيازات عديدة للقضاة، في ظل غياب واضح لفكرة المحاسبة أو الرقابة الشعبية أو التوازن بين السلطات. وأبرز مثال لهذا الاتجاه هو المادة ١٩٣ التي تعطي اختصاصا مطلقا للمحكمة الدستورية العليا في اختيار أعضائها، لتكون بذلك أول محكمة دستورية في العالم لها مثل هذه السلطات. فالمستقر عليه في الفقه الدستوري، أن طبيعة عمل المحاكم الدستورية (مراقبة دستورية القوانين) يجعل لها دورا سياسيا، يقضي بإشراك باقي السلطات في تشكيلها. فدور المحكمة الدستورية قلما يكون الكشف عن معنى واحد موجود في النص الدستوري، بل غالبا ما يتمثل في وجوب اختيار المعنى من بين التفسيرات العديدة التي يحتملها النص.  ومن هذا المنطلق، ليس متصورا في أي بلد، يدعي تبني النظام الديموقراطي، أن يترك مصير البلاد في أيادي قضاة غير منتخبين – مهما علا قدرهم وخلصت نواياهم – دون أي ضمانة مقررة لصالح السلطات الأخرى المنتخبة. ونفس الملاحظات تنطبق على اختيار النائب العام، وتشكيل مجلس القضاء الأعلى، فغالبية الدول تشرك البرلمان في تشكيل مجالس القضاء، واختيار النائب العام (على سبيل المثال نصف عدد أعضاء مجلس القضاء الأعلى في فرنسا من غير القضاة). ويلحظ في هذا المجال إعراض مشروع الدستور عن الفكرة الوجيهة التي اقترحتها لجنة العشرة، ومقتضاها ألا يحل البرلمان مباشرة إذا قضي بعدم دستورية قانون انتخاباته.
 
وما يزيد الأمر قابلية للانتقاد، هو نص المادة ١٢١ من مشروع الدستور التي اشترطت موافقة ثلثي أعضاء البرلمان لإقرار أو لتعديل القوانين المنظمة للسلطة القضائية، وتلك المتعلقة بالجهات والهيئات القضائية، مما يزيد من صعوبة إجراء أي إصلاح للسلطة القضائية، في حين أن القضاء المصري يحتاج إصلاحا جذريا شاملا. ويتطلب مشروع الدستور أخذ رأي الجهات والهيئات القضائية في مشروعات القوانين المنظمة لشؤونها، كما يكون لهذه الجهات أو الهيئات أن تعد مشروعات القوانين الخاصة بها وترسلها إلى البرلمان، فإذا لم يوافق عليها بالأغلبية المطلوبة، كان له تعديلها وطرحها للموافقة بذات الأغلبية. ولا يلزم مشروع الدستور الهيئات القضائية بتقديم أي نوع من التقارير أو البيانات للبرلمان، حتى يتأكد ممثلو الشعب أن خدمة العدالة جيدة، وأن القضاة لا يسيئون استخدام سلطاتهم الواسعة.
فكأنما المراد اخضاع مشروعية ممثلي الشعب (البرلمان) للقضاء في مقابل تحصين القضاء إزاء أي رقابة برلمانية أو شعبية. وإذ نتفهم أن تكون

للقضاء – ولمؤسسات الدولة عموما – تخوفات من تجاوزات قد يقوم بها من انتخبهم الشعب، ولكن هذه التخوفات لا تبرر على الإطلاق مثل هذه النصوص. فالسلطة المطلقة – أي سلطة – مفسدة مطلقة، ومشروع الدستور يعطي سلطات عديدة للقضاء، من دون أن تكون هناك ضمانة لحسن استخدام هذه السلطات.

ولم يتعرض مشروع الدستور لأهم مشاكل القضاء المصري، وهي مشكلة عدم وجود معايير واضحة لاختيار القضاة، وهو ما يؤدي في الواقع العملي إلى تفضيل ذوي القربى (التوريث). فصحيفة الشروق نشرت يوم السبت ٧ ديسمبر خبرا مفجعا، مفاده أن 25% ممن تم تعيينهم في القضاء هذا العام هم من أبناء القضاة (القضاة يمثلون نسبة %0,0014 من مجموع السكان)، وأن هذه النسبة المرتفعة لا تشمل أقارب القضاة من أبناء الإخوة والأصهار. والمقلق أن السلطات المعنية لم تكذب هذا الخبر، ولم تقدم توضيحا له، ولم نسمع أن هذه التجاوزات، إن صحت، تشغل بال شيوخ القضاة. كان على مشروع الدستور أن ينص بوضوح على أن اختيار القضاة لا يتم إلا بعد اجتياز مسابقة، يشرف عليها قضاة وغير قضاة. لكن مشروع الدستور لم يفعل ذلك، واكتفى بتقرير "ضمانات" للقضاة. إن استمرار مثل هذه التجاوزات من شأنه تحويل القضاء من مؤسسة من مؤسسات الدولة إلى مجرد جماعة من الأفراد تربطهم ببعضهم مصالح مشتركة.

وبالواقع، لا يعبر هذا التصور الدستوري للسلطة القضائية عن رؤى القضاة وحدهم، ولكن يعبر عما يمكن تسميته "المفهوم المصري لاستقلال القضاء". ففكرة استقلال القضاء – كما دافع عنها تيار استقلال القضاء – تبلورت في ستينيات القرن الماضي، في ظل نظام دكتاتوري كانت الانتخابات فيه صورية. لذلك كان من المنطقي محاولة إبعاد السلطتين التنفيذية والتشريعية عن القضاء، حتى لو أدى ذلك إلى أن يكون القضاء مستقلا عن الدولة نفسها. فاستقلال القضاء عن دولة ديكتاتورية أفضل بالتأكيد من تحوله لأداة في يدها لتحقيق رغباتها. واستمر تيار استقلال القضاء في الدفاع عن هذا التصور حتى ثورة يناير، والتف حوله المجتمع المدني وقطاع من المعارضة، حتى آمن الجميع بهذا التصور، وظنوا أنه هو التصور الوحيد لاستقلال القضاء. ولا زالت غالبية القانونيين والسياسيين والرأي العام مؤمنة بهذا التصور، غير مدركة أن المفهوم المصري لاستقلال القضاء – الذي تبلور في ظل ظروف معينة – حان وقت إعادة النظر فيه. ففي مصر ٢٠١٣، هناك انتخابات على قدر كبير من النزاهة، يشرف عليها القضاء، تفرز مؤسسات لها شرعية تزاحم شرعية القضاء، ولم يعد القضاء ذلك الابن المدلل للشعب المصري. من حق  المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا أن يكون لها كلمة بخصوص مسألة العدالة، كما يحدث في كل دول العالم. في مصر ٢٠١٣، الفساد طال جميع المؤسسات بلا استثناء، فأصبح غياب معايير اختيار القضاة بابا لتوريث المناصب، ولم يعد ممكنا الاكتفاء بترديد مقولة أن القضاء شامخ يصلح نفسه بنفسه.

فلسفة المفهوم المصري لاستقلال القضاء تفترض بداءة أن الخطر لا يمكن إلا أن يأتي من الخارج (من السلطة التنفيذية أو التشريعية). فتركزت ضمانات استقلال القضاء على صد هجوم الخارج، وفق منطق دفاعي، من دون أي اعتبار للمخاطر التي قد تتأتى من الداخل. ومن الضروري لإدراك خطأ هذا التصور، تقييم المفهوم المصري لاستقلال القضاء على ضوء المعايير الدولية المعتمدة في هذا المجال.

وفي الاتجاه نفسه، من الضروري أيضا، ربط فكرة استقلال القضاء بفعاليته، كما هي الحال في باقي دول العالم. فالقائمون على شؤون العدالة اليوم في قمة المناصب القضائية هم بفعل قاعدة الأقدمية بضعة أشخاص قاربوا سن السبعين (وهو سن التقاعد للقضاة في مصر)، وهم يبقون فى مناصبهم لمدة قصيرة قد لا تتجاوز العام، فلا يستطيعون إصلاحا، حتى لو كانت لديهم أحسن النوايا وأعمق التصورات للإصلاح. وبنتيجة ذلك، غالبا ما يترك هؤلاء مناصبهم نهاية شهر يونيو من كل عام، ويسلمون خلفاءهم قضاء في وضع أسوأ مما كان عليه عند استلامهم له. وهنا أيضا، بدا مشروع الدستور وكأنه يتجاهل المساوئ الناجمة عن التمسك بنظام الأقدمية، مبقيا الوضع على ما هو عليه. وهو بذلك، يخالف توجهات غالبية دول العالم، وكأنما تولي المسؤوليات القضائية العليا هي للتكريم والوجاهة الاجتماعية وليست لإصلاح شؤون العدالة. وما يزيد صمت المشروع قابلية للانتقاد أنه اغلق إمكانية تعديل هذه القاعدة تشريعيا باشتراطه موافقة ثلثي أعضاء البرلمان لتعديل أي مادة في قانون السلطة القضائية.
إن خطورة تحصين القضاء وانغلاقه هو تعزيز التوجهات الفئوية للقضاة، على نحو قد يتعارض مع مصالح عموم الشعب(corporatisme) . وهو ما نلمسه من حين لآخر حين تحدث احتكاكات بين قاض من ناحية ومحام أو شرطي من ناحية أخرى؛ فتتحول أزمة بين شخصين إلى أزمة بين طائفة القضاة وطائفة المحامين أو طائفة الشرطة، على نحو يستحضر الخلافات العائلية والقبلية، وخصوصا لجهة تحكيم القوة الاجتماعية، ورفض الاحتكام الى القانون. والسبيل الوحيد لتجنب هذا الأمر هو إيجاد جسور ومساحات مشتركة للتعاون بين مختلف مؤسسات الدولة، حتى لا تبقى المصالح متعارضة كلية. وما يزيد الأمر تعقيدا هو أن القضاة ليسوا حتى طائفة واحدة إنما طوائف متعددة، حسبما ظهر بوضوح في مناقشات لجنة الخمسين، وخصوصا في الخلاف المحتدم بين قضاة مجلس الدولة وأعضاء النيابة الإدارية، حيث تم تبادل الاتهامات واستخدام لغة غير لائقة تتعارض مع أصول النقاش القانوني.
 
خلاصة القول ان نصوص مشروع الدستور الخاصة بالسلطة القضائية لا تؤسس لدولة ديموقراطية، ولا تتعامل مع التحديات التي تواجه القضاء المصري. كان من الممكن قبول هذه النصوص لو جاءت ضمن نصوص دستور ١٩٥٤ أو دستور ١٩٧١. لكنها لا تناسب دستور مصر الثورة ٢٠١٣. فمشروع الدستور خطوة في اتجاه استقلال القضاء عن الدولة المصرية. وبدلا من أن يعالج مشروع الدستور مشكلات القضاء المصري، فهو يزيدها تفاقما. إن أغلى ما لدى القضاء هو ثقة الشعب فيه. ولقد اهتزت الثقة الشعبية في القضاء المصري بعد الثورة، نظرا للتحديات الكبيرة التي واجهها والتي لم يكن مستعدا لها. لذلك، على القضاء المصري بناء شرعية جديدة، تقوم على الحيدة والشفافية والفعالية والكفاءة، وليس فقط على الاستقلال عن كافة سلطات الدولة. وعلى القوى السياسية أن تتحمل مسؤوليتها، وأن تعاون القضاء في ذلك، وأن تكف عن نفاقه استجلابا لرضاه أو خوفا من سلطاته. فالقضاء المصري ملك للشعب المصري، بكل أطيافه ومكوناته، وليس ملكا لطائفة بعينها لا تفرق بين العام والخاص، والحفاظ عليه وإصلاحه مهمة الجميع. والأيام علمتنا أن رفض أو مقاومة الإصلاح قد يؤدي إلى ثورة، يمكن أن تكون أعنف من الثورات التي سبقتها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، دستور وانتخابات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني