“المفكرة” تونس تلتقي “المركز الدولي للعدالة الانتقالية”: العفو لا يكون بقرار سياسي مسقط


2018-12-21    |   

“المفكرة” تونس تلتقي “المركز الدولي للعدالة الانتقالية”: العفو لا يكون بقرار سياسي مسقط

أيام تفصلنا عن التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة. إعلان إنتهاء أعمال هذه الهيئة هو بمثابة إعلان عن بدء معركة قديمة جديدة حمل المجتمع المدني بمنظماته وجمعياته الحقوقية شعلتها وهي معركة إستكمال مسار العدالة الإنتقالية بما يتضمنه مراقبة الحكومة بتطبيقها  لتوصيات الهيئة التى ستدرج ضمن تقريرها النهائي، بالإضافة إلى متابعة عمل الدوائر القضائية المتخصصة مما يسمح بمتابعة مسار كشف الحقيقة والمحاسبة.

من هذا المنطلق حاورت المفكرة القانونية الأستاذة سلوى قنطري، رئيسة المركز الدولي للعدالة الإنتقالية في تونس، وهو المركز الذي عمل بشكل متواصل وقريب من جمعيات وجماعات الضحايا وكان الداعم الأول للتحالف التونسي للكرامة ورد الإعتبار، وهو التحالف الذي يجمع كل ضحايا عهود الإستبداد تحت رايته.

“هناك سوء تواصل خطير بين هيئة الحقيقة والكرامة والمجتمع المدني”، هكذا لخصت “قنطري” حديثها مع المفكرة القانونية، لنخوض بعدها بالحوار التالي:

المفكرة القانونية: أصدرت هيئة الحقيقة والكرامة المقرر الإطاري لجبر الضرر في نوفمبر 2018، ما تقييمكم له؟

سلوى القنطري: في الواقع، لا يتضمن المقرر الإطاري لجبر الضرر الذي تم نشره من قبل هيئة الحقيقة والكرامة على موقعها الرسمي وضوحا كافيا فيما يخص الوحدات والتى على أساسها يتم إحتساب التعويضات للضحايا. كما غاب ذكر العديد من الإنتهاكات عن القرار، أهمها باعتقادي الإختفاء القسري والتهجير القسري. كما أنه من علامات الإستفهام الكبرى والتى طرحتها ليس فقط مجموعات الضحايا بل المجتمع المدني برمته هي غياب ذكر جبر ضرر المناطق التى همشت عمداً من قبل أنظمة ما قبل الثورة. حيث أن جبر ضرر المناطق نص عليه قانون العدالة الانتقالية لعام 2013. أذكر هنا أن من أهم خصوصيات تجربة تونس في العدالة الإنتقالية هي  شمل المناطق المهمشة في المسار وجعله من ضمن عمل هيئة الحقيقة والكرامة. كما وغاب ذكر جبر الضرر الجماعي. نتمنى أن تذكر هذه الإنتهاكات في تقرير الهيئة الختامي المنتظر الإعلان عنه قريبا.

المفكرة: نهار 4 ديسمبر 2018، أعلن عن تقرير بعنوان “من يسمع صوتي”. عمل على هذا التقرير مركزكم بالتعاون مع الضحايا وجمعيات حقوقية أخرى. هل يمكن أن تحدثيننا أكثر عن هذا التقرير والفئة التى يشملها؟

القنطري: هذا التقرير يخص نساء الضحايا غير المباشرات. رصدنا في المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تونس منذ 2011 تهميشا كبيرا تعرضت له تلك الفئة من النساء. هذه الفئة بتقديرنا تشكل شريحة كبيرة وواسعة من المجتمع التونسي والتى سلط عليها العديد من الإنتهاكات ولكن بقيت في الظل، على غرار الزوجة، الابنة، الأخت، الأم. تلك السيدات اللواتي حملن “القفة” على مدار سنوات من وإلى السجن في سبيل زيارة ذويهن لمدهم بالأكل والإحتياجات الحياتية الأساسية. هناك أيضا حالات تم فيها سحب بطاقة تعريف تلك النسوة لتقييد حركتهم ومنعهم من زيارة ذويها في السجن. دون ذكر الهرسلة والوصم الاجتماعي الذي لاحقهن ويلاحقهن باستمرار بسبب سجن الأب، الأم، الزوج، الأخ، الأخت، إلخ. كل ذلك ونجد أن المجتمع لم يعتبرهن ضحايا كونهن بإعتقاد المجتمع كن يقمن بدور‌ طبيعي.

بالرغم من أن ذويهن كانوا في السجن، كانت تلك النسوة في سجن أكبر اسمه المجتمع عرضة لإنتهاكات عديدة يعاقب عليها القانون. عملنا في مركز العدالة الإنتقالية بشكل ميداني وجلنا على 9 ولايات لمقابلة الضحايا من هذه الفئة لنعرف أكثر عن أوضاعهن الإجتماعية والحياتية وندرس عن قرب احتياجاتهن اليوم. كما تعاونا مع هيئة الحقيقة والكرامة ومع العديد من المنظمات الحقوقية ومع محامين ومحاميات ونواب ونائبات في مجلس نواب الشعب التونسي. كل ذلك في سبيل العمل على مقترحات قوانين تحمي هذه الفئة المهمشة.

المفكرة: دخل صندوق الكرامة، خصوصاً في الفترة الأخيرة، صلب جدال الأحزاب السياسية بين مؤيد ورافض له. كما وأن الحجة الرئيسية للمعارضين هي قدرة الدولة التونسية المالية الضعيفة. ما تعليقكم؟

القنطري: هناك إفتعال للمشكل في الحقيقة ومحاولات لتوظيف المسألة سياسيا. الصندوق أُحدث من خلال قانون المالية لعام 2014، ونص عليه قانون العدالة الانتقالية لعام 2013 قبل ذلك، وعلى أساس ذلك، أتى الأمر التطبيقي الحكومي في جانفي من العام الجاري. نتفهم أن الدولة التونسية لديها صعوبات اقتصادية كبيرة. لكن قانون العدالة الإنتقالية في الأساس يسمح لصندوق الكرامة الإنتفاع بهبات ومنح دولية غير مشروطة. للدولة التونسية العديد من الدول الصديقة والمساندة لانتقالها الديمقراطي وهي مستعدة لمساعدة صندوق الكرامة بالهبات غير المشروطة. هناك مجال للدول تقديم مساعدات عينية ليس فقط مادية. هذا يخص جبر الضرر الجماعي خصوصا. يمكن أن تكون الهبات على شكل إنشاء مدارس أو مستشفيات أو تحسين وتطوير أو شق بنى تحتية. كما يمكن للهبات أن تكون عينية على شكل تكوين فئات من الضحايا لمزاولة عمل أو مهنة معين أو حتى على شكل منح دراسية.

للأسف، دخلت العدالة الإنتقالية في تونس التجاذبات السياسية في البلاد ولكن يبقى أملنا في التونسيين أنفسهم ومدى إيمانهم بحقوق الضحايا ومدى إلتزام منظمات المجتمع المدني بالدفاع عن هذه الحقوق.

المفكرة: تعزم حركة النهضة التونسية تقديم مشروع قانون حول المصالحة الشاملة. بإعتقادك هل المصالحة الشامل حل؟

القنطري: المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب. أعني بذلك أنه يجب أن يكون هناك آليات لمكافحة الإفلات من العقاب وآليات تعمل على تفعيل أكثر للدوائر القضائية المتخصصة. بالإضافة إلى آليات مكافحة الفساد. وعلى أن لا يكون جبر الضرر المادي هو ثمن المصالحة الشاملة. فإن لم يتم حفظ حقوق الضحايا ورد اعتبارهم والكشف عن جلاديهم، يمكن لأي مواطن أن يتعرض مجددا لتلك الإنتهاكات. مصالحة طبقا للعدالة الإنتقالية تكون عبر الدوائر القضائية المتخصصة وليس عبر عفو عام متفق سياسيا عليه من قبل أصحاب النفوذ والقرار. أشير هنا إلى أننا حاورنا العديد من الضحايا لنجد أن القسم الأكبر منهم رافض تماما للعفو العام المسقط سياسيا. “يمكن أن أقبل بالعفو عن جلادي بشكل إرادي ولكن أريد أولا أن أضمن حصولي على حقوقي ورد كرامتي واعتباري” هكذا عبر العديد من الضحايا.

المفكرة: إلى اليوم لم تصدر قائمة بأسماء الضحايا ولم يصدر أي من المقررات الفردية، لماذا؟

القنطري: علينا أن نتوجه بهذا السؤال إلى هيئة الحقيقة والكرامة فهي المفوضة قانونيا بنشر هذه القوائم. هناك مشكلة أساسية وهي معايير تصنيف الضحايا على أنهم ضحايا. هذه المعايير هي نقطة إستفهام كبيرة طرحت من قبل الضحايا. أذكر أن جزءا كبيرا من هؤلاء تم إبلاغهم قبل أيام فقط بأنهم لم يصنفوا كضحايا أصلا. وبحسب المعلومات التى تلقيناها منهم، كان تعليل الهيئة هو أن الانتهاك الذي تعرض له هؤلاء لا يصنف بالجسيم. الاستغراب هو أنه وقع إبلاغهم بذلك بعد أربع سنوات من تاريخ تقدمهم بملفاتهم للهيئة. أيعقل ذلك؟ قانونيا، الهيئة هي المكلفة بتحديد أسباب رفض الملفات وهي التى تصنف الأشخاص كونهم ضحية أم لا. ولكن يبقى التساؤل والاستفهام الأكبر لماذا يقبل ملف ويتم الإحتفاظ به لمدة أربع سنوات ثم يرفض الملف ويرفض تصنيف الشخص الذي قدمه كضحية قبل أيام فقط من إنتهاء أعمال الهيئة؟

المفكرة: اللقاءات التشاورية التى جمعت الضحايا من مختلف الجهات التونسية كانت مثمرة واستطاع الضحايا من خلال هذه اللقاءات رفع تساؤلات عديدة لهيئة الحقيقة والكرامة. هل يمكن أن تحدثيننا عن أبرز هذه التساؤلات؟ وهل تجاوبت الهيئة معها؟

القنطري: تحالف الكرامة ورد الإعتبار هو الذي قام بهذه اللقاءات التشاورية بالتعاون معنا  منذ شهر أكتوبر. في الحقيقة، هناك مشكلة تواصل بين جمعيات الضحايا وهيئة الحقيقة والكرامة. هذا الأمر ليس بالجديد بل منذ 2013. وهناك عموما سوء تواصل فيما يخص مسار العدالة الإنتقالية. نحن حقا نتعب كمنظمات مجتمع مدني لتوصيل المعلومة للمعنيين. ولكن نتفاجئ نهاية أن هناك العديد منهم لا يعرفون أيا من المعلومات التى سهرنا لتوصيلها. الإعلام أيضاً غير متعاون بل ومعادٍ في الكثير من الأحيان للهيئة وللمسار.

هدف هذه اللقاءات التشاورية هو أخذ أسئلة وانطباعات الضحايا وتوصياتهم بخصوص تقرير الهيئة النهائي. وجدنا أن هاجس الضحايا الأكبر هو “إلى من سأتجه بعد أن تغلق الهيئة أبوابها؟”. وفعلا، حتى أن الهيئة كانت نقطة إلتقاء ليس فقط للضحايا بل لمنظمات المجتمع المدني برمته.

المشكل أيضا أن المناخ السياسي المعادي بشكل صريح للمسار. مثال كنا قد ذكرناه سابقا وهو الهجمة الشرسة على صندوق الكرامة. أؤكد لك أن هناك نوابا كانوا في المجلس التأسيسي وصوتوا على قانون العدالة الانتقالية وعلى قانون المالية الذي يتضمنه صندوق الكرامة. اليوم نجد هؤلاء يتصرفون وكأنهم لم يصوتوا. صندوق الكرامة هو مطلب شرعي ومشروع وكذلك رد الاعتبار للضحايا. كما ونتمنى أن يشمل تقرير الهيئة النهائي توصيات تعيد للضحية صورته الأساسية التى تمت شيطنتها منذ 2011 والبعيدة عن الانتماءات الحزبية والإيديولوجية. التوصيات بهذا الخصوص يمكنها إعادة بناء الثقة بين الشخص الضحية والدولة عندما يجد نفسه يُعامل على أساس أنه مواطن تونسي أولا وأخيرا.

المفكرة: ستنهي الهيئة أعمالها قريبا، ماذا بشأن الملفات التى لم يتم تحويلها الدوائر القضائية المتخصصة حتى الآن؟

القنطري: الدوائر يجب أن تستمر ومن واجبنا نحن كمجتمع مدني أن نقف صفا واحدا معها لأنها هي الأمل لمواصلة مسار المحاسبة وكشف الحقيقة ومكافحة الفساد والتجاوزات الفاسدة. علينا إجراء حوار بين منظمات المجتمع المدني أو حوار وطني جامع يمكننا من التوصل لحل بخصوص إحالة الملفات التى لم تُحل بعد للدوائر. العديد من الضحايا يؤكدون أن ملفاتهم تتضمن الإثباتات والأوراق اللازمة والتى تمكن الهيئة من الإحالة الفورية للدوائر المتخصصة. أعتقد أنه يجب علينا العمل على تفعيل دور المدعي العام وتوعيته بأهمية مسار العدالة الانتقالية لتعزيز رغبته بالتوكل والتعهد بملفات الضحايا أمام الدوائر القضائية المتخصصة. المركز الدولي للعدالة الإنتقالية بدأ عمله عند عقد المؤتمر الأول في 2016 والمؤتمر الثاني في 2018 عن مسار العدالة الانتقالية وتعهدنا بالعمل على تدريب القضاة والمدعين العامين في هذا الخصوص. صحيح أن هيئة الحقيقة والكرامة أحالت ملفات مهمة إلى الدوائر المتخصصة ولكن هناك ملفات أخرى لا تقل أهمية ولكن لم تُحل. المعلومات التى تتضمنها هذه الملفات في حال تعهدت بها الدوائر المتخصصة يمكن أن تشكل فقه قضاء قوي داعم ومدافع عن منظومة حقوق الإنسان في تونس.

 

  • نشر هذا المقال في العدد | 13 | ديسمبر 2018، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:

العمران في تونس: أسئلة منسية في زمن البناء الفوضوي

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، عدالة انتقالية ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني