المفكرة القانونية تراجع مشروع قانون المرضى النفسيين


2014-09-02    |   

المفكرة القانونية تراجع مشروع قانون المرضى النفسيين

في 08-08-2012، أحال مجلس الوزراء الى المجلس النيابي مشروع قانون تحت عنوان: “رعاية وعلاج وحماية المصاب بمرض عقلي أو نفسي”. وقد أقر المشروع، رغم أهميته، من دون أن يحظى بنقاش اجتماعي. فانحصر التداول الإعلامي بشأنه بعدد قليل من المقالات[1]. وكان المشروع قد أُقرّ بمبادرة من جمعية غير حكومية (إدراك) مكوّنة من اختصاصيين في علم النفس. ولسبب نجهله، قفز مشروع القانون بعض المراحل الأولية، ليُدرج مباشرة على جدول أعمال اللجان المشتركة من دون المرور بأي من اللجان المختصة الأخرى، وفي مقدمتها لجنة الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية. وتالياً، بدا واضحاً أن ثمة قوى اجتماعية تدفع الى إقرار هذا القانون، مع تفادي النقاش العام، أو على الأقل من دون إيلاء هذا النقاش العام أي اهتمام. تجدر الإشارة الى أن هذا المشروع يهدف الى إلغاء المرسوم الاشتراعي الصادر في 09-09-1983 بعنوان رعاية وعلاج وحماية المرضى العقليين والذي بقي الى حد كبير مجهولاً وغير مطبق.

علاج المرضى النفسيين كقضية عامة
وقد رأت “المفكرة” ضرورة عرض مشروع القانون، في المرحلة التي وصل اليها، على النقاش العام، وذلك لثلاثة أسباب على الأقل:

–  إيلاء مسألة علاج المرضى النفسيين، بما تتضمنه من إشكاليات، حيزاً في النقاش العام. وهذا الأمر يفرضه أولاً الاعتراف بفئة المرضى النفسيين كشريحة اجتماعية وبحاجاتهم، فتخرج من الكواليس والعتمة، لتحظى بما تستحقه من اهتمام عام. ولكن أهم من ذلك، فإن التجربة في لبنان تبين في ظل ضعف قوة القاعدة القانونية، أن عرض مشاريع القوانين النقاش العام يشكل حاجة لإيجاد بيئة حاضنة ليس فقط لإقرارها بل أيضاً لتطبيقها، سواء من قبل القضاء أو الإدارات العامة. وكدليل على ذلك، تكفي مقارنة مآل المرسوم الاشتراعي الصادر في 1983 المشار اليه أعلاه والذي بقي خارج حيز التطبيق بقانون حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري والذي سارعت النيابات العامة وقضاة الحكم الى التوسع في تطبيقه وتفسيره، وصولاً الى إصلاحه[2].

–  تصحيح المنهجية المتبعة لوضع المشروع. لا نبالغ إذا قلنا إن أحد الأهداف الرئيسية لمشروع من هذا النوع (وربما أهمها) يتمثل في وضع ضوابط لسلطة الطب النفسي pouvoirpsychiatrique، لئلا تتحول الى سلطة مطلقة على المرضى النفسيين. ومن هنا، رأت “المفكرة” ضرورة إعطاء المقاربة الحقوقية حيزاً أكبر، ولا سيما أن مشروع القانون في صيغته الأولى قد وضعته جمعية غير حكومية يديرها أطباء اختصاصيون.

–  إدخال تعديلات ضرورية على مشروع القانون حسبما نبين أدناه. ويرتبط معظم هذه التعديلات ربما بضعف المقاربة الحقوقية للمشروع الحالي والذي أدى الى نقص كبير في ضمانات حسن تطبيقه، ولا سيما في الضمانات التي تحول دون الحد من السلطة التي ينشئها ويعززها وهي سلطة الطب النفسي.

سلطة الطب النفسي: أي وظيفة؟
كان من الضروري بداية في هذا المضمار تعريف وظيفة الطب النفسي. فالهدف الأساسي منه هو علاج المريض نفسه وضمان إعادة دمجه اجتماعياً قدر الإمكان. وبالطبع، تحديد الهدف على هذا الوجه من دون توسع لا يتم بديهياً أو تلقائياً، بل هو يفترض مجموعة من القواعد الضامنة، سعت “المفكرة” الى إدخالها في مشروع القانون المذكور.

فالهدف من الطب النفسي ليس ضبط السلوكيات الاجتماعية وإن اختلفت عن السلوكيات السائدة أو المندوبة أو المرغوب بها اجتماعياً. لا بل إن تدخل الطب لمعالجة هذه السلوكيات يشكل في الغالب إخلالاً بالآداب الطبية، ولا سيما في الحالات التي يوحي فيها الطب النفسي بقدرته على تغيير هذه السلوكيات أو التأثير عليها على نحو من شأنه أن يسبب ضرراً كبيراً للشخص المعني. من هنا، رأت “المفكرة” حاجة في إضافة فقرة الى تعريف المرض النفسي بهدف منع الانزلاق في هذا المضمار. فلا يمكن تشخيص المرض النفسي على أساس اعتبارات سياسية أو اقتصادية أو وضعية اجتماعية أو انتماء الى مجموعة ثقافية أو عرقية أو دين. كما لا يمكن تشخيص المرض على أساس مخالفة السلوكيات والقيم الأخلاقية أو الاجتماعية أو الثقافية أو العائلية أو أي اعتبار آخر لا يتصل مباشرة مع حالة الصحة النفسية.

أما المحظور الثاني، فيتمثل في منع الانزلاق في اتجاه يصبح معه الطب النفسي أداة لحماية المجتمع ضد الأشخاص الخطرين من خلال تأطيرهم وربما عزلهم أكثر مما هو أداة لعلاج هؤلاء بهدف ضمان دمجهم أو إعادة دمجهم في المجتمع. ومن هنا، ثمة ضرورة في التأكيد على أن القانون يهدف أولاً الى ضمان علاج المريض النفسي. فلا يحصل عزل المريض إلا في حالات الضرورة وفق مبدأ العلاج الأقل تقييداً لحريته. وبالطبع، يبقى إعلان قاعدة كهذه أو مبدأ كهذا مسألة شكلية غير قابلة للتطبيق كلما كان هنالك مرض نفسي على شيء من الخطورة، إذا لم تتولّ السلطات العامة أو المحلية إنشاء مؤسسات بديلة بمقدورها تقديم علاج للمريض النفسي من دون احتجازه أو على الأقل من دون عزله. ففي حالة كهذه، يصبح العزل ضرورة ظرفية أكثر مما هو ضرورة طبية. ومن هنا، كان لا بد من اقتراح عدد من التعديلات على مشروع القانون الأساسي بهدف تحميل الدولة صراحة مسؤولية إنشاء أو اعتماد مراكز مماثلة، فضلاً عن التشدد في شروط الإدخال الإجباري للمؤسسة لجهة اشتراط أن يكون الخطر داهماً وأن يكون الهدف منه هو العلاج.

أما المحظور الثالث، فيتمثل في ضمان تمتع المريض بكل حقوقه كمواطن إلا الحقوق التي يوجب العلاج التضحية بها. فالطب النفسي هو أداة للعلاج وليس أداة للمعاقبة. وهذا ما انعكس في اقتراح عدد من الضوابط، ولا سيما بما يتصل بتقييد المريض أو إخضاعه لجلسات علاج كهربائي.

سلطة الطب النفسي: أي حدود؟
من البيّن أن مشروع القانون يولي الطبيب النفسي سلطة واسعة تصل الى حد التحكم ليس فقط بحريات الآخرين بل أحياناً بمقدراتهم العقلية. فعدا أن الاحتجاز القسري للمريض يتم غالباً بمبادرة وحث من الطبيب، فإنه لا يتم في مجمل الحالات إلا بموجب تقرير صادر عنه. وهنا، نلمح السلطة الواسعة المعطاة لهؤلاء الاختصاصيين الذين يصبح لهم هامش واسع في تقييد حرية مواطنين، وإخضاعهم لعلاجات قد يكون لبعضها آثار دائمة على وضعية المريض. وفي حين أن ربط قرار الاحتجاز بموافقة طبيب اختصاصي يشكل ضمانة طبية معينة، فإن خطورة النتائج التي تترتب عليه تفرض في الوقت نفسه وضع ضمانات فعالة ضد تعسف الطبيب أو المؤسسة الاستشفائية في هذا المجال. ومن هنا، تم اقتراح عدد من الضوابط الإضافية:

الأول، ضمانة علمية:أن يشترط للعلاج الإجباري، وجود تقريرين طبيين بدلاً من تقرير واحد، وعلى أن يكون أحدهما منظماً من طبيب لا صلة له بالمؤسسة الاستشفائية منعاً لتضارب المصالح،

الثاني، تمكين المرضى النفسيين وعوائلهم:ومن هنا فكرة إيلاء جمعيات مكوّنة من المرضى النفسيين و/أو عوائلهم وظائف معينة في العمل على تحسين أوضاع هؤلاء أو الدفاع عنهم، ولو أمام القضاء. والرهان هو أن تنجح هذه الجمعيات في الحدّ من أي تعسف في احتجاز أشخاص أو إبقائهم لآماد طويلة من دون مبرر أو من دون مراعاة الأصول. والنص على إنشاء جمعيات كهذه يجد ما يبرره في الهشاشة الفائقة لأوضاع المرضى النفسيين. هذا فضلاً عن أن من شأن إنشاء هذه الجمعيات أن يضمن التخاطب المستمر في شؤون علاج المرضى النفسيين،

الثالث، ضمانة قضائية:وذلك من خلال إعطاء القضاء دوراً أساسياً في حماية حرية الشخاص المحتجزين. وقد اقترحت “المفكرة” هنا تعديل مشروع القانون، من خلال إحلال رقابة القضاء المستعجل محل القضاء المختص بالأحوال الشخصية كما ورد في المشروع الأساسي. فمسألة العلاج الإجباري في مؤسسة استشفائية تشكل مسألة حرية شخصية بالدرجة الأولى، ما يفرض تدخل القضاء الأكثر اختصاصاً بحماية الحرية. وقد اقترحت “المفكرة” تعزيز دور القضاء بحيث يكون مختصاً ليس فقط للموافقة على إبقاء الشخص في المؤسسة كلما رأى الطبيب المعالج وجوب علاجه لفترة تزيد عن عشرة أيام، بل أيضاً مختصاً للنظر في أي طلب قد يرده من أصحاب الصفة أو المصلحة (ومن بينهم الأهل والجمعيات والنيابة العامة) لإخراجه في أي حين. كما يقتضي تزويده دورياً بتقارير صادرة عن الطبيب المعالج، الأمر الذي يسمح له بالتدخل تلقائياً على ضوء مضمون هذه التقارير في أي حين،

الرابع، ضمانة رقابية إدارية: هنا، استعادت “المفكرة” بنود المشروع الأساسي لجهة إيلاء دور رقابي للجنة الطبية المنشأة داخل وزارة الصحة العامة، مع إدخال تعديلات أساسية بهدف تفعيلها. وقد رمت التعديلات المذكورة الى تحديد كيفية تشكيل هذه اللجنة وتعيين أعضائها على أن يكون أحدهم ممثلاً لجمعيات المرضى النفسيين وعوائلهم المقترح الاعتراف بدورها، ومدة ولايتهم وحقهم بتقاضي تعويضات تحدد بمرسوم. فمن دون توضيحات مماثلة، يرجح أن تبقى اللجنة شكلاً من دون جوهر،

الخامس: ضمانة رقابية داخل المؤسسة: وهنا أيضاً، استعادت “المفكرة” بنود المشروع الأساسي لجهة إيجاد لجنة أخلاقية داخل المؤسسات الاستشفائية، مع إدخال تعديلات بخصوص عضويتها، ولا سيما بخصوص إشراك مدير المؤسسة الاستشفائية الى جانب أحد ممثلي جمعيات المرضى النفسيين وعوائلهم فيها. وما يعزز فعالية هذه الأداة الرقابية هو تحميل المؤسسة الاستشفائية، التي لا يذكرها القانون الحالي من قريب أو بعيد، مسؤولية الإخلال بتطبيق القانون،

السادس: المسؤولية والعقوبات الجزائية: في المشروع الأساسي، كانت العقوبات تقتصر على حالات استغلال حالة ضعف المريض النفسي بوسائط معينة بهدف إرغامه على القيام بأفعال جرمية أو أفعال معينة. بالمقابل، فقد خلا المشروع الأساسي من أي عقوبات لتجاوز الأصول أو الحقوق المكرّسة فيه. ومن هذا المنطلق، قدمت “المفكرة” اقتراحات لمعاقبة عدد من التجاوزات لأحكام المشروع، ومعها لمعاقبة التعسف الذي قد تقدم عليه السلطة التي ينتظر انبثاقها عنه. ولهذه الغاية، تم تجريم عدد من هذه الأفعال، من أبرزها ما يعنينا هنا تنظيم تقارير طبية على نحو يخالف مخالفةً جليةً الواقع في شأن الحالة النفسية أو العقلية لأحد الأشخاص بقصد إدخاله الى المؤسسة أو إبقائه فيها أو إخراجه منها، وأيضاً تجريم إدارة المؤسسات الصحية التي تدخل شخصاً للعلاج الإجباري أو تبقيه محتجزاً فيها خارج الحالات التي يسمح بها هذا القانون.

نشر هذا المقال في العدد | 20 |آب/أغسطس/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

ملاحظات المفكرة القانونية حول قرارالدستوري في قضية الإيجارات القديمة

للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا


[1]ملاك مكي، الصحة العقليّة: مشروع قانون لحماية المرضى، السفير، 08-04-2013
[2]نزارصاغية، للمرة الأولى قرار قضائي لحماية المرأة من العنف المعنوي، الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية، 20-3-2014
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، إقتراح قانون ، الحق في الصحة ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني