المساواة في الميراث ضرورة بمنطق القرآن والدولة المدنية المعاصرة


2021-03-10    |   

المساواة في الميراث ضرورة بمنطق القرآن والدولة المدنية المعاصرة

أفضت مبادرة الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي الهادفة لطرح فكرة صياغة مشروع قانون غايته ضمان المساواة في الإرث إلى تطور هامّ في نطاق الحوار المجتمعي حول الموضوع. ورغم أهمية تلك المبادرة فقد انتهت بنهاية حقبة صاحبها وكنتيجة لما برز من معارضة سياسية لها تستند للمرجعية الدينية وتعتبر كل حديث عن المساواة في الإرث اعتداء على حكم شرعي صريح ومحاولة لتغريب ثقافي لمجتمع مسلم.

في سياق يناقض ذاك المزاج، يعتبر المفكر والناشط الإسلامي التونسي محمد بن جماعة أن الإرث مسألة اجتماعية تخضع في منطق الإسلام لقيم الحياة المجتمعية في إطار مقاصد الشريعة ومبادئها بما يحول المساواة فيه لفرض شرعي يدعو له.

ويهم المفكرة أن تنفرد بنشر مقال له في الموضوع على أمل أن يكون هذا النص منطلقا لحوار أشمل يطور نظرتنا وموقفنا من الموضوع داخل تونس وخارجها (المحرر).

 

أميل للقول بأن كثيرا من الأحكام في النص القرآني لم تأت كأحكام قاطعة لكل زمان ومكان، وإنما جاءت بتدرج واضح يؤكد أن الغاية منها هي تعليم الناس منهجية التكيف مع الواقع والنظر من أجل تكييف الأحكام حسب الظروف الاجتماعية الطارئة باختلاف الزمان والمكان وتطور المجتمع وكثرة تعقيداته. فالقرآن كتاب منهج وليس كتاب تفاصيل، بما يعني أن كثيرا من الأحكام القرآنية هي بمثابة نماذج عملية للاقتداء بها وليس للتقيد بها، وهي دروس تطبيقية من أجل تعلم كيفية إدارة وسياسة المجتمع وتغيراته. والميراث يندرج في هذا النوع،والمساواة في الميراث تعتبر من مقاصد القرآن في تحقيق العدل الاجتماعي والتوزيع العادل للثروة. والعدل هنا يأخذ بعين الاعتبار عدة جوانب، من بينها حجم المسؤولية الاجتماعية، والعائلية، والدخل المالي، وأوجه الإنفاق، وغيرها.

ويكون في هذا الإطار من المهم أن نتبين ومن البداية أن الميراث هو من الأحكام الاجتماعية وليس من الشعائر التعبدية، أي أنه من المعاملات وليس من العبادات أو العقائد الأساسية. وباب المعاملات في الفقه يجوز الاختلاف فيه، واعتماد بعض القواعد الفقهية المختلف حولها. نعم، هناك أصول في الدين لا تتغير بالتأويل أو بالأهواء. وإنما لنعترف أن هناك عقولا تتوسع كثيرا في مفهوم الثوابت والأصول، وترى في كل نقاش حولها، وكل دعوة للتفكير وإعادة النظر، مجرد أهواء وتبديل لكلام الله. والحقيقة أنه لا أحد متدين يخطر في باله أن يبدّل كلمات الله. وشخصيا، محركي الوحيد لكل بحث أو نظر أو جدل أخوضه في القضايا الدينية، هو حرصي الشديد على فهم مراد الله ومقصده من الوحي والرسالة والنبوة. واعتقادي الديني أن الميراث، كمبدأ اجتماعي واقتصادي من مبادئ توزيع الثروة، ثابت ديني، ولكن كيفية تقسيم الميراث ليست ثابتا دينيا. وهذا نستدل عليه بنص القرآن ذاته، وأيضا بموجب التدرج الحاصل في العهد المكي والمدني. وسألخص رؤيتي للموضوع في ثلاث نقاط رئيسية.

الإطار التاريخي لأحكام الميراث

لم تكن المواريث حكما قاطعا من أول وهلة، وإنما تدرّجت أحكامها على سبع مراحل، في العهد المكي والعهد المدني.

ففي بداية الإسلام، في الفترة المكية، كان الميراث أساسه الحِلف والنُّصرة حتى مع اختلاف الدِّين. فكان بعض المشركين المتعاطفين مع المسلمين يوفرون حماية قَبَلية لهم بموجب الإعلان عن الموالاة أو النصرة، فيحترم المشركون تلك الحماية. وبموجب هذه الموالاة، يدخل كلا الرجلين مع أهل الآخر في الميراث، فيقول أحدهما للآخر: “أنت وليّي، ترثني وأرثك”. ولذلك كان المسلم يرث من غير المسلم، والعكس أيضا إن كان بينهما موالاة ونصرة: “ولكلٍّ جَعَلْنَا مَوالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ” (النساء). وقد بقي هذا الحكم إلى بداية الفترة المدنية، حيث كان المسلمون في المدينة يتوارثون مع من بقي من المسلمين في مكة ولم يهاجر، أو مع مواليهم من المشركين.

ثم، تغيّر الحكم، بعد فترة قصيرة من الهجرة، فكان الإرث بالإسلام والهجرة فقط. في سورة الأنفال: “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا”. وبهذه الآية، انقطعت الولاية بين المؤمن المهاجر وغيره، ممن لم يُؤمن، أو آمن ولم يهاجر.

ثم تغير الحكم مرة ثالثة، فأصبحت الولاية للقرابة والرحم فقط في سورة الأنفال: “وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ”.

إذن نلاحظ التدرج:من الميراث على أساس الولاية والنصرة بين المسلم والمشرك، أو بين المسلم والمسلم، إلى الميراث على أساس الإسلام والهجرة فقط، إلى الميراث على أساس القرابة والرحم. وهذا كله مفهوم ومنطقي جدا، بحيث يمهد إلى تأسيس الدولة، وتركيز ثروة المسلمين المهاجرين في دار الهجرة بالمدينة.

في مستوى ثانٍ من التدرج، نلاحظ أنه في البداية لم يكن هناك نظام مقدّر للميراث، فتُرِك للرجل لبضع سنوات بعد الهجرة، أن يُوزع ماله قبل موته كما يشاء:”كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتقِينَ” (البقرة).

ولكن الرجال، بحكم أعرافهم القَبَلية، عمدوا إلى تخصيص بعضٍ دون بعض بالوصية. فكانوا يخصّون الرجال دون النساء. فنزل الوحي: “لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْه أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا” (النساء).فأصبح نصيب المرأة فرضا وليس اختيارا. ومع ذلك، لم يبيِّن نصيب كل وارث، وترك ذلك لتقدير الناس.

وبعد فترة، تولَّى القرآن توزيع التَّرِكة:”يُوصِيكُمْ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ…” (النساء)، “وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ…” (النساء)، “يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ…” (النساء). فبيَّن نصيب الأصول والفروع، ثم نصيب الزوجين، ثم نصيب الإخوة والأخوات.

وكان حظ الأنثى يراعي كونها لا تنفق على نفسها، وإنما الرجل هو الذي ينفق عليها. فراعى القرآن في التوزيع جعل حظِّ الذَّكَر مثل حَظِّ الأنثيين إذا كانت هناك مساواةٌ في الدرجة، ومشاركةٌ في سبب الإرث؛ لأن الأنثى لا تنفق على نفسها، إن كانت بنتًا أو أُمًّا أو زَوْجَة، وإنما نَفَقَتُها في الأعم الأغلب على غيرها. وهذا التقسيم للميراث يجعلها في بعض الحالات يزيد نصيبها على الذَّكَر أو يتساوى معه عند اختلاف الدرجة.

هذا هو إذن التدرج الذي حصل في أحكام المواريث على سبع مراحل. ومقارنة هذه الأحكام بأوضاع الأمم الأخرى قبل الإسلام، تنفي قطعيا تهمة امتهان الإسلام للمرأة في أحكام الميراث. بالعكس، فإن أي منصف سيرى فعلا أن هناك اتجاها تصاعديا وواقعيا في تحسين الوضع الاجتماعي للمرأة، ومنح المرأة حق التصرف المالي. وتقسيم المواريث الذي استقر عليه الأمر في آخر النبوة يبدو هو الأعدل بالنظر لوضع المرأة في ذلك السياق. وربما لم يستوجب الأمر التدرج إلى حد المساواة بين الذكر والأنثى. بل ربما تكون المساواة في ذلك العصر وذلك السياق الاقتصادي والاجتماعي أمرا غير منطقي وغير عادل.

كل هذا يبين أنّ أحكام الميراث تتكيف مع البيئة والظروف الاجتماعية، بما يحقق العدل. وإذا تغير الواقع الاجتماعي، فلا حرج من مواصلة التكيف معه (على نفس المنهج) مع المحافظة على المقصد القرآني في أحكام المواريث، وهو حفظ الحقوق وإقامة العدل. وبما أن النموذج الاجتماعي المعاصر لم يعد قائما على تفرغ الرجل للعمل خارج البيت، وتفرغ المرأة للعمل داخل البيت، ولم يعد الرجل وحده ينفق على البيت، وإنما حتى المرأة تنفق على البيت. فهذا يفترض عدم الحرج في إعادة النظر في أحكام المواريث وتكييفها بحيث يمكن المساواة بين المرأة والرجل في الميراث.

المرأة في القرآن

وطالما أننا نتحدث عن تحسين الوضع الاجتماعي للمرأة، فلننظر إلى المرأة في الرؤية القرآنية. كل سور القرآن تقريبا تتحدث عن المرأة المؤمنة مثلما تتحدث عن الرجل المؤمن بدون تمييز. وتتحدث عن المنافِقة والمنافِق بدون تمييز. والكافرة والكافر كذلك. ومع ذلك، تم تخصيص الحديث عن المرأة في حوالي 10 سور، منها سورتان عُرفت إحداهما بـ “سورة النساء الكبرى” وهي سورة النساء، والأخرى بـ “سورة النساء الصغرى” وهي سورة الطلاق. (بقية السور هي: البقرة، والمائدة، والنور، والأحزاب، والمجادَلة، والممتحَنة والتحريم). وفي جميع هذه السور بلا استثناء:

1- تحريم مطلق لظلم النساء في الحقوق الزوجية، والملكية الشخصية، وحق اختيار الزوج، والطلاق، والميراث.

2- مساواة كاملة في المسؤولية الاجتماعية (في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقاسم الثروة عبر الصدقة والزكاة، إلخ.)

3- مساواة كاملة في الأجر على الطاعات والعبادات (في الصلاة، والصيام والقنوت والصدقة وحفظ الفرج وذكر الله، إلخ).

4- بل توجد حالات يجعل فيها القرآن مكانة المرأة أعلى وأفضل من درجة الرجل (حين تكون أمّا، أو مؤمنة مع زوج مشرك).

5- ولا توجد أي آية تمتهن وضع المرأة كامرأة[1].

بالتالي، لا يمكن فهم آية القوامة أو فهم آيات الحور العين أو آيات الميراث، خارج هذا السياق الذي يتعاطى مع المرأة بنفس التعاطي مع الرجل:

فنموذج القوامة كان هو النموذج الاجتماعي القائم عند نزول الوحي (في السياق الثقافي والاجتماعي لما يسمى بالجاهلية)، باعتبار أن الرجل كان هو الذي يعمل والمرأة كانت في البيت (باستثناء بعض الحالات الاستثنائية مثل تجارة خديجة بنت خويلد). وهو نموذج لا يستبطن في جوهره امتهانا للمرأة وإنما تقاسما للأدوار الاجتماعية. وجاءت كل الآيات القرآنية المتعلقة بالنساء فيه بالمنع الواضح والصريح لظلم المرأة: وأد البنات، والتحقير والشعور بالعار لمجرد ولادتها، والتمييز في الميراث، والإكراه على الزواج، والظلم في العلاقة الزوجية والطلاق والمعاشرة الزوجية وتعدد الزوجات، والتضييق في النفقة، واتهام الأعراض، والانتقاص من الدور الاجتماعي لمجرد كونها في البيت من خلال تعظيم دور الأم ودور الزوجة الراعية لبيتها، إلخ).

وكذلك لذائذ أهل الجنة في القرآن (الحور العين، وما تبعها)، لا يمكن القول إنها مخصصة للرجال، باعتبار أنه لا فضل للرجل يوم القيامة لمجرد كونه رجلا، فكيف تتمتع بفضل على شيء لم تختره بنفسك؟ فالجنة في الرؤية القرآنية مستحَقّة بالأعمال والأقوال والسلوكيات، وبالتالي فهي نتيجة اختيار فردي، وليست مستحَقة لمجرد أنكَ وُلدتَ رجلا أو غير مستحقة لمجرد أنكِ وُلدتِ امرأة.

أما آيات الميراث، فهي أيضا تُفهم على أنها داخلة في سياق النموذج الاجتماعي السائد في عصر النبوة، وهو نموذج قوامة الرجل، لأن البيئة حينها كان الرجل يعمل فيها ويوفر الرزق، والمرأة متفرغةً في البيت لرعاية الأسرة. وبهذا المنطق، فتوريث المرأة بدون أن يُطلب منها الإنفاقُ من مالها يمثّل تحريما لظلمها بحجّة أنها لا تعمل، وإقامةً للعدل بمنحها حقها المالي، ولا يطالبها بالإنفاق من مالها الخاص، بينما يعطي للرجل ضعف ميراث المرأة ويطالبه وجوبا بالإنفاق منه عليها وعلى بقية أسرته.

أما في عصرنا، فقد تغير النموذج الاجتماعي والاقتصادي جذريا، وأصبحت المرأة تعمل تماما مثل الرجل خارج البيت، وبالتالي، فلا بد من فهم آيات الميراث على ضوء هذا التغير الاجتماعي. وليس في هذا إنكار للنص القرآني وإنما فهم مقاصدي له في سياقه.

أربع مقاربات مشروعة للحوار والجدل حول الميراث:

توجد أربع مقاربات تدعو لإعادة النظر في المواريث، كلها في اعتقادي مشروعة طالما أنها ترمي لهدف واحد، هو تحقيق العدالة الاجتماعية، في وضع اجتماعي معاصر يرى كثيرون أن الفهم الفقهي التقليدي لأحكام المواريث لا يأخذها بعين الاعتبار. وهذه الأطروحات الأربع لها أساس منطقي/عقلي ولغوي/تاريخي سليم، فضلا عن تناغمها مع روح القرآن. والحوار حولها يقتضي قبل كل شيء إزالة الحاجز النفسي بين النخب الفكرية وتجنب الأحكام المسبقة والاتهامات المتبادلة وتطوير فهمنا البشري للنص القرآني.

  • المقاربة الأولى:تتركز حول مفهوم الوصية

وترى أن الوصية في القرآن هي الأصل وآيات الميراث فرع عنه لمن مات ولم يكتب وصية. وهذه مقاربة قرآنية سليمة لها مشروعيتها. ويمكن الجدل العلمي حولها. فحين نتأمل القرآن بآياته كلها، وننزع عن ذهنا فكرة النسخ في القرآن. فسنجد أن الوصية ضرورية وواجبة على كل مسلم بدليل النص القطعي: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ”.

والوصية سابقة على الدَّيْن: من بعد وصية يوصي بها أو دَين. ثم ما فَضل عن الوصية وإخراج الدَّين، يوزع وفق آيات المواريث التي هي نفسها تتضمن: من بعد وصية يوصي (أو يوصى) بها أو دَين. وعليه، يكون الإرث وفق النص القرآني:1- توزيع الثروة كما جاء في الوصية. 2- إخراج الدَّين. 3- تطبيق آية المواريث من بعد الوصية والدَّين.4- الصدقة لأولي القربى والمساكين والذين حضروا القسمة بصفة عامة.

  • المقاربة الثانية لغوية منطقية

وترى أن الفهم اللغوي والمنطقي لآية الميراث وخصوصا (للذكر مثل حظ الأنثيين) تحمل معاني لغوية صحيحة يمكنها أن تؤدي لإعادة النظر في النسب المشهورة تقليديا. وهذه مقاربة محمد شحرور، ويرى فيها أنّ (للذكر مثل حظ الأنثى) تعني أن حظ ولد يساوي حظ أنثى. و(للذكر مثل حظ الأنثيين) تعني أنّ (حظ ولد يساوي حظ الأنثى 1، يساوي حظ الأنثى 2)، وأننا في اللغة العربية حين نريد التعبير عن أن للذكر الضعف، نقول: (للذكر ضعفُ حظ الأنثى).

وهي أيضا مقاربة قرآنية سليمة لها مشروعيتها. ويمكن الجدل العلمي حولها. وهي بالنسبة إليّ مقاربة غير مسبوقة، ولكنها تطرح إشكالين اثنين:

أوّلهما لغوي: فما هي استعمالات عبارة “مثلُ حظّ” في اللغة العربية، أيام الجاهلية وفي عصر النبوة؟ لم أجد في كتب اللغة شواهد شعرية أو أدبية لاستعمالاتها، كي أتأكد إن كان هناك ما يُسنِد فهم شحرور للعبارة، أو ما يخالف فهمه. وشحرور قال في أحد الفيديوهات إنه سأل أشخاصا من المغرب والجزائر ومصر والسعودية ولبنان عن المقصود بعبارة (اعطيتك مثل حظ أصحابك). وقالوا أن المعنى هو أن الجميع حصلوا على حدود متساوية.

نعم، هو سألهم. ولكنه سألهم بلغة القرن 21 وأجابوا بلغة القرن 21، وليس بلغة الجاهلية والقرن الأول للهجرة. ومعاني اللغة تختلف أحيانا حسب الاستعمال وحسب الزمن. مثل كلمة “السيارة” في سورة يوسف: (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ). فالسيارة في عصر النبوة تعني: بعض مارّة الطريق من المشاة أو قوافل الإبل. بينما في عصرنا، السيارة هي الآلة المستعملة للركوب.

إذن، ما يجب البحث عنه هو شواهد اللغة من البيئة النبوية لعبارة (مثلُ حظّ الأنثيين).

الإشكال الثاني وهو الأهم عندي: يجب أن نبحث عما إذا طُبّقت هذه الآية (للذكر مثل حظ الأنثيين) في عصر النبوة أم لا. وإذا طبّقت، فكيف فهمها النبي وكيف طبّقها؟ لأن فهم النبي وتطبيقه هو المرجع الوحيد. وإلا، فلو فهمها النبي بشكل مخالف وقلنا بخطإ فهمه، فستكون كارثة أن نخطّئ النبي في فهمه، وهو المرجع الأساسي في الفهم والبيان والبلاغ.

بحثت مطوّلا في كتب الحديث والتراث ولم أجد أي حادثة طبق فيها النبي آية (للذكر مثل حظ الأنثيين) مع وجود حالة ابن وابنتين. وإنما وجدت أنه طبّق حالة (تعتبر من أسباب نزول الآية)، وهي وجود ابنتين بدون ابن. وهذا لا يسعفنا كثيرا في فهم المراد.

نعم، الحالة الوحيدة المروية في التراث، هي قصة الربيع بن سعد (من أهل المدينة، وهو مشهور بمؤاخاته مع عبد الرحمن بن عوف المهاجر). حين استشهد سعد بن الربيع في غزوة أحد (سنة 3 هجري) استحوذ أخوه على الميراث، حسب التقاليد القبلية في ذلك الحين. فجاءت امرأة سعد بن الربيع للنبي (ص) بابنتيها من سعد، فقالت: “يا رسول الله، هاتان بنتا سعد، قُتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا. وإنّ عمّهما أخذ مالهما، فلم يَدَع لهما مالاً. ولا تُنكَحَان إلا ولهما مال”. فقال النبي محمد (ص): “يقضي الله في ذلك”. فأُنزلت آية “وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا”. فبعث إلى عمهما فقال: «أعطِ بنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك”.

  • المقاربة الثالثة أصولية مقاصدية

وترى أن أحكام المواريث ينظر فيها للمقاصد الاجتماعية، وأن آيات المواريث جاءت لتصحيح وضع اجتماعي جاهلي كان يحرم المرأة من الميراث، باعتبار أن القبيلة العربية كانت تمنح الإرث للابن الذكر الأكبر سنا في العائلة، أو للشجاع المقاتل في الحروب. وللوارث بعد ذلك أن يوزع التركة حسب رغبته على إخوته وأمه وأقاربه. وجاءت المواريث لعلاج حالات وسيناريوهات اجتماعية واقعية في عصر النبي في مجتمع المدينة، والأصل أن يقوم الفقهاء بإعمال الاجتهاد حين تتغير أحوال المجتمع.

وإلا، فكيف نفسّر قبول أغلب المسلمين بإنفاق المرأة على نفسها وبالمشاركة في الإنفاق على الأسرة، وفي بعض الأحيان تكون هي العائل الوحيد للأسرة لسبب من الأسباب، رغم وجود نصوص صريحة في القرآن (شبيهة بآيات المواريث) على وجوب إنفاق الرجل على المرأة؟ فهذا يعني أنّ من يقبل بنفقة المرأة على أسرتها في مجتمعنا الحديث نظرا لصعوبة الواقع الاجتماعي رغم وجوب النفقة على الرجل حسب النص القرآني، يجب أن يقبل المساواة في الميراث لنفس الأسباب.

وهذه المقاربة يدعو لها طارق رمضان السويسري، وعبد الوهاب إرفيقي المغربي. وهي أيضا مقاربة قرآنية مقاصدية سليمة لها مشروعيتها. ويمكن الجدل العلمي حولها.

  • المقاربة الرابعة مدنية سياسية، في إطار الدولة المعاصرة

وترى أن الوضع الجديد الذي خلقه مفهوم المساواة في المواطنة، للمسلمين وغير المسلمين (أو لنقل: غير الراغبين في الخضوع للأحكام القرآنية أو الأحكام الفقهية السائدة) يستوجب وضع إطار عام يستوعب الجميع. وهذه مقاربة سياسية مدنيةـ تخضع للجدل والتدافع السياسي الديموقراطي. ودور الطبقة السياسية أن تجد الإطار العام الذي يمثل مشتركا عاما بين المواطنين، بدون فرض أو إجبار.

تونس، مثلاً، دولة مدنية يعيش فيها المسلم المتدين والمسلم غير المتدين، والملحد وأقليات دينية أخرى.وفي الدولة المدنية، الأصل أن ننطلق من مبدأ المساواة بين المواطنين، بمعنى: لا تمييز للأغلبية على حساب الأقلية، ولا تمييز للرجل على حساب المرأة، أو لمتدين على غير متدين. ويفترض أن تتم هذه المساواة بين المواطنين في الأجر الوظيفي، والحصول على الوظيفة، والخدمات، والميراث وغير ذلك، ثم تبحث الدولة المدنية عن إعطاء كل فرد أو جماعة الاستثناءات التي تحقق حريتها وحقوقها الدينية. ولذلك، مثلا، تفرض المساواة في نظام الميراث كأصل، ثم تعطي كل فرد أو جماعة حرية طلب الاستثناء بما يوافق معتقداته الدينية.

في الدولة اليمينية المحافظة على الهويات الثقافية والدينية والقومية والإيديولوجية، يتم تمييز الأغلبية على حساب الأقلية، وعضو الجماعة/الحزب على غير العضو، والرجل على المرأة. ثم تبحث هذه الدولة عن خلق استثناءات تسمح للأقليات بممارسة حرياتهم بما لا يخرق النظام العام للأغلبية. ولذلك، مثلا، تفرض نظام ميراث الأغلبية كأصل، ثم تعطي الأقلية حرية طلب الاستثناء.

أنا شخصيا مع الدولة المدنية، دولة المواطنة الكاملة. ولست مع دولة الهويات، ودولة الأغلبية. في كندا (التي أعيش فيها منذ عشرين سنة)، الإطار العام للميراث هو الوصية التي تحدد رغبة المورِّث، والتي تصبح نافذة إن وجدت. وعند غيابها، يقسّم الميراث بالتساوي بين الورثة.وفي الوصية، كل شخص حر في توزيع ميراثه. وللمسلم أن يكتب وصيته بنفس طريقة تقسيم المواريث المعروفة تقليديا. وهذا يسمح قانونيا للمسلم وغير المسلم أن يتخير طريق توزيع ميراثه بما يوافق معتقده الديني أو رغباته الشخصية.

هذه إذن الأطروحات الأربع، وأعتقد أن لها أساسا منطقيا ولغويا وتاريخيا سليما ومتناغما مع روح القرآن ومقاصده. وأي قمع للحوار العلمي حول أيٍّ منها هو فرض للرأي الديني على الآخرين خصوصا أنها، وكما قلت، ليست من الثوابت الدينية وإنما من المعاملات الاجتماعية الخاضعة للرأي والاجتهاد. والديموقراطية ليست مجرد قضية تصويت بالأغلبية، أو مسألة تصويت بحرية في فترة استقرار، بل هي في جوهرها حوار وانفتاح ذهني على الآراء ودراسة هادئة لزوايا النظر المختلفة، واستدلالاتها وحججها المنطقية، وتبعاتها الاجتماعية والاقتصادية، في فترات التغيير الجذري للواقع، وتهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المعرفة والوعي لدى المواطنين، وتحسين نموذج الدولة المعاصرة التي يتعايش فيها المواطنون ويتعزز انتماؤهم لها.

  1. وهنا تذكير ببعض الآيات التي تمثل قواعد عامة تؤطر وضع المرأة الاجتماعي والديني:

    – وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

    – وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

    – يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

    – وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً

    – وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا

    – مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

    – إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا

    هذه الآيات وغيرها تشكّل إطارا عاما واضحا في وضع المرأة، ليس فيه تمييز أو مفاضلة بين الجنسين،بل مساواة مطلقة بينهما، في كل نواحي الحياة: في المسؤولية الدينية أمام الله، والواجبات الأخلاقية، والمسؤولية الاجتماعية في التعامل مع الناس.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، محاكم دينية ، محاكم مدنية ، محاكم دستورية ، تشريعات وقوانين ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس ، حراكات اجتماعية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني