المخفيّون قسرًا يصدحون بالمخفيّ قسرًا


2023-03-23    |   

المخفيّون قسرًا يصدحون بالمخفيّ قسرًا
من معرض "خط زمني"

تُليَ هذا النص كمداخلة في ندوة “40 عاماً وقضية المفقودين ترفض أن تُفقد” التي عقدتها لجنة أهالي المخطوفين والمخفيين في لبنان في 21 آذار 2023 على هامش معرضها الذي أقامته في مبنى جريدة السفيرة بعنوان “خط زمني” بمناسبة مرور 40 عامًا على تأسيسها.

قبل أسبوعين، طلبت مني وداد أن أكون على هذه الطاولة، وأحكي عن موقع لجنة الأهالي وقضية المخطوفين في وجدان الناس، أولاً بصفتي ناسًا وثانياً بصفتي صحافية شهدت (من السفير) على الحملة وانغمست فيها على بحر 22 سنة. وبالتالي، فإنّ النص الآتي سيكون مزيجاً من الشخصي والاجتماعي والسياسي، كقضية المخطوفين.

قبل 23 سنة، أي بعد 17 سنة من انطلاق الحملة بهمّة الأهالي، وقفتُ للمرة الأولى في حياتي أمام الناس أقرأ نصًّا، في نقابة الصحافة، في ذكرى اندلاع الحرب الأهلية، بعد 10 سنين على انتهائها. فقد أخذت لجنة الأهالي على عاتقها تحويل ذكرى اندلاع الحرب من يوم البوسطة إلى يومٍ مطلبي يستحضر المخفيين قسرًا، لا بل كلّ المخفيّ قسرًا.

يومها، لم أفهم الحكمة في ذلك وتعايشت مع واقع الأمر. ولكن مرور السنين علينا هنا أوضحها لي، وأوضح لي أنّ بقائي منذ تلك اللحظة بالقرب من لجنة الأهالي كان سعيًا فرديًا منّي نحو السويّة في مجتمع ما بعد الحرب، وهو ما سأحاول أن أوضحه في هذا النص.

قبل 23 عاماً، كنت في الثانية والعشرين من العمر، عشت حربًا كحدثٍ خاص وهي حدثٌ عام، لم يُخطف لي عزيز أو غالية، وبالتالي لم أرَ نفسي كجزء من الضحايا، كواحدة من الناس الذين ليسوا “الأهالي”.

جلست إلى مكتبي هنا في السفير، وسعيت لاستبدال آلية عملٍ قوامها “النسيان وإهمال معاش الحرب والتخفيف المنهجي من وطأته”، بآلية جديدة تنتج نصًّا، وقوامها التذكّر، وذلك كرمى للمناسبة فقط. وإذ بالكتابة تقودني إلى قناعةٍ مختلفة.

هنا مقتطف مما كتبته يومها:

أذكر الكابوس الذي راودني لسنوات طويلة لا أعرف عددها، بشكل يومي، مشهد قذيفة تخترق وجهي ما أن أرفعه من وراء سرير جدتي..

أذكر جارتنا التي كانت تخبّئ رأسها تحت طاولة المطبخ وتنصرف إلى ابتلاع كمّ هائل من الحبوب المهدئة، يوميًا..

أذكر، وأنا في الخامسة من العمر، وفاة ابنة خالي التي فصلت شظية إسرائيلية رأسها عن بقية جسدها، وهي في السابعة عشرة من العمر، بينما بيتنا يتعرّض للقصف، وخالتي تخبّئني تحت جسمها، وأنا ألهث وأكرر: ما بدي موت..

أذكر الحد الفاصل بين اللهو والحقيقة: أذكر مسدس شقيقتي اللعبة الذي شهرته مرة على البلكون وكنّا نلعب “حرب”، فبادرتها ميليشيات الحيّ برصاصات حقيقية كانت قادرة على أن تقتل..

أذكر أصوات الراجمات الأخيرة التي سمعناها، راجمات عون وجعجع وسوريا.. كنت أسمعها من بطني، أشعر بها من بطني، تمامًا كما يصدح صوت المغني من بطنه.. كان صوتًا تمنّيت حينها لو أموت فلا أسمعه..

في الحرب، كانت خالتي تصوم ولا تفطر، شقيقتي تدرس ولا تنجح، خالي يتقدّم في السن ولا ينتج، كانت ابنة خالي تموت ولا تحارب، كان أبي يتصل ولا يسمع، وكنت أنا أسأل ولا أفهم، أخاف ولا ابكي.. فأصبحت من أصحاب النكات الدائمة، كائنًا هستيريًا، يريد أن يُضحك كي يَضحك..

كنت أخاف أن أنام وحدي في السرير، أخاف أن تخرج أمي ولا تعود، كنت أرى فيها دائمًا واحدًا من مسبّبات ارتفاع عدد الضحايا، وأرى فيها أيضًا مدعاة دائمة للحداد.. بكيت وفاة أمي وهي حيّة.. بكيت فقداني لها وهي إلى جانبي، وبكيت كل من أحب لأنّي لم أكن أثق تمامًا بأنّي سأتمكّن من حبّهم بعد ساعة..

وانتهت الحرب..

وعدنا إلى المدرسة..

ونسيت تمامًا كل شيء.. نسيت ولم أرد أن أتذكّر.. نسيت أمي وأختي وابنة خالي وخالتي.. وقلت: أنا الأقوى، وسمعت أنني المستقبل، فاندمجت..

الحرب كانت طويلة جدًا ومرت بسرعة جدًا.. كانت أطول من كلّ ما تبقّى من عمري.. فنحن “جيل الحرب” وفلتانها.. ولكننا أيضًا جيل الحرب ووجعها غير المفهوم، وجعها الذي لم يرحل قط…

أنا لم أنسَ شيئًا، على عكس ما توقعت.. أنا أتناسى..

أنا أذكر كل شيء.. للأسف.

هكذا انتهى النص تقريبًا، وانتهت معه رحلتي مع النسيان

أظنّ أنّي كنت أعافر مع النسيان، كأيّ إنسان عاش تروما، بينما المسؤولون عن الحرب يروّجون للغد، والمستقبل، كي يثبّتوا صورهم الجديدة فوق بدلهم العسكرية، وينطلقوا في سلطة جديدة وجريمة جديدة. “مدينة عريقة للمستقبل”، هو شعارٌ يعني حرفياً: قفزةٌ رشيقة من ماضٍ سحيق حيثُ عراقة الآثار إلى مستقبلٍ لامع برّاق مرسوم في الصور المنتشرة فوق دمار المدينة وركام ناسها.

أما مشهد الواقع، الذي هو نتيجة الماضي القريب، فلا نراه. نغمض أعيننا عنه. ولذلك، في تلك الفترة، كان الناس يشعرون بأنّ “الأهالي” – يا حرام – موهومون، يظنّون أنّ أقرباءهم أحياء، ولا يعرفون أنّهم قد ماتوا. وظنّ المسؤول الكريم الخلق أنّه بإعلان وفاة المخفيين قسرًا يعطي العائلات حسن ختامٍ يرضون به ويسيسرون أعمالهم وميراثهم العالق. حالةٌ من الغباء الفوقي سادت المجتمع، تُرجمت شفقةً على الأهالي، تستبدل الشفقة على الذات، لا بل الحزن العميق، الحداد الخانق، على سنوات العمر وعلى الأحبّة والأهل، وكلّ ما مضى…

صار أهالي المخطوفين شمّاعة المصيبة، بينما راحت أصواتٌ صاخبة في المجتمع تستحضر ماضي الحرب القريب عبر صورٍ تقدّمه بسعادة. فمن الجنون أن نقترح على شعبٍ أن يتذكّر الفينيقيين ويحلم بالروبوهات، بينما يغمض عينيه عن أمسه ويومه. أتى التسرّب احتفائيًا ليناسب “روح المرحلة”. خطابٌ عام يتمدّد ويسعى لملء الفجوة احتفالًا برجولة السلاح والشهداء والبطولات والهويات. أبطال وقصص وخطف وقتل ومعارك، و”كانت أيام الحرب أحلى أيام”..

كنّا نعاني من حالة عصابية، نرقص على سطحها، بينما مجرمو الحرب ينفضون غبارنا عن ملابس رجال الدولة الأنيقة. وفي صلب حالة الهستيريا الجماعية السائدة، وحدهم الأهالي استمرّوا بمطلبٍ واقعي متوازن، يستحضر الأمس القريب ليعالجه في الحاضر بحيث يؤسس لمستقبل أكثر سوية وتوازنًا. واختاروا يوم اندلاع الحرب ليثبتوا معناه، كجريمة.

بالنسبة إلي، حلّت النقطة الفاصلة في هذه المعادلة لمّا بدأ الخطاب السياسي ينتشي احتفاءً بالذات القيادية على حساب الاحتفال التخديري بالناس. وتحديدًا، لما وعيتُ إلى الأثر الخانق للشعار المجرم: كلّنا جلّادون وكلّنا ضحايا.. (وهو يتكرّر اليوم).

عند هذه النقطة، صار التذكّر والسرد والمعرفة والمحاسبة السكّة الوحيدة للتعامل مع الحاضر. وفي حالتي، كانت كلّها للصرّاحة تتحرّك بدافعٍ محموم هو الانتقام.

أنا وأهلي، نحن وأهالينا، كنّا ضحايا، ولم نجلد أحدًا. عون، بري، جعجع، جنبلاط، إلخ.. كانوا جلّادين ولم يكونوا ضحية أيّ منّا. ما من قانونٍ لمحاسبتهم على جريمتهم كان ليمرّ عبرهم. عفوا بشكل عام عن أنفسهم، وتحجّجوا بوقود الميليشيات، الناس الذين أمسكوا السلاح، ليقولوا إنّنا نعفوا عنهم لأنّنا جميعنا “جلّادون” وبالتالي لن نحاسب هذه الـ “جميعنا”.

وهكذا، سُمّي الميت شهيدًا، ليُنسى. وسُمّي الجريح محظوظًا لبقائه على قيد الحياة وحزينًا لأوضاعه الاقتصادية، فصار مطلبًا ووعدًا وسوف.. والجماعة تريد أن تنسى، والشباب يريد أن يبدأ.

ولأنّنا كنّا منهكين، ولأنّ السلم طحش فجأةً مع سنّ الرشد، هرعنا جميعنا باتجاه الغد الأفضل، مثلما كانت الشعارات تقول، نتخانق حول معنى أفضل: يسار ويمين، وسوريين وإسرائيليين، كأنّنا فعلًا نعيش حياةً سياسية ناشطة، بالرأي والرأي الآخر. لكن في واقع الحال، كان الشريط مستمرًا، من ربحوا الحرب مستمرّون، ومن خسروا الحرب إما في السجن أو المنفى الباريسي، حتى انفجرت معادلة الرابح والخسران في 2005، وأفرج عن الجميع ليعودوا إلى المشهد، وراح الزمن يعود بنا إلى الوراء، حتى وجدنا أنفسنا اليوم في ظلّ بري وجنبلاط وعون وجعجع.. في الحال التي أنتجتهم جميعًا: الانحطاط والقلّة والانفجار. وقد سُمّي مستنقع ازدهارهم اليوم باسم: الانهيار.

في وسط هذه المعمعة الزمنية، هذه الدوّامة التي يكاد لا يستيقظ منها سكان هذا البلد، لم يبق في الميدان إلّا المخطوف، المخفيّ قسرًا، الذي أبقى السؤال معلّقًا، وأبقى الأمس حاضرًا في اليوم. خطٌّ زمني نعم، هو الخط الوحيد الذي ربط أزمنة هذا البلد الحديثة.

وقد بقي في الميدان لأنّ لجنة الأهالي أبقت ناسها في الميدان. انسوا بقدر ما شئتم، ابنوا بقدر ما شئتم، أعيدوا إنتاج صوركم، أعيدوا كتابة قصصكم، لكن لنا أحبّة مخفيين، لن تدهسوهم في طريقكم، لن تدهسونا في طريقكم. وفي كلّ سنة، اخترعت اللجنة طريقة جديدة للتذكير، وصورة جديدة لحفر الذكرى في عين الحاضر، مرّة بالكلام ومرّة بالصورة ومرّة بالشعار، مرّة بالاعتصام، ودائمًا بالتشبيك والتحالف والمقارنة مع تجارب العالم.. معركة ضد النسيان، ولكن أيضًا ضدّ إعادة إنتاج التاريخ بطريقة تبقي المظلوم مظلومًا والظالم حاكمًا. معركة لأجل المخفيين، ولكن أيضًا لأجلنا جميعًا. فهو حقّنا بأن نعرف ما جرى ويجري لنا أيضًا، حقنا بأن نكون ضحايا، فنحن لسنا جلادين.

بالتالي، وفي واقع الحال، رغم كلّ المواجهات السياسية والتظاهرات والمقالات والعداوات التي خضناها كشباب مع النظام الحاكم منذ انتهاء الحرب، قضية المخطوفين هي المواجهة الوحيدة التي وضعت العين بالعين وقالت للمجرم إنّه مجرم وإنّ قصّته لم تبدأ اليوم، أو في سنة التسعين، وإنّما بدأت لمّا حرق البلد وناسه على مدى 15 سنة، ثم حصل على السلطة كرشوة لوقف الحرق والتخلّي عن متعة الجريمة وسلطتها.

إحساسي اليوم، لمّا أرى المشهد كاملًا، يشبه بالزبط ما أحسسنا به في صباح اليوم التالي لانفجار مرفأ بيروت: هؤلاء المجرمون لا يستحقون إلّا الانتقام. وأداته هي المعرفة.

أن نبقيهم دائمًا متهمين بجرائم حرب، حتى وهم يملأون المنابر بخطابات عظيمة. أن نبقيهم دائمًا كصنّاع المزابل والمتاريس عند مفترقات الشوارع، وهم ينتقلون بثيابهم الباهظة بين العواصم والمطاعم.

اللجنة قدّمت لنا خطّ لبنان الزمني الذي يسعى مجرمو الحرب والسلام إلى تفكيكه وطمس تماسكه، ليبدو وكأنّه أحداث متفرقة، لكلّ جريمة صدفة وسياق، بدلًا من أن تبدو جريمة منظّمة، واحدة، ومستمرّة، يقدّم أهالي المخطوفين، بأجسادهم وأذهانهم وحمضهم النووي، الدليل الدامغ عليها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

اختفاء قسري ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني