اللّجوء إلى صندوق النقد الدولي: ضرورة إصلاحيّة أم مقدّمة لأزمة سيادية تُفضي إلى انهيار أكبر؟


2020-04-11    |   

اللّجوء إلى صندوق النقد الدولي: ضرورة إصلاحيّة أم مقدّمة لأزمة سيادية تُفضي إلى انهيار أكبر؟

كثُرَ الحديث في الأيام الأخيرة عن إمكانية – أو حتمية – اللجوء إلى صندوق النقد الدولي (IMF) للتصدّي للأزمة المالية والنقدية الخانقة في لبنان. ضغوطات الدين العام متصاعدة بلا هوادة، وتتصاعد معها النداءات لوضع “خطة إنقاذ اقتصادية” قادرة على إخراج الدولة من مأزقها وتفادي الانهيار الكامل. يسود هذا الحديث حالة فزع وهلع جماعية يواكبها ارتباكٌ كاسح من التداعيات المحتملة لهذا المسار. ففيما يصرّ البعض على ضرورة اللجوء إلى صندوق النقد بصفته المنقذ من الأزمة، يذهب آخرون إلى التحذير من أنّ هذه الخطوة سوف تمثل آخر مسمار في نعش الاستقلالية الوطنية وارتماءً على طاولة الإملاءات الخارجية التي تهدف إلى إخضاع لبنان لنهج النيولبرالية المطلقة تحت الرعاية الأميركية.

في ظل حالة الإلتباس هذه، نحاول هنا تسليط الضوء على تاريخ وممارسات صندوق النقد الدولي، بهدف توضيح القضايا والأسئلة الأساسية التي يطرحها خيار اللجوء إليه.

تأسيس وتطوّر صندوق النقد الدولي

كثيراً ما يُطلَق مصطلح “مؤسستا بريتون وودس” على ثنائية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، نسبةً للمؤتمر الدولي الذي انعقد في العام 1944، والذي هدف إلى إعادة هندسة المنظومة الاقتصادية والمالية الدولية سعياً لتفادي المزيد من الكوارث الاقتصادية كتلك التي عصفت بالعالم على مدى النصف الأول من القرن العشرين وخلقت مناخاً خصباً للحروب الشاملة المُهلِكة. فتأسست هاتان المؤسستان نتيجة الاتفاقية التي نجمت عن ذلك المؤتمر، وأُنيطت بهما مسؤوليات وصلاحيات متشابكة ومتكاملة.

كُلّف البنك الدولي بالإشراف على إعادة الإعمار في أوروبا إثر الحرب العالمية الثانية؛ بينما أُنيطت بصندوق النقد الدولي مسؤولية الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي في العالم، من خلال الإشراف على أسعار الصرف المربوطة بالذهب في ذلك الحين، وتوفير السيولة عند الضرورة لدولٍ تواجه ضغوطات على ميزان مدفوعاتها، بالإضافة إلى إقراض الدول الأعضاء إذا كانت بحاجة إلى تحفيز إجمالي الطلب (aggregate demand) في أسواقها الوطنية تجنباً لركود الإقتصادي أو تخفيفاً من وقعه. وبعد فك ارتباط سعر الدولار بالذهب في عام 1971 والانتقال إلى أسعار صرف متحركة، تبدّد دور الصندوق فيما يتعلق بالإشراف على أسعار الصرف، وباتت مسؤوليته الأكبر هي الحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي الدوليين. وكما يشير الاقتصادي البارز والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد جوزيف ستغلتز، هنالك مفارقة كبيرة في كون فكرة الصندوق قد تبلورت إدراكاً لمخاطر إخفاقات السوق الحرة وبناءً على الفكر الكينزي (نسبة إلى عالم الإقتصاد البريطاني جون مينارد كينز) المرتكز على ضرورة الإشراف والرقابة على السوق، بينما أصبح الصندوق فيما بعد من أبرز دعاة هيمنة السوق المطلقة.

اليوم، يتمحور عمل الصندوق في ثلاثة مجالات:

  • أولاً، مسؤوليات الرقابة، حيث يتابع السياسات والتطوّرات الاقتصادية والمالية على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية ويُجري تقييمات منتظمة للتطورات العالمية المحتملة من خلال تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” الذي يصدر سنوياً.
  • ثانياً، تنمية القدرات والمساعدة التقنية، حيث يقدّم الصندوق المساعدة الفنية والتقنية لمعاونة البلدان الأعضاء في بناء مؤسسات اقتصادية حديثة وفعّالة.
  • ثالثاً، برامج الإقراض، حيث يقدّم الصندوق قروضاً للدول الأعضاء التي تمرّ بأزمات متعلقة بميزان المدفوعات (balance of payments)، أي أنها تواجه تحديات في تمويل استيراداتها الأساسية وتواجه ضغوطات على عملتها الوطنية، على أن ترتهن هذه القروض بشروط متعلقة بالإصلاح الاقتصادي المتّفَق عليها مع الدولة المعنية.

في المقابل، يُعنى البنك الدولي بتمويل مشاريع واستثمارات تنموية في الدول النامية بهدف تعزيز قدراتها والقضاء على الفقر المدقع. وتمويل هاتين المؤسستين يأتي من مساهمات الدول الأعضاء التي يبلغ عددها 189 دولة، أي من المال العام وليس من أي مال خاص.

أبرز الانتقادات والمخاوف: انتهاك السيادة وخدمة مصالح الدائنين وأصحاب رؤوس الأموال

هنالك محوران أساسيان للانتقادات الموجّهة لصندوق النقد الدولي. المحور الأول يتعلق بدور مزعوم للصندوق في انتهاك سيادة الدول التي تقترض منه، حيث يعتبر البعض بأن الديون المُثقَلة بشروط قاسية تحت مُسمّى “التعديل البنيوي” أصبحت أداةً للهيمنة الإمبريالية ووسيلةً خفية لوضع اليد على السياسات الاقتصادية والخارجية في البلدان النامية. هنا، يحاجج المفكّر الاقتصادي والباحث الرئيسي بجامعة سنغافورة الوطنية علي القادري أنّ تركيبة المديونية في دول الجنوب العالمي أصبحت بمثابة استثمارٍ اقتصادي سياسي من قِبَل الدول الكبرى، وخصوصاً في تطبيقها على الدول العربية التي أصبحت ساحةً للصراعات الدولية والإقليمية، بحيث أنّها “استثمارٌ في احتواء القرار والقدرة السياسية والعمل السياسي المناهض للإمبريالية في المنطقة”. وبإمكاننا أن نستشفّ استمرارية واضحة ما بين السياسات التاريخية لقوى الاستعمار وممارسات المؤسسات المالية الدولية الحديثة، آخذين تجربة مصر في القرن التاسع عشر كمثال ذي دلالة على ذلك. فقد أدت استدانة الدولة المصرية من الدول الأوروبية في ذلك الحين إلى تسليم القرارات المتعلقة بخزينتها إلى هذه القوى بعد تخلّف الدولة عن سداد الديون، ومن ثم إلى “الإعفاء من الديون” مقابل التنازل عن حق التحكّم بقناة السويس، وانتهاءً بعد ذلك بالاحتلال العسكري بحجة الحفاظ على الممتلكات الأوروبية. وهكذا يلعب الاقتراض دوراً أساسياً في تقييد الخيارات السياسية-الاقتصادية لدولٍ سيادية (ولو شكلياً)، ويمهّد لإخضاعها لمنظومة مالية واقتصادية دولية تابعة لمصالح الدول الكبرى التي أنشأت هذه المنظومة.

ولا يفوتنا، في هذا السياق، التذكير بالخصائص اللافتة لهيكلية الصندوق، لا سيّما أنّ للولايات المتحدة الأميركية 16.5% من مجمل حقوق التصويت في مجلس إدارته، ما يمنحها وحدها حق “الفيتو” على قرارات المجلس الهامة التي تحتاج إلى أغلبية 85% من أصوات المجلس لتمريرها، الأمر الذي يضمن قدرتها على التحكم بالنهج العام الذي يتبعه الصندوق. كذلك يُلاحظ أنّ منصب رئاسة الصندوق يذهب دوماً إلى مسؤولٍ أوروبي فيما تذهب رئاسة البنك الدولي إلى مسؤولٍ أميركي، بينما أعمالهما شبه مقتصرة على الدول النامية في الجنوب العالمي التي لا تملك قدرة فعلية على التأثير في سياساتهما. هذه الخصائص وغيرها قد تثير شكوكاً مشروعة حول استقلالية هذه المؤسسات ومدى تبعيّتها لإرادات الدول الغربية والولايات المتحدة بصورة خاصة، الأمر الذي سوف نتناوله بعمق أكثر عند استعراضنا للمسار التاريخي لسياسات الصندوق وتجارب العديد من الدول معه.

المحور الثاني للانتقادات الموجّهة للصندوق يتعلق بتداعيات السياسات-الإملاءات التي تميّز بها تاريخياً. فغالباً ما يُقال إن نهج الصندوق يأتي بخدمة الدائنين وكبار أصحاب رؤوس الأموال في كافة الدول على حساب الطبقات الوسطى والعاملة، ما يعزّز اللامساواة المتجذّرة وعملية تراكم واحتكار رأس المال لدى طبقة أوليغارشية عالمية ضئيلة. ولتبيان مدى عمق هذه الأزمة، يكفي أن نستشهد بتقرير أوكسفام السنوي حول اللامساواة العالمية، الذي يشير إلى أنه أصبح لدى 2153 ملياردير في العالم ثروة تساوي مجمل ثروات 4.6 مليار إنسان، أي 60% من سكان العالم.

حالات تطبيقية: الأزمة المالية في شرق آسيا، مرحلة “الإصلاح الداخلي”، وتجربة اليونان

في مسعى لتقييم هذه الانتقادات والمخاوف، سوف نستعرض هنا تجارب العديد من الدول التي اضطرت إلى اللجوء للصندوق لمعالجة أزمات مالية واقتصادية حرجة، وصولاً إلى رسم مفاصل المسار التاريخي لسياسات الصندوق وتطوّرها عبر العقود الأخيرة.

مرحلة الثمانينيّات والتسعينيّات: سياسات “توافق واشنطن”

شكّلت السياسات التي سمّيت “بتوافق واشنطن” العمودَ الفقري لنهج صندوق النقد الدولي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. فمع صعود إدارة رونالد ريغن في الولايات المتحدة وحكومة مارغريت تاتشر في المملكة المتحدة، أصبحت الأيديولوجيا الاقتصادية النيوليبرالية هي المهيمنة في المؤسسات الاقتصادية الدولية. واشتدت هذه الهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 ونهوض عهد الأحادية الأميركية. لم يكن الصندوق بمنأى عن هذه التطوّرات رغم كونه قد تأسس على مبادئ معاكِسَة لمنطق السوق الحرة المُطلَق، بل أصبح من أشرس مروّجي الفكر النيوليبرالي في تلك الفترة.

يشيرُ ستغلتز، الذي شغل منصب نائب رئيس البنك الدولي ورئيس قسمه الاقتصادي، إلى أنّ الأركان الثلاثة لسياسات “توافق واشنطن”، التي اعُتبرت بمثابة الحلّ السحري للأزمات المالية والاقتصادية في دول الجنوب العالمي مهما اختلفت أنواعها وأسبابها، هي التقشّف في السياسات الإنفاقية والضرائبية (fiscal austerity)، والخصخصة (privatisation)، ولبرلة أو انفتاح الأسواق المحلية وسوق المال بصورة خاصة (capital market liberalisation). وقد حاجج ستغلتز في كتابه “خيبات العولمة” أنّ هذه السياسات أصبحت بمثابة مقدسات مطلقة لدى المؤسسات المالية الدولية في تلك الفترة، إذ طبقت كوصفات تلقائية من دون الاكتراث للسياق الاقتصادي أو لتداعياتها على أرض الواقع، ما أدى إلى نتائج كارثية في العديد من الدول النامية.

فكان الصندوق يصرّ على الخصخصة في أسرع وقت ممكن كوسيلة لتحفيز القطاع الخاص، حتى في غياب آليّات رقابية وقوانين تنظيمية للقطاعات التي خضعت للخصخصة، ما أدّى فعلياً إلى تبديد الثروات العامة وتركُّزها في أيدي فئات وشركات مقرّبة من الطبقات السياسية الحاكمة التي تدير عملية الخصخصة، أي من دون أن تنال الدولة شيئاً من الإفادة الموعودة من هذه العملية.

كذلك فرض الصندوق على الدول المعنية سياسة لبرلة أسواق المال، أي إزالة القيود والضوابط على المعاملات المالية، بالإضافة إلى العمل على تخفيف الرقابة على القطاع المصرفي، بحجّة أنّ الانفتاح سوف يسهّل عمل القطاع الخاص ويؤدي إلى تخفيض الفوائد وتحفيز الاستثمار في الاقتصاد الوطني. لكن ما حصل في الواقع هو أنّ عملية اللبرلة هذه تركت الدول النامية عُرضةً لمضاربات مالية وضخ مبالغ هائلة في قطاعاتها المصرفية ومن ثم خروجها بدون سابق إنذار بحثاً عن أرباحٍ سريعة (hot money flows)، الأمر الذي حال دون أي استثمار حقيقي طويل المدى في الإنتاج المحلي وترك خلفه قطاعات مالية منهارة ومتأزمة. ومن أسباب ذلك أنّ المؤسّسات الماليّة المحليّة ذات القدرات المحدودة بقيت عموماً عاجزة عن تحمُّل الضغوط الهائلة الناجمة عن هذه التقلبات. ونظراً لغياب أي مبرر مُقنِع لالتزام الصندوق بهذه السياسة التي كادت أن تكتسب هالة القداسة في تلك الفترة، عزا البعض هذا الالتزام إلى إرادة لدى كبار مسؤولي الصندوق ووزارة المالية الأميركية في انفتاح أسواق جديدة للمؤسسات المالية العالمية والمصارف الغربية، من دون اكتراث حقيقي للتداعيات المحتملة على شعوب البلدان المعنية.

وفيما يتعلق بالسياسات الضرائبية والإنفاقية، ارتهنت قروض الصندوق بالتزام الدول المَدينة بسياسات تقشفية قاسية في الإنفاق، حتى في ظل أزمات خانقة تطلّبت تدخل القطاع العام لتحفيز النشاط الاقتصادي في البلاد إلى حين استعادة القطاع الخاص قدرته على الاستثمار والإنتاج. وأصرّ الصندوق على هذه الوصفة حتى في دولٍ لم تكن أمام أزمة دين عام بنيوية لتبرير هاجس الإنفاق غير المستدام. وقد جاءت حصيلة سياسات التقشف كارثية في العديد من الحالات، إذ تفاقم الركود وسبّب انهياراً كاملاً، كما حصل في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وفرض الصندوق لسياسة “العلاج بالصدمة” (shock therapy) على الاقتصاد الروسي. وقد أدت هذه الشروط إلى كساد اقتصادي انعكس في تراجُع في متوسط العمر المتوقع للرجال من64  سنة في عام 1990 إلى 57 سنة في عام 1994، على أثر سياسات التقشف الصادمة التي فككت القطاعات الصحية والضمان الاجتماعي وغيرها من القطاعات العامة.

وربما تُعد تجربة دول شرق آسيا في أواخر التسعينيات أبرز تجربة في هذا الصدد، حيث عصفت بها أزمة مالية في العام 1997 وكثيراً ما يُشار إليها كخير دليلٍ على مخاطر اللجوء إلى الصندوق.

أزمة شرق آسيا عام 1997

في 2 تموز 1997، انهارت العملة التايلندية (البات) بسبب عجز البنك المركزي عن الحفاظ على ثبات سعر الصرف بعد نفاذ احتياطه من العملات الأجنبية. بين ليلةٍ وضحاها، هبطت قيمة البات مقابل الدولار بنسبة 25%. وعلى أثر هذا الانهيار، اشتعلت الأسواق المالية في شرق آسيا ككل، وتطايرت الأموال من المصارف خوفاً من العدوى، الأمر الذي شلّ القطاع المصرفي الإقليمي المتشابك، وأطلق أزمة اقتصادية خانقة هددت الاقتصاد العالمي برمته.

يجادل ستغلتز في “خيبات العولمة” بأن سياسات صندوق النقد الدولي أدّت دوراً محورياً في خلق هذه الأزمة: أولاً، لأن توجيهات الصندوق كانت ساهمت في وضع البنية الاقتصادية والمالية التي أنتجت الانهيار في عام 1997؛ وثانياً، لأن ردة فعل الصندوق وإملاءاته على الدول المتأزمة أدت إلى تعميق الأزمة بدلاً من معالجتها، وجلبت آلاماً اجتماعية واقتصادية مضاعَفة من دون أي مبرر واضح سوى الحفاظ على مصالح الدائنين وأصحاب رؤوس الأموال في وول ستريت.

فيما يتعلق بمساهمة الصندوق في تسبُّب الأزمة، يحاجج ستغلتز بأنّ عملية لبرلَة الأسواق المالية بناءً على إرشادات صندوق النقد ووزارة المالية الأميركية كانت العامل الأساسي والأهم في إنتاج الأزمة. فإزالة جميع الضوابط والقيود على التحويلات المالية في دولٍ ما زالت مؤسساتها المالية محدودة القدرات فتحت المجال لتعرُّضها لمضاربات مالية هائلة المبالغ وقصيرة المدى من قبل المصارف العالمية، غير مرتبطة على الإطلاق بأي إنتاج حقيقي في الاقتصاد الوطني. وتولّد هذه التركيبة هشاشةً في القطاع المالي المحلي الذي يُصبح عرضةً لتقلّبات خطرة لا علاقة لها بإنتاجية الاقتصاد. وبالفعل، انطلقت شرارة الأزمة من مضاربات مالية على قدرة البنك المركزي التايلاندي في الحفاظ على سعر الصرف، ما أدّى إلى خروج رساميل كانت تساوي حوالي 8% من الناتج المحلي الإجمالي من القطاع المصرفي الوطني في عام 1997، و12.3% في عام 1998. وكما يؤكد ستغلتز، من الصعب أن يتحمّل اقتصاد الولايات المتحدة الضغوط الهائلة التي تترتّب على هذه التقلّبات، فما بالك في اقتصاد صغير نسبياً ونامي كتايلاند؟

أما بالنسبة إلى رد فعل الصندوق على الأزمة التي طاولت تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية على وجه الخصوص، فيشيرُ ستغلتز إلى أنّ السياسات الإنفاقية والضرائبية (fiscal policies) والسياسات النقدية (monetary policies)  التي فرضها الصندوق على الدول المتأزمة أدت إلى تعميق الأزمة وجاءت على حساب الطبقات المتوسطة والعاملة. فقدم الصندوق قروضاً بقيمة 35 مليار دولار إلى الدول المتأزمة، وفرض على هذه القروض شروطاً متعلقة بالسياسات المالية والنقدية للدول المعنيّة قيّدت قدرتها على تقرير مصائرها الاقتصادية. فقد أصرّ الصندوق على أن تنتهج الدول المعنيّة سياسة تقشف قاسية رغم كونها أمام ركود اقتصادي يتطلّب تدخّل الدولة لتحفيز إجمالي الطلب وضمان الضرورات الاجتماعية في ظل عجز القطاع الخاص المثقل بالديون والمُقبل على الانهيار. كما أصرّ الصندوق أيضاً على هذه السياسة التقشفية رغم غياب أيّ عجز بنيوي (structural deficit) في ميزانيات الدول المعنية، أي أنها لم تواجه عجزاً متواصلاً ومستمراً في حالة التوظيف الكامل في الاقتصاد (full employment)[1]، علماً بأن هذه المعادلة تُعتبر المؤشر الأساسي لاستدامة الديون السيادية.

وكذلك فرض الصندوق سياساتٍ نقدية انكماشية على الدول المعنية، مطالباً إياها برفع الفوائد إلى نسب خيالية. فعلى سبيل المثال في حالة كوريا، رفع بنكها المركزي نسبة الفوائد إلى 25%، ولم يرضَ الصندوق بذلك فأصرّ على رفعها مجدداً. وارتكزت وصفة الصندوق على حجّة مفادها أنّ من شأن الفوائد المرتفعة أن تجذب رساميل من الخارج وتساهم في إعادة استقرار أسعار الصرف. لكن هذا المنطق يغفل عن عامل الإفلاس، إذ زادت الفوائد الخيالية الضغوط على الشركات المتأزمة أصلاً والمثقلة بالديون. فبحسب بعض التقديرات، عانت 75% من الشركات الإندونيسية من الضيق المالي (financial distress) في هذه الفترة، أي أنها لم تكن قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه دائنيها. وبالحصيلة، حصل انكماشٌ في إجمالي الطلب من خلال التقشف في الإنفاق، وانكماشٌ ثانٍ في إجمالي العرض (aggregate supply) بسبب السياسة النقدية المرتكزة على الفوائد الخيالية، ما أدّى إلى تجذّر الأزمة وتفاقم آثارها على الطبقات العاملة والوسطة على وجه الخصوص.

مسار إصلاحي مع بداية القرن الجديد؟

بعد توجيه جهات مختلفة انتقادات شديدة لنهج الصندوق، لا سيّما عقب سياسة “المعالجة بالصدمة” التي أنتجت كارثةً في روسيا وأزمة في شرق آسيا، أخذ خطاب الصندوق يتراجع تدريجياً عن تمسّكه الدوغماتي بمقدساته الثلاثة، أي اللبرلة والخصخصة والتقشف. فرأى البعض بأنه كان مقبلاً على مرحلة إصلاح داخلي يفُكّ أو على الأقل يُضعِف ارتباطه “بتوافق واشنطن”. وتمثّل هذا المسار الإصلاحي في سلسلة إجراءات لافتة، من ضمنها تأسيس مكتب التقييم المستقل Independent Evaluation Office في عام 2001 للإشراف على ممارسات وسياسات الصندوق. ويشير آدم توز، الأستاذ في التاريخ الاقتصادي في جامعة كولومبيا في نيويورك، إلى أنّ مكتب التقييم حاول الدفع باتجاه إصلاح جذري في إعادة هيكلة الديون السيادية، ولكنه اصطدم بمعارضة قوية من القطاع المالي الغربي، ما أجبره على التنازل عن هذا الطرح. وتدلّ هذه التجربة من جهة على نية الإصلاح في داخل المؤسسة، ومن جهة أخرى على العوائق البنيوية للإصلاح الفعّال الناجمة عن تركيبته الداخلية وخضوعه لضغوطات الدول الكبرى وقطاعاتها الخاصة ولا سيما القطاع المصرفي الأميركي.

وأتت الأزمة المالية الدولية عام 2008 لتحفّز على الإصلاح من جديد، كونها قلبت “المسلّمات” الاقتصادية رأساً على عقب وكسرت الأرثوذوكسيات المعهودة. لم يؤدِّ صندوق النقد دوراً بارزاً في بدايات الأزمة، إذ تركزت تداعياتها على الاقتصادات الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة، فأقبلت الحكومات الوطنية على اتخاذ إجراءات لمعالجتها من دون الحاجة إلى مساعدة الصندوق. إلّا أنه عندما تُرجمت الأزمة بتجميد حادّ في توافر السيولة لدى دول الجنوب العالمي التي لم تملك القدرات الضرورية للتصدّي لهذه الظاهرة بأحادية، تدخّل الصندوق لتوفير الدعم. وعلى عكس تجاربه الماضية، حاول الصندوق إنشاء آليات غير تدخلية لتوفير السيولة، فعرض للمكسيك ولبولندا مساعدة عبر أحد خطوط ائتمانه المرنة (flexible credit lines) الجديدة، أي من دون الاعتماد على برامج “التعديل البنيوي” المثقلة بالشروط القاسية.

كذلك تراجع الصندوق عن موقفه الذي عُرف بالعداء المطلق للقيود المفروضة على تحويلات الرساميل ما بين الدول (ما يُسمى بالكابيتال كونترول)، حيث تبنّى رسميّاً في العام 2012 ضرورة فرض هذه القيود في بعض الحالات تجنباً للتقلبات في السوق التي من شأنها أن تزعزع الاستقرار المالي في دول ربما لا تملك قطاعاتها المالية القدرات المؤسساتية لتحمُّل الصدمات الناجمة عن التدفّق والخروج المفاجئ للرساميل الهائلة، كما حصل في أزمة 1997.

تجربة اليونان ومنطقة اليورو: تكذيب للإصلاح المزعوم أم دليل على العوائق المستمرة؟

لن نتناول هنا أزمة منطقة اليورو وتطوّرها بالتفصيل، إنما نكتفي بالإشارة إلى بعض عناوينها ومفاصلها التي لها دلالة خاصة فيما يتعلق بنهج وسياسات الصندوق، وبخاصة تلك التي أثارت شكوكاً وتساؤلات حول مدى جدّية ادعاءاته بالإصلاح. ومن هذا المنطلق، يمكن أن نلخّص بالقول (بشيء من التبسيط بلا شك) أنّ هذه الأزمة أتت من رحم أزمة 2008 وتحديداً نتيجة خسائر المصارف الأوروبية الباهظة بسبب تمويلها لفقاعة العقارات في الولايات المتحدة التي انفجرت وسبّبت انهياراً في القطاع المالي كاد أن يتهدد بإسقاط الاقتصاد العالمي برمّته، لولا اتخاذ إجراءات طارئة لتفادي هذه النتيجة. فقد سارعت الدول المعنية إلى إنقاذ مصارفها وضخّت مبالغ خيالية من المال العام لإعادة رسملتها، الأمر الذي أدّى بدوره إلى تراكم الدين العام لدى هذه الدول وإثارة الشكوك في السوق حول قدرتها على السداد، خصوصاً حيث خضعت هذه الدول لسياسات البنك المركزي الأوروبي النقدية وفقدت تالياً استقلاليتها النقدية التي قد توفّر ضمانة لقدرتها على السداد.

فكان صندوق النقد أحد الشركاء الثلاث (ما سمّي بالترويكا أو الثلاثي الأوروبي المكوّن من صندوق النقد والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية) الذين تدخلوا لتقديم مشاريع إنقاذ (bailouts) لأربع دول في منطقة اليورو، وهي اليونان وإسبانيا وقبرص وايرلندا. وتميزت هذه المشاريع بكونها فرضت سياسات تقشفية مُهلِكة أدت إلى كسادٍ اقتصادي لا مثيل له سوى في ثلاثينيات القرن الماضي. فقد تقلّص الناتج المحلي الإجمالي في اليونان بنسبة 25% وهي نسبة غير مسبوقة إطلاقاً، وبلغَ معدل البطالة لدى الشباب نسبة 50%، ما تُرجم فعلياً بضياع جيلٍ كامل وإقصائه عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتهجيره إلى دول الجوار بحثاً عن الرزق. والآن بات هنالك شبه إجماع بأن سياسات التقشف سببت تعميقاً مؤلماً للأزمة، وفُرضت تحت ضغط القطاع المصرفي الذي لم يكن مستعداً لتحمّل الخسائر المترتبة على إعادة هيكلة الديون، ولا سيما المصارف الألمانية التي كانت من أكبر دائني الدولة اليونانية.

وفُرضت هذه السياسات بطريقة سلطوية مطلقة. فرغم أنّ الشعب اليوناني اقترع في العام  2015بأغلبية 61.3% لعدم قبول مشروع إنقاذ جديد مُقدَّم من الثلاثي الأوروبي، في تعبيرٍ واضح لرفضه لشروطه التقشفية، وتعبيراً عن تفضيله مسار عدم الدفع والمضي في اتجاه إعادة هيكلة الديون، فُرض مشروع إنقاذ جديد على الدولة اليونانية، بل وبشروط أكثر قسوةً، وكأنها أتت عِقاباً للشعب اليوناني على جرأته في مقاومة مشروع التقشف الذي أفضى إلى إنهاك الطبقات الوسطى والعاملة.

ووصف الاقتصادي البارز ووزير المالية اليوناني السابق يانس فاروفاكس هذه العملية بعملية “خصخصةٍ للأرباح وتأميمٍ للخسائر”، إذ استفادت المصارف من الأرباح الفاحشة في زمن الازدهار بينما فرضت ضرورة إنقاذها على الشعب ليتحمّل ويدفع ثمن خسائرها من خلال سياسات التقشف المهلكة.

قد تكفي هذه التجربة لتكذيب ادعاءات الصندوق بالإصلاح، لكن ما زال بعض الغموض وشيءٌ من الالتباس يحيطان بدوره في أزمة اليورو. فقد صرّح مسؤولو الصندوق في مناسبات عدة أنهم لم يكونوا راضين بالشروط التقشفية التي رافقت مشاريع الإنقاذ المقدمة من الثلاثي. وفي العام 2013، أصدر رئيس قسم الاقتصاد في الصندوق آنذاك أوليفييه بلانشار تقريراً عُدّ بمثابة اعتراف بأخطاء السياسات التقشفية التي انُتهجت في خضم الأزمة. وأحدث هذا التقرير زخماً سياسياً واسعاً في الأوساط المختصة، بحسب آدم توز. ومنذ ذلك الحين، أصرّ الصندوق تكراراً – ورغم الدور الذي أدّاه في أزمة اليورو – على أنه معارضٌ لانتهاج سياسات التقشف أثناء فترات الركود الإقتصادي، نظراً لأرجحية أن تؤدّي هذه السياسات إلى تعميق الأزمة بدلاً من معالجتها. وبات البعض يعتبر أنّ البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية كانا الرُّكنين الأساسيين لسياسات التقشف، وأنّ الصندوق شارك في مشاريع الإنقاذ المعنيّة مع تحفّظات واضحة. لكن هذا الأمر يطرح بدوره تساؤلات حول أسباب مشاركته، وقدرته على مقاومة ضغوط الدول الكبرى، بل وقد تُعتبر تصاريح البراءة نوعاً من التهرّب من المسؤولية.

خاتمة

يتبيّن مما تقدّم أنّ لصندوق النقد تاريخٌ طويل ومعقّد، اتّسمَ بتقلّبات متناقضة في النهج الذي يتبعه. وعليه، يصعب أن نُطلق عليه صفاتٍ ثابتة وشاملة للمراحل المختلفة التي مرّ بها، أو أن نتنبّأ بالمواقف التي قد يتخذها فيما يتعلق بأزمة لبنان. وبعد التراجع النسبي عن مرحلة توافق واشنطن في الثمانينيات والتسعينيات التي تميّزت بهيمنة النيوليبرالية المطلقة، باتت مواقف الصندوق مشوبة بشيء من الغموض والالتباس، خصوصاً عقب أزمة 2008 التي غيرت جميع المعادلات وقلبت الأرثوذوكسيات رأساً على عقب.

لكن رغم هذا الالتباس، تبقى المخاوف جدّية من خيار الدخول في برنامج اقتراض مع الصندوق، وهي مخاوف تنتج عن أي دراسةٍ موضوعية لتاريخ الصندوق أو تحليلٍ لبنيته المؤسساتية. فتجارب العديد من الدول تشير إلى أنّ هكذا برنامج من المرجّح أن يأتي مرتهناً بالشروط التي تقيّد سياسات الدولة وتفضي في نهاية المطاف إلى انتهاك سيادتها من نواحٍ عدّة. كما أنّ ثمة ما يثير تساؤلاتٍ مشروعة حول تبعيّ الصندوق لمصالح الدول الكبرى، لا سيّما في ظل الفيتو الأميركي ونفوذ المؤسسات المالية الكبرى فيه. وإذا رأى البعض أنّ هذه المخاطر لا تُقارن مع واقع الممارسات والسياسات القائمة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، أي أننا يجب أن نقبل بأي تغيير من الوضع الحالي مهما كان شكله، فيجدر التذكير بأن صلاحيات تنفيذ البرنامج المتفق عليه مع الصندوق تبقى في يد الحكومة الوطنية، وإن خضعت لشروط صارمة. وعليه، فالصندوق بجميع الأحوال لن يؤدّي دور المنقذ الأعلى الذي يتمنّاه البعض، ولا بد من المضي على درب الإصلاح الجذري الداخلي بدل الضياع في تمنيات الخلاص الخارجي.

  • نشر هذا المقال في العدد | 64 | نيسان 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

قبح النظام في مرآة المصارف


[1] التوظيف الكامل في الاقتصاد الوطني هو مستوى معدلات التوظيف عندما لا تكون هناك بطالة دورية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

آسيا ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني