اللبنانيون والعقاب الجماعي: عن “الاستثنائية” المفترضة لإجراءات البلديات تجاه السكان الأجانب


2013-07-31    |   

اللبنانيون والعقاب الجماعي: عن “الاستثنائية” المفترضة لإجراءات البلديات تجاه السكان الأجانب

في لبنان مجموعة من البديهيات المترابطة التي يتم تجاهلها في الخطاب العام. هذه البديهياتليست من “الرفاهية الفكرية”، وهنا تقع دلالة غيابها في الخطاب العام، تختصر بأن في لبنان أناساً، إذا ما رأوا فقيراً أو ضعيفاً أو محتاجاً يمشي الى جنبهم، ضربوه أو ضحكوا عليه وتلذذوا بأذيته.
هي أفكارٌ التصويب عليها بسيط، إذا ما حددت. وان بقيت الإشارة إليها وإلى أمثلتها غائبة بشكلٍ شبه كلي عن مساحة الخطاب المهيمن. وهنا تكمن البديهية الأخرى التي يتسم بها لبنان: أن فيه أناسا، ربما يكونون غالبية شعبه، وربما لا، يتم إذلال الضعيف والفقير والمحتاج في جوارهم، فلا يبالون، ولا يصدر عنهم التفاتة. في لبنان سكوتٌ عن القهر.
العقاب الجماعي والمسؤولون عنه
صيغة وجود من يتلذذ في إلحاق الأذية بالضعفاء، وصيغة السكوت العام عن وجودهم، ليستا جديدتين. وبينما تلهو الساحة الصحافية وبعض الساحة الفنية في الاستعارة من الخطاب المدرسي الغربيومن المثقفين الرثين الغربيين من كتبة الأسبوعيات، عن الفاشية والنازية، عبر إنزال كنيتها منهجياً على من يختلفون مع مظهرهم على الساحة اللبنانية(درج تشبيه التظاهرات المناوئة بالنازية، وكلامٌ مثلاً عن “العبوس” في وصف تظاهرات حزب الله)، تجدر الإشارة إلى أن المحرقة، كما حللها أحد أبرز المؤرخين المعاصرين للنازية إيان كيرشاو، لم تنفذها إلا قلة بيروقراطية متطرفة، ولم يكن لجمهور التجمعات الجماهيرية المسرحية والمنضبطة في نورمبرغ من صلةٍ مباشرة بها سوى أن الجمهور كان ساكتاً.لكن الجمهور لم يسكت عنها تحديداً، وهو لم يُعلم بها رسمياً، مع أنه اشتبه بحدوثها، إنما لم تدخل ضمن اهتماماته الأولية في سياق حياته اليومية. أي أن صيغة “مسؤولية” هذا الجمهور تنحصر في لامبالاته بمصير من هم “ليسوا منه”.
هذا التوصيف الذي يقوم به كيرشاو لا يقل رهبةً عن الغاية الحسية التي يسعى إليها الأدباء في استعارتهم للتهم الجاهزة بالنازية. إنما يبقى استعماله محدوداً، من حيث تصنيف الناس وتحديد مسؤولياتهم. هو يعني أن أي قول بأن “وضع اليهود” أو “وضع السريلانكيين” ليس أولوية الآن، يشكل مدخلا مناسبا لإنزال عقابٍ جماعي بالمجموعة المعنية (“اليهود” أو “السريلانكيين”) من قبل القلة القليلة المتشددة. هذا مع العلم أن الناس نادراً ما تُسأل عن رأيها في هذه القضايا، ويعود الأمر كله إلى تسليمهم العادي بقدرة الماكينة البيروقراطية.
الجمهور الواسع، في موضوع المحرقة، ليس عليه أن يكون شديد العنصرية، مع أن العنصرية كانت موجودة. ولا عليه أن يكون شديد “التوتر النفسي”، أو أن يكون معنيا مباشرة بالتعاطي مع “اليهود”. غياب هذه الصفات لا يمنع حدوث المحرقة والظلم الممنهج على مستوى دولٍ عدة وأجهزة بيروقراطية متنوعة كانت تعمل تحت مظلة الرايخ الثالث.
النموذج أعلاه يقول إن الناس ليسوا قطعاناً غبية، كما يريدهم الأدباء البلاطيون والمناضلون ذوو الوعي الطبقي الممتاز، الناس لا تتحمل مسؤولية مباشرة في ما يحدث من مآسٍ لكي تسأل عنها بلغة عارٍ لا يمكن أن يتلمسه من لا يتعاطى مباشرةً مع المجني عليه. لكن الحكم هذا لا يجرد الجمهور الواسع من سببية معينة في حدوث الظلم، والنتيجة تحتم على الجمهور الواسع النظر إلى نفسه وتحمل مسؤولية ما. كما أن النموذج هذا يقول بأن ما حدث لمجموعةٍ معينة من ظلم قد يحصل لغيرها إذا ما اجتمعت المقومات، ألا وهي في حالتنا البديهيتان اللتان عرضناهما أعلاه.
رب حذقٍ من الكثرة الوافرة في الإعلام وفي الأحزاب السياسية يعتبر الكلمات أعلاه مجرد “تنظير”، وقد يتساءل البعض في لبنان: “أين أنا من السريلانكي؟”، “أين أنا من اللوطي؟”، “أين أنا من السوري لأتوجس من المصير نفسه في بلدي؟”، أو يطلق كما اعتدنا على استماعه الى شاشات التلفزيون وفي ساحات الخطاب الشرعي من تصاريح مطَمئنة، مثل “الحق دائماً على السريلانكيات” اللواتي ينتحرن، فهن يعانين من أمراض نفسية في وجه “الكفيل اللبناني”، أو أن “هيبة الجيش فوق كل اعتبار”، أو، في الحالات الأكثر تفهماً، “أن استغلال الأطفال أبدى بالاهتمام من موضوع العنف ضد المثليين”.
حجج ووسائل طمس احتمال وقوع ظلم في وعي الجمهور الواسع كثيرة ومتنوعة، وهي لا تلبس دائماً ثياب التحريف المقصود، بل تأخذ شكل الحجج والمفاهيم التي ترسم منطق الحياة اليومية بهمومها الخاصة والمختلفة. الخروج من “الاختبار اليومي” يصعب أصلاً على العلوم الاجتماعية تحديد أطره، فكيف بمن لم يتخصص مهنياً بهذا التمرين أن يبحر فيه من دون مجهود استثنائي وأن يتَلمس مدى قرب الظلم منه؟
عنف العصابات
تشخيص الظلم ضد الفئات المهمشة وفق هذا النموذج، على أنه يشكل بذرة لتطبيقه لاحقاً على فئةٍ اجتماعية أخرى، ليس بالسهل، كما أنه لا ينحصر في الحال اللبنانية. فملهاة التصنيف المنهجي (التصنيف للتصنيف) والاكتفاء بالتصنيف في معالجة الظواهر الاجتماعية أمر تصعب مقاومته، حتى من قبل خبراء ملتزمين بقضايا اجتماعية عند مقاربتهم مواضيع مثل “العنصرية”، التي تشير إلى ظالم ومظلوم، أو عند الفنانين والمثقفين، بالرغم من ارتكاز مساحاتهم المهنية على عقيدة خصوصيةٍ مفاهيمية وموضوعاتية، يأخذون منها شرعيتهم وتبرير وجودهم ومعالجتهم للمسائل التي يريدونها مختلفة. هكذا، في الإعلام المهيمن في الولايات المتحدة على سبيل المثال، تتغذى النظرة السائدة في موضوع الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية في أحسن الأحوال من صورة التمييز العنصري الذي يمارس ضدهم، بما فيه التمييز غير المباشر الذي يطبع واقعهم اليوم بعد الانتهاء المفترض لمعركة “كبار القوم” التاريخيين ضد التمييز. كما تتغذى غالباً من تصوير “خصائصهم” الإثنية، وتمايزهم عن خصائص “البيض” و”الإسبانيين”، ونتائج هذا التصوير تتراوح بين إنزال صفات التجريم عليهم (العصابات، كره النساء)، وصفات الطبائع التي تُحتذى ذوقاً (موسيقى الجاز) أو حكمةً في الحياة (الرقص، الجنس، إلخ). لكن قليلاً ما نرى معالجات لموضوع هذه الفئة الاجتماعية وتعاطي الفئات الأخرى معها تطرح على بساط البحث ما يتبع من “طبائع” وخصائص “إثنية” عند فئات “البيض” التي تحتك “بالسود”، مقارنةً بغيرهم من “البيض”. وهنا قد تكون مساحة بعض المخرجين ذوي الأصل الإيطالي في السينما الهوليوودية، مثل مارتن سكورسيزي في فيلمه “عصابات نيويورك”، أو روبرت دو نيرو في فيلمه “قصة من البرونكس”، من الاستثناءات في مجال الإعلام والفن الجماهيري في طرحها منهجياً و”مدرسياً”، بلغة السينما، لصورة متشعبة للفئة المُعرفة “بالإيطاليين” في تعاطيها مع “البيض” بتفكيرٍ يحمل التصنيف النمطي (الإيطالي) ليتخطاه. وبالتالي ليست صدفةً أن تعالج هذه الأفلام المسألة من خلال العصابات وأعمال العنف وأن تعج بمشاهد قد تبدو هامشية في وقتهاتَعرض بأقصى حِلاته عنف أبطال الفيلم التابعين “لإثنية” معينة ضد جماعات هامشية في الفيلم. هي حال مشاهد العنف العنصري ضد “السود” و”خدم” الأغنياء في فيلم “عصابات نيويورك” التي تَخرج عن سرديته الأولية عن صراعٍ إثني بين “الأصليين” والمغتربين “الايرلنديين”، فتقول لنا إن العنف الأكثر ظلماً لا يبرز فقط وبالضرورة ضمن سردية الصراع الكبير والأزلي بين “القبيلتين”، بين القمصان البنية والقمصان الحمراء، بين “السنة والشيعة”، بل إنه قد يخرج عن الإطار الذي يبرره الإعلام والخطاب السياسي اليومي ليطال فئات غير متوقعة صدف أنها تجاوره. ومشهد العنف ضد “السود” في فيلم “عصابات نيويورك” عندما ينتفض بعض أهل المدينة ضد التجنيد الإجباري في جيش لنكولن قد يكون الأكثر قساوةً، إذ أن العنف في هذا المشهد لا مبرر “بطوليا” له ولا هتاف ولا راية ولا سردية تذوِب من وحشيته، كما أنه يطال أناسا لا ذنب لهم إطلاقاً في الصراع الحاصل في المدينة في أيامها العادية. هو عنفٌ صافٍ، “حيواني”، غير سياسي، لكنه مفهوم ولا يخرج عن حيز الإدراك، وقد عرفنا الفيلم على المعتدين ولمسنا “طباعهم”. لم ينقصه سوى بروز السبب السياقي، أن يقوم كونغرس دولة بالكاد موجودة عادةً باعتماد قرارٍ للتجنيد الإجباري.
المثال الآنف الذكر يعرض ظروفاً لممارسة الظلم على فئة اجتماعية في حالة ضعف أو عزل سياسي تخرج (هذه الممارسة) عن الضوابط والأطر التي يصورها الإعلام والخطاب المهيمن عامةً للعنف، على أساس “جماعاتٍ” محدودة المعالم، يمسك بمفاصلها “الزعماء السياسيون”، أو الترتيب اليومي للحياة الاجتماعية. والأفلام “الإيطالية” في السينما الهوليودية تتميز عادةً في تفنيد العنف المديني، أحد أوجه الظلم في المجتمع، بعرضها صورة أكثر فذلكةً للفئات المعنية بممارسة العنف، فتبدو هذه الفئات تارةً “إنسانية”، طيبة، “عييشة”(السفاح المافيوي ملمٌ في طبخ الباستا لزملائه)، وتارةً أخرى عنيفة، غريبة، وخارجة عن “العقد الاجتماعي” (مثل خروج مايكل كورليوني عن عقده مع زوجته “البيضاء” المسالمة في فيلم “العراب”). هكذا هي جماعات التخصص بالعنف وبممارسة الظلم المباشر، مفتوحة على احتمالات عدة حسب الظروف، حيث يمكن تقدير الكفاءة التي تميزها، والحال اللبنانية لا ينقصها أفلام من هذا النوع، وقد يكون من المفيد التوقف عند واحدٍ منها يحمل أكثر من دلالة حول بعض المناحي والتركيبات الموجودة في المجتمع الوطني عامة وبشكلٍ ربما قابل لمزيد من التعميم.
الظلم في النظام السياسي وبعض أصوله من الماضي القريب
في السنوات القليلة الأخيرة، برزت قضايا عدة في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، كان عنوانها “بلدياتي”، على قافية الإعلان الشهير في تسعينيات القرن المنصرم (بلدي، بلدتي، بلديتي) الداعي للمشاركة في الانتخابات البلدية الأولى التي جرت بعد الحرب الأهلية. لكن الأحداث الأخيرة أخذت منحى ميلودياً مختلفاً عن رنة الإعلان، فكان عنوانها أخذ بعض البلديات على عاتقها وظيفة تطبيق سياسات تمييز وعقاب عنصرية، كان آخر فصولها المتكرر والأكثر انتشارا قيام بلديات مختلفة بنشر بيانات على الطرقات تمنع اللاجئين السوريين من التجول ليلاً وتتوعدهم بـ”الإجراءات القانونية”، أو “الملاحقة القانونية”، أو “التعرض للمسؤولية والمحاسبة” (بحمدون، المنصورية، الكحالة، الشويفات، القليلة، وغيرها). كما حذرت بعض البلديات أهالي المناطق الواقعة ضمن صلاحياتها من العواقب المحتملة “لكثافة الأغراب” و”للنزوح الكثيف للاجئين السوريين” (الحازمية). وصاغت بلدية المنصورية-المكلس-الديشونية تعميمها مثلاً على أنه للحفاظ “على سلامة” النازحين السوريين، وطلبت من المعنيين تسجيل أسمائهم واستلام بطاقات تعريف خاصة.
نماذج التمييز والقمع هذه لن تفاجئ أحدا، وهي تتخطى منطق “الفضيحة” في الخطاب المهيمن، إذ لطالما اجتمع أقطاب النفوذ والسلطان في لبنان، من مؤسسات حزبية وأمنية ودينية، على إنزال أشد العقاب على الفئات الأضعف في المجتمع، أكانت من الفلسطينيين، أو السوريين، أو من الجنسيات الآسيوية والأفريقية من العمال الفقراء. على المستوى الحياتي، تبدو هذه الإجراءات بعيدة كل البعد من أن تطال المواطنين اللبنانيين، “فاللبناني ببلده”، لكن… هل هو فعلاً كذلك؟ هل هذه حالات استثنائية، محصورة، وهل المجتمع اللبناني بمجتمعٍ ثابت المعالم الاجتماعية والمؤسساتية؟
بعيداً عن العودة إلى حلقات الحرب الأهلية الأخيرة، والتقلبات التي فرضتها على المجتمع من قسمةٍ، وترحيل، وتدمير، بينما أصبحت ذكرى فظاعتها “فزاعة” سياسية يتخفى وراءها كل ما لحقها من تجاوزات ومظالم في أيام “السلم” وهي لا تقل قساوة. قد يجوز إرجاع هذه “العنصرية المناطقية” التي يقع ضحيتها اليوم العمال واللاجئون السوريون، بصيغتها السياسية الحالية بـ”الوكالة” إلى البلديات، إلى مرحلة تبلور عُدة الطبقة السياسية الحالية وهيكلة أحزابها المستجدة، ألا وهي السنوات التي تبعت تبني الأمم المتحدة للقرار ١٥٥٩ والتعبئة الجماهيرية التي فرضت نفسها على حسابات الأفرقاء السياسيين. فتظاهرات شهري شباط وآذار ٢٠٠٥ شهدت بداية تفشي نزعة شعبية للتعدي الجسدي وصولاً إلى القتل لعمالٍ من التابعية السورية أبرياء وعزل، معالمها شباب الأحياء والحارات ومجموعات حزبية. ولو كانت هذه الاعتداءات غير متبناة من قبل قيادات الأحزاب، لا بل مدانة. إنما، منذ 5 شباط 2006، أمكن تلمس خطاب سياسي فج في “عنصريته المناطقية” في ما سُمي “بغزوة الأشرفية” (الهجوم على السفارة الدانماركية)، مع مزايدات الأحزاب الطائفية المسيحية في ما بينها على اتهام كل منها لحلفاء الآخر بـ”تخطي حدوده”. لكن عامةً، كان الخطاب السياسي المهيمن، من أفواه القيادات السياسية أقله، يتجنب الإفصاح بلغة العنصرية المناطقية ويترك خطاً مفتوحاً للتعاون أو التلاقي مع خصومه مؤسساتياً. فكانت “طاولة الحوار”، وكانت حكومة فؤاد السنيورة الأولى التي جمعت 8 و”14 آذار”، وكانت “ورقة التفاهم” بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” التي بقيت آنذاك مفتوحة على الأفرقاء الآخرين.
جاءت حرب ٢٠٠٦ لتقلب هذه المعادلة، وتضع أسس دخول الطبقة السياسية اللبنانية في ثنائية صدامية مستدامة، مع ما لهذه الدينامية من نتائج على المستوى الشعبي والاجتماعي. خلّف القصف الإسرائيلي لمناطق الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية أزمة لاجئين مماثلة للأزمة الحالية. ومع أن اللاجئين كانوا من اللبنانيين، كان يُنقل في بعض الأحيان أخبار عن إلزامهم السكن في المدارس وفي أماكن محدودة، ومنعهم من التجول أو من رفع أعلام حزبية، هذا عدا رفع الأسعار من قبل بعض تجار انتهازيين. وذلك طبعاً في مقابل وجود “الصورة” المقابلة، التي شدد عليها الإعلام، عن احتضان حزبي وشعبي للنازحين من مثل “التيار الوطني الحر” وغيره. بل أكثر من ذلك، عمد “حزب الله” إلى التعويض عن غياب الدولة المفضوح في احتضان الناس ومعالجة الأزمة عبر تأمينه أمنهم وتنسيقه مع الجهات والأحزاب المحلية تسهيل عيشهم، عبر تأمين الدواء والغذاء إلخ. ما أسبغ على مسألة مساعدة اللاجئين لوناً اجتماعياً طائفياً، وكأن “الشيعة” في مأزق، و”السنة والمسيحيين والدروز جاؤوا للمساندة ووضعوا أرضهم في الخدمة”. وبعد أن كانت حكومة السنيورة في أول أيام الحرب متهمة من خصومها بالتقاعس في إدانتها للعدوان الإسرائيلي، ونتيجةً لامتداد الحرب ولتظاهرة غاضبة للاجئين أمام مبنى الإسكوا رداً على مجزرة قانا الثانية، اجتمع رئيس الوزراء برئيس المجلسالنيابي وأعلنا توحيد الصف أمام العدوان.
حتى الآن، يبدو المشهد “لبنانياً” بامتياز، حيث إن أهل الأرض كان بينهم فروقات ومشاكل لكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى اللحمة والتوحد. لكن المشهد هذا كان لا يطاق في واقعه من حيث الثنائية السياسية التي كانت تتبلور، بموجباتها الصدامية، إذ أنه أعطى فريقامن الأفرقاء السياسيين، وهو “حزب الله” وحلفاؤه، أحقية منطقية وسردية في الخطاب السياسي في وجه خصومه.وكان وليد جنبلاط أبلغ من عبر عن مأزق الكلام الذي كان فيه “14 آذار” مع تطور الحرب وختامها، عندما صرح في مقابلة تلفزيونية عبارته “نعم ولكن، إلى أين؟” أكثر من عشر مرات وفقا لما أحصته “السفير” آنذاك (عدد ٢٩ تموز ٢٠٠٦).
حملة “أنا أحب الحياة” كفاتحة لشرعنة العقاب الجماعي
كثيرون سيتذكرون مستقبلاً الحملة الإعلانية الواسعة التي قامت بها “١٤ آذار” تحت عنوان “أنا أحب الحياة” في خريف عام ٢٠٠٦، بمزاحٍ أو استهتار، على قياس الحملات المضادة التي نظمها أخصام “١٤ آذار” والتحريفات “المسلية” الكثيرة التي فتحت لها الباب في الوسط الشعبي هذه الجملة البسيطة، لكن المستفزة، التي صاغتها مجموعة من العاملين في حقل الإعلانات. لكنّ قليلين سيتذكرون ويعون أن هذه الحملة أوجدت كردٍ على واقعٍ كانت فيه “١٤ آذار” في مأزقٍ كلامي وربما شعبي، إذ كانت إحصاءات نهاية الحرب تعرض تأييداً واسعاً وغير مسبوق لـ”حزب الله” عند اللبنانيين. وأقلهم سيتذكرون أن هذه الحملة جاءت بعد حرب ٢٠٠٦ وأزمة اللاجئين، بعد أن فرض واقع شعبي مأزوم نفسه على الخطاب والحجة والسردية السياسية. فأتى شعار الحملة فجا ليضع التشكيك والتحقير بالواقع الشعبي بالتحديد وليس بالحزب السياسي الخصم فقط. كان يجب إسقاط “أزمة اللاجئين”، ولم يكن بالإمكان إسكاتها بالضرورات السياسية الأخرى، فحمل الشعار الخطاب العنصري إلى مستوى من الحدة غير مسبوق، على أساس أن اللاجئ اختار مصيره، لأنه يحب الموت، وأن الآخرين يحبون الحياة ولن يُخجلهم الآخر ويَردعهم من الإشهار بذلك. هذا دون أن ندخل في تفاصيل انطباق الشعار على الصور النمطية “للشيعة”، كـ”طائفة كربلائية” وكـ”طبقة اجتماعية”.
ما دخل فيه لبنان يومها من باب الإعلانات العريض هو شَرعنة العنصرية العدائية وتعميمها من بابها الأكثر قساوةً، ألا وهو الاستهتار بواقع عقابٍ جماعي فُرض على فئة كبيرة من المواطنين. في لبنان سكوتٌ عن القهر، بل فيه احتفال به.
طبعاً، سيتبع فصل “نهر البارد” وتدميره على يد الجيش اللبناني ليؤكد على استمرارية هذه اللازمة في النظام السياسي اللبناني. واللافت في الموضوع أنه عندما تجرأ الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله بالقول إن “بيوت الناس والمخيم خطٌ أحمر”، جاءه رد من رئيس حزب وكتلة “المستقبل” سعد الحريري على وزن حملة “أنا أحب الحياة”، بعَدَم الحساسية وبالعنصرية المناطقية ذاتها، يقول فيه إن “بيروت خطٌ أحمر”. وكان البلد مشرفا على انتخابات نيابية فرعية في بيروت والمتن. هذا التصريح لحسن نصر الله، ما زال “حزب الله” إلى اليوم، بمسؤوليه والمقربين منه في الإعلام، وبعد مرور سِت سنوات، يخجل من تصويب إطاره إذا ما أعيد تذكيره به من قبل منتقدٍ تلفزيوني (مثلاً في حلقة “كلام الناس” مع رمزي كنج، نوفل ضو، محمد سلام وسالم زهران في ٦ حزيران ٢٠١٣). ما زال حتى الآن يمنع النظر إلى القضية الإنسانية التي رافقت معركة نهر البارد، في الخطاب السياسي المهيمن، والتي شهدت تدمير منازل أكثر من أربعين ألف إنسان منع غالبهم حتى الآن من ترميمها.
تحقيق الظلم بالوكالة وخطف الإرادة الشعبية عن طريق المسرحة
وهنا يجب التنبيه إلى أن سرد الموضوع بمنظار الظرفية السياسية التي أوجَدَته بالصيغة هذه لا يفي بعَرضه بكل تشعباته الاجتماعية الممكنة، إذ إن عواقب شَرعنة وتعميم “العنصرية المناطقية” و”العقاب الجماعي” لا تُختصر بالحالات المُعلنة والسياسية، بقصف الطيران والدبابات، أو بالكلام التلفزيوني التحريضي. والعقاب الجماعي ممكن أن يكون في أيام السِلم تكملةً لسياسة الإحاطة بالناس التي كانت في الحرب، عبر التضييق بخياراتهم الحياتية بشتى الوسائل. ضمن هذا الإطار يجب فهم السياسات “العنصرية المناطقية” التي أخذتها بعض البلديات على عاتقها، وأبرزها تلك التي تعرقل معاملات انتقال بيع الأملاك المبنية والأراضي. ودوي فضيحة كهذه محدود لأن تطبيقها يحصل فرديا، لا يتلمسها إلا من وجد نفسه عالقاً في معاملاته الإدارية، بينما معظم الناس الآخرين تعودوا على لزوم مكانهم في الحياة، في الجغرافية، وفي الخيارات المعيشية المعروضة. والسياسات هذه سبق أن حصلت على بركةٍ سياسية، أو أتت بتناغمٍ مع نزعة الخطاب السياسي المهيمنة، لكن اللافت أن البلديات قامت في إطارها بتبني دورٍ “مستقل” عن ظرفيات الحقل السياسي اليومية، وهو ما بدا واضحاً في حال بلدية الحدث التي لم تر مانعاً من إعلان سياساتها في بياناتٍ ضخمة علقت في أرجاء مناطقها، تقول إن البلدية لن توقع المعاملات التي تجيز بيع عقارٍ لأحد من خارج المنطقة، بينما كان النائب بطرس حرب يضُب مشروع قانونه لحصر بيع العقارات وتنقلها بين أبناء الطائفة الواحدة، أمام انتقادات زملائه. والموضوع يأخذ بعداً أكثر حدةً عندما نعي أن الاعتراض عند المسؤولين في البلدية، كما جرى عرضه مراراً على شاشات التلفزيون، يقصد أبناء الحارات المجاورة للحدث المُكمِلة لامتدادات الضاحية الجنوبية لبيروت، ذات السكن “الشيعي” الصيت، وأن اللافتات الكبيرة المعلنة للرفض مشهورة على مرمى من أنظارهم وليست فقط على مرمى من أنظار مواطني الحدث. فتبرز بالتالي معالم فريقٍ بلديٍ مؤلف من أشخاص ذوي صِفات صدامية، مستعدين أو جاهزين لأخذ الأمور بأياديهم حيث “يفشل” أو يخجل السياسيون والمؤسسات الدينية، ولهم من السلطات الأعلى، بدءًا بوزير الداخلية، الحماية والغطاء اللازمان لخرق الدستور والميثاق إذا لزم الأمر. هذه “السلطة بالوكالة للعنصرية المناطقية” نجدها اليوم لدى عدد من البلديات، من خلال سياساتها المفروضة منهجياً على العمال واللاجئين السوريين. بحيث يمكن تبرير أعمالها في الخطاب السياسي بـ”إرادة المجتمع وأعرافه” وضرورات حمايته بينما يحرم الناس من إبداء آرائهم مع إلغاء الانتخابات النيابية. ضمن هذه الصيغة يجب فهم موقع البلديات والمجموعات الحزبية المعتدية على اللاجئين السوريين وحقوقهم، والتعاطي الحزبي معهم. وهو موقع يعود بناؤه إلى عملية خطف للصوت الشعبي، ولتجليات الإرادة الشعبية بتنوعها، عبر ادعاء تنفيذها كاملةً في تفصيلٍ لا كمال فيه سوى أنه مسرحي. هل من يتذكر المشاركة المبتذلة لبعض النواب في عزاء أهل إحدى الفتيات في ساحل علما التي تعرضت للاغتصاب والقتل، وللهيجان الذي عملوا مع محيط العائلة الطائش على تعزيزه حول هوية المغتصب-القاتل “السورية”؟ كانت الفكرة الرئيسة التي نقلتها التلفزيونات المتعاونة، أن “اغتصبها واحد سوري”، وأردفت إحدى النساء المنكوبات بمزيج من الحقد والازدراء “وسوري؟؟!!”.
خاتمة
الظلم موجودٌ في لبنان، يشعر به اللبنانيون كجو سائد ويتلمسونه في قضايا يومية متنوعة، متخطين جدار الثنائية السياسية. يغلب الخوف بعضهم عند امتحانات القنابل الموقوتة (كقنبلة بئر العبد، تموز 2013) ومشاهد العنف الهائل الذي يتعرض له المدنيون في سورية، ويلاحظ بعضهم بالمناسبة عدم الإحساس عند بعضهم الآخر المحتفل بمشاهد العنف أو غير المبالي بها. أما في الخطاب المهيمن، فالظلم هو ما لا تكف البرامج الفكاهية على شاشات التلفزيون من التلميح إليه، بتصويرها النمطي لمواطنٍ كاريكاتوري “معتر” ومغلوب على أمره، وهذا ما ينطلق منه خطاب بعض الأحزاب الجماهيرية مثل “حزب الله”، فيظهر الظلم كشيء عصي عن التشخيص، ومتروك لمحاججات الخلافات اليومية، وهو مدعاة للتأفف نفسه عند مشكلات السير ومشكلات المعيشة وعند مشكلاتٍ لا لغة لها، مثل لزوم الناس مكانهم في السلم الاجتماعي مدى حياتهم.
في جوار اللبنانيين اليومي، بلديات ترفع شعارات العمل على “حفظ الأمن ومصلحة المواطنين”، فتخرق القانون وتضع قيوداً على لبنانيين آخرين، وتمارس صنفاً جديداً من المهارات على حساب مجموعة بشرية كبيرة، ضمن صيغة جديدة لتوزيع الأدوار مع السياسيين. والبلديات ليست وحدها من يدخل ضمن هذه الصيغة. فاللبنانيون غارقون في الثنائية الطائفية ويرتقبون أن يتذابح “السنة والشيعة” بالفؤوس، ولا يرون إمكانيات إلحاق الظلم بهم خارج هذه الثنائية التي لعب كثيرون من خبراء الكلام على بنائها بشكلٍ مفذلك ومفصل. إذا لم يكن مرتكب الظلم من “جحافل السلفيين” على وقع التكبير أو من “جحافل الشيعة” على وقع اللطمات، فهو  يكاد يكون في الخطاب المهيمن في لبنان منزلاً من السماء، وليس لمرتكبه من هوية أو من جنس محدد، وكأنه ملاكٌ في تصرف السماء، جاء وذهب، ولا توابع تخصه، ولا وجود له بيننا، وليس لوجوده بيننا من منطق ودلالات على صعيد التركيبة الاجتماعية.
تمر بديهيات مرور الكرام أمام أعين اللبنانيين ولا من يلتفت إلى محتواها في الإعلام والسياسة. لا أحد يتساءل ماذا كان يقصد رئيس بلدية الدكوانة، هذا المحامي الذي خرق القانون إحدى عشرة مرةً، هو وعصابة من رجال البلدية التي يرأسها، عندما اعتقلوا وضربوا وعذبوا وتفننوا في إهانة أناس عُزل في كنف مقر الشرطة البلدية؟ (أنظر مقال كريم نمور في العدد التاسع من المفكرة القانونية، أيار ٢٠١٣). ماذا كان يقصد عندما قال تعليقاً على منتقديه: “نحن حاربنا، دافعنا عن أرضنا وعن شرفنا مش تا يجوا أشخاص… يمارسوا هل أمور عندي بالدكوانة”؟ من حارب هذا العبقريمن قبل؟ هل حارب إسرائيل؟ أم هم الفلسطينيون و”المتاولة” الذين قطنوا في جوار بلديته في السابق وتم تهجيرهم وتكديسهم في شاطئ الأوزاعي؟ ولماذا يأتي على ذكر هذا الماضي في حادثة أوجدته في مقابل هذه الفئة الفائقة التهديد للأمن القومي، ممن اتهمهم بالمثلية والتحول الجنسي؟ حقاً، لا خطر على شعب لبنان مع وجود هذا الصنف من الرجال على أهبة الاستنفار. البلدية ساهرة.
رسام وباحث في علم الإجتماع. من فريق “المفكرة القانونية”
نُشر في العدد العاشر من مجلة المفكرة القانونية

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني