القضاء اللبناني يتدخل لوضع حدّ لمعاناة “شارلي”: حماية الحيوان من أجل الطبيعة


2014-10-07    |   

القضاء اللبناني يتدخل لوضع حدّ لمعاناة “شارلي”: حماية الحيوان من أجل الطبيعة

“علاقة الانسان بالحيوان لطالما شكّلت محور التساؤلات الفلسفية حول طبيعة الانسان. فالحيوان يذكّر الانسان بحتمية وضعه الوجودي ويعيد له صورته ككائن حيّ، هو الآخر والمماثل في آن معا”. وان كانت الفلسفة الكلبية وعلى رأسها ديوجينيس الملقب بالكلبي ترى في الحيوان نموذجا للانسانية، الا ان القوانين الوضعية لطالما فرّقت الانسان عن الحيوان فصنفت الحيوان ضمن فئة الاموال التي هي في موضع التملك   اي في موضع حق التصرّف والانتفاع والاستغلال ورفض القانون تكريس الحيوان كشخص قانوني يتمتّع بالحقوق والموجبات.

لكن أنظمة قانونية عدة شهدت في العقود الأخيرة تحركات متزايدة لتأمين حماية الحيوانات، وقد بلغت أقصاها مع المطالبات باعادة تصنيف الحيوان وتحديدا من خلال اخراجه من الفئة القانونية للاموال وادراجه ضمن فئة الاشخاص. وفي ظلّ هذه التحركات، برز في دول عدة تغيّر أساسي للنظام القانوني للحيوان ولكيفية مقاربته. وقد شددت هذه القوانين على ضرورة حماية الحيوان مع ادخال قيود على الحقوق الناشئة عن الملكية الخاصة، واعادة النظر بالنظام القانوني للحيوان كمال منقول مثله ما مثل اي مال آخر[1].

وضمن هذه التحولات، يقتضي ادراج حكمين قضائيين صدرا مؤخرا في قضية الشمبانزي “شارلي” في لبنان، الاول عن القاضي المنفرد الجزائي في كسروان بتاريخ 27/3/2014 والثاني عن قاضي الامور المستعجلة في المتن بتاريخ 25/9/2014.

الحيوان موضوع هذين الحكمين شمبانزي يدعى “شارلي” تم التداول به بين الاصحاب المتتالين لمشروع تجاري متمثل بحديقة حيوانات وذلك، منذ ان ادخل الى لبنان في العام 2004 حين كان يبلغ شهرا” واحدا من العمر.

في العام 2006 وعلى اثر اخبار لدى النيابة العامة التمييزية حول إدخال قرود إلى لبنان بطريقة غير شرعية ومن بينها “شارلي”، تم استجواب صاحب المشروع الأساسي، وتعيينه حارسا قضائيا على القرد المذكور ومن ثم احالته من قبل النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان امام القاضي المنفرد الجزائي في كسروان.

وبعد ان تُركت الشكوى المذكورة مدة سبع سنوات بدون اي اجراء فعلي، فوقع “شارلي” في دائرة النسيان، عادت جمعية “انيمالز ليبانون” وهي جمعية تعني بحماية الحيوان وتقدمت بتاريخ 22/10/2013 بشكوى مباشرة أمام القاضي المنفرد الجزائي في كسروان بحق صاحب المشروع الاساسي بمقتضى المادة /770/عقوباتالتي تعاقب مخالفة الانظمة الإدارية. وقد صدر بنتيجتها حكم غيابي بتاريخ 27/3/2014 قضى بإلزام صاحب المشروع الاساسي بتسليم القرد “شارلي” الى الجمعية المذكورة.

الا انه تبين عند التدقيق في مكان تواجد لحيوان لانفاذ الحكم، ان صاحب المشروع كان قد تنازل في 2009 عن مشروعه التجاري ومن ضمنه القرد “شارلي” الى شخص آخر. فتقدمت جمعية “انيمالز ليبانون” بوجه المتنازل له المالك الجديد، بامر على عريضة أمام قاضي الامور المستعجلة في المتن، فاصدر هذا الأخير بنتيجته في 3/4/2014 قرارا “بنقل القرد من حديقة الحيوانات تلك الى حديقة شخص ثالث في عاليه تمهيدا” لاعادته الى البرازيل. واعتراضا على هذا القرار، احتج صاحب المشروع الجديد أولا “بملكيته ل”شارلي” وثانيا” بكونه قد أمّن ولا يزال يؤمن بيئة وعناية وحماية ملائمة له. الا ان قاضي الامور المستعجلة في المتن الرئيس انطوان طعمه ردّ الاعتراض مؤكدا” على وجوب التدخل لوضع حد لمعاناة هذا الشمبانزي ونقله الى حديقة في عاليه تمهيدا” لاعادته الى بيئته الطبيعية في البرازيل.

ويتميز حكما القضاء الجزائي والمستعجل انهما يكرّسان لاول مرّة في القانون اللبناني “حماية الحيوان من اجل الحيوان” اولا” و”حماية الحيوان من اجل الطبيعة” ثانيا”.

1. “حماية الحيوان من اجل الحيوان”[2]:

الحيوان كائن حي ان أسأت معاملته يتألم وآلامه لا تقتصر على الآلام الجسدية بل تشمل ايضا الآلام المعنوية. هذه هي خلاصة الحكمين موضوع التعليق، من منطلق الاعتراف بمعاناة الحيوان وبقدرته على الإحساس. ويستند القرار الصادر عن قاضي الامور المستعجلة في المتن بادىء ذي بدىء على توفّر عنصر العجلة لاتخاذ تدابير حمائية على أساس انه من الثابت أن “شارلي” يتألم جسديا” ومعنويا”.

فمن جهة، “أن القرد المذكور يعاني من ضمور في عضلات رجله اليمنى وهو لا يقف أو يمشي على رجليه بصورة طبيعية وإن ثمة تشوها في الرجلين، وإنه ثمة عظمةfemur  قد تعرضت في مرحلة من المراحل إلى كسر ولم تُشف بشكل كامل، وإن حالته تسبب له الألم والمعاناة” كما انه لا يخضع للعلاج والمتابعة الطبية المستوجبة. ومن جهة اخرى، “انه يعيش وحيدا”، مما يسبب له المزيد من المعاناة اذ ان “وضعه داخل قفص، بدون أن يحتك بقردة من بني جنسه، مع العلم أن قردة ال Chimpanzeeوفق ما هو متعارف عليه هي من الحيوانات الاجتماعية والفائقة الذكاء، وإن عيشها وحيدةً من شانه أن يسبب لها المعاناة، وذلك وفق ما جاء في كتاب منظمة GRASPالتابعة للأمم المتحدة”.

ان هذه المعاناة بررت تدخل القضاء المستعجل لوضع حدّ لها انطلاقا” من الاعتراف بمصلحة خاصة بالحيوان تتمثل في ضرورة تأمين “بيئة ملائمة له تضمن له حياةً تتماشى مع طبيعته كقرد”. وبالطبع، تكسر هذه النظرة للحيوان نمط القانون اللبناني الذي لا يؤمن الحماية للحيوان الا في اطار حماية الانسان وامواله.

فيتبين من قراءة المادتين /762/ و/763/ من قانون العقوبات اللتين تندرجان تحت فصل “اساءة معاملة الحيوانات” ان اي عمل يسيء الى الحيوان لا يعاقب عليه الا اذا تضمن اساءة غير مباشرة الى الانسان. وهذا ما يؤكد عليه اشتراط العلنية في اساءة معاملة الحيوان غير الداجن لمعاقبتها، فالهدف من التجريم في هذه الحالة يكمن في حماية الآداب العامة عبر تجنب تعرض الانسان لمشهد حزين علني[3]. ومن هذا المنطلق، يشكّل قرار قاضي الامور المستعجلة خطوة نوعية تحرّر الحيوان من وضعية المال المنقول عبر تكريس مصلحة مستقلة تكمن في ضرورة تأمين بيئة ملائمة له وحماية راحته الجسدية والنفسية.

وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى ان القرار المذكور وان لم يتطرّق بصورة مباشرة الى مصلحة وصفة الجمعية المستدعية، فانه كرّسهما ضمنيا وهو امر ضروري من اجل تأمين فعالية في حماية الحيوان.

2.  “حماية الحيوان من اجل الطبيعة”:

بالاضافة الى ما سبق، يؤكّد القرار المذكور على التزام لبنان بنضال عالمي والتعاون مع باقي الدول من اجل المحافظة على النظام البيئي، التي تشكل ربما احدى المسائل القليلة المتوافق عليها انسانيا والتي لا تطرح اي اعتراض ثقافي. وهو عبر الاستناد الى معاهدة CITESالدولية التي انضم اليها لبنان عام 2013 يؤكد على الرفض التام بجعل لبنان بلدا” للتداول غير المشروع للحيوانات المهددة بالانقراض وسوقا” سوداء لا تعبّر الا عن استسلام الافراد للحوافز المادية البحتة واستقالتهم من رابط الانسانية العالمي.

فبالاستناد الى معاهدةCITES المتعلّقة بالتجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البري المهدد بالانقراض، قضى قرار قاضي الامور المستعجلة بمصادرة “شارلي” ونقله الى حديقة في عاليه تمهيدا” لاعادته الى البرازيل مطبّقا” المادة الثامنة من المعاهدة التي نصت على وجوب مصادرة الحيوانات المعنية بتلك المعاهدة وإعادته إلى بدل التصدير، أو إلى مركز متخصص في حماية تلك الحيوانات، اذ ان “شارلي” قد دخل إلى لبنان بطريقة غير مشروعة، (ف)يكون من الواجب تطبيقاً لاتفاقية  CITESتأمين الحماية له عن طريق مصادرته وإعادته إلى بلد التصدير أو أي مركز متخصص لرعايته وتأمين البيئة المناسبة له”.

تندمج مصالح الانسان مع مصالح الحيوان والطبيعة ككيان واحد كون الحفاظ على النظام البيئي هو ضروري لاستمرارية الانسان. وتجدر الإشارة الى ان قرار قاضي الامور المستعجلة قد أدرج ضمن حيثياته، ضرورة حماية الانسان. ف”احتكاك القرد “شارلي” بالناس والأطفال، و(…) وجود مخاطر تتمثل بانتقال بعض الفيروسات والجراثيم من الحيوان إلى الإنسان أو العكس، ما يؤثر على صحة كليهما”.

ولا يتوانى القاضي طعمه عن التذكير بحدود الملكية الخاصة والذي ضمنه في أكثر من حكم[4]. فواجب “حماية الحيوانات يتخطى حق الملكية” التي تنزل منزلة الدرجة الثانية امام اولويات طبيعية تعلوها من الاهمية، و”حماية الحيوانات المهددة بالانقراض يعكس الوجه الحضاري للدول والتزاماً بالاتفاقيات الدولية التي تحمي تلك الحيوانات، على ضوء التفاعلات الاجتماعية لبلد معين مع قضايا حماية الحيوانات”.

٭ محامية متدرجة في بيروت، وهي تعدّ الدكتوراه في القانون، عضو في المفكرة القانونية

نشر هذا المقال في العدد | 21 |أبلول/سبتمبر/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

بعدما بات الحق بالبيئة حقا دستوريا في دول عدة:ماذا يعني أن تتوسط شجرة علم لبنان؟

للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا



[1]Jean-Pierre Marguénaud ; Olivier Dubois,  Animaux et droits européens : au-delà de la distinction entre les hommes et les choses, éd. Pedone 2009 

[2]Wilfrid Jeandidier, Mélanges Chavanne, Litec, 1990, p. 81
المشار اليه في:
Jean-Pierre Marguénaud, L’animal dans le nouveau code pénal, Recueil Dalloz, 1995, p. 187
[3]Jean-Pierre Marguénaud, L’animal dans le nouveau code pénal, Recueil Dalloz, 1995, p. 187
[4] يمنى مخلوف، قضاء الأمور المستعجلة يثابر: مبدأ سلامة الانسان على رأس هرم المنظومة القانونية اللبنانية، الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية، 8-4-2014.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مجلة لبنان ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني