القضاء الأعلى يحدد معيار التميز القضائي: الإنتاجية الكمية أولا.. وأخيرا


2014-08-05    |   

القضاء الأعلى يحدد معيار التميز القضائي: الإنتاجية الكمية أولا.. وأخيرا

في الجلسات التشريعية المنعقدة في نيسان وأيار 2014، وخصوصا الجلسات المخصصة لمناقشة سلسلة الرتب والرواتب وكيفية تمويلها، دعا عدد من النواب الطعن بشكل أو بآخر الى إعادة النظر في مستحقاتهم أو في الخدمات الاجتماعية الذين يستفيدون منها من خلال صندوق تعاضد القضاة، على خلفية النقص في انتاجيتهم. ولم تنقض أيام حتى عمد مجلس القضاء الأعلى الى اتخاذ خطوات وعقد لقاءات تهدف الى زيادة  الإنتاجية الكمية للقضاة تحت شعار “القاضي المتميز”، من دون أي اعتبار للاصلاحات القضائية الأخرى.وقد تجلى ذلك بشكل خاص من خلال لقاء-خلوة عقده المجلس في يومي 23 و24-5-2014 مع كبار القضاة والهيئات الاستشارية في المحاكم للبحث في مفهوم القاضي المتميز والوقت الذي يقتضي أن تستغرقه الدعوى. كما تجلى من خلال لقاء ثان نظمه المجلس مع قضاة المحاكم الابتدائية في لبنان في 13-6-2014. وقد نقلت الوكالة الوطنية كلاما منسوبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد مفاده أن “التحدي الذي يواجهه القضاة هو كسب ثقة المواطن بعدليته. ولهذا السبب عمد المجلس إلى زيادة عدد القضاة المنفردين بشكل كبير بهدف إحداث فارق ملموس في سرعة بت الدعاوى”.ونوه فهد بـ”جهود المجلس الرامية إلى تحديد معايير أداء التميز في المحاكم، ولا سيما “الوقت القضائي” الذي تتطلبه الدعوى عادة”، مطالباً القضاة “ببذل المزيد من التضحية في سبيل وصول المواطن اللبناني إلى عدالة أكثر سرعة باعتبارها من أحد حقوقه الأساسية”. هذه العبارات المنشورة على صفحة الوكالة الوطنية تعبر على الأرجح عما أراد المكتب الإعلامي للمجلس توجيهه الى الرأي العام من مجمل وقائع ذلك اللقاء الذي تطرق فيه المجلس حسبما أفادنا به عدد كبير من القضاة الشبان الى وجوب اختزال التعليل تسريعا للأحكام، بعدما أبدى رئيس المجلس اقتناعه أن حيثيتين أو ثلاثة تكفي.

وإذ نتفهم بالطبع أن يكون تراكم الملفات المتأخرة مصدر قلق لمجلس القضاء الأعلى ولكل مسؤول مباشر او غير مباشر عن العمل القضائي، وأن يكون من الضروري التفكير جديا لايجاد حلول تضمن للمواطنين عدالة أكثر سرعة، الا أن الحلول المقدمة تبدو لنا متسرعة وغير مدروسة وبأحسن الأحوال شكلية محض. فعدا عن أنه يمكن التشكيك جديا بفعالية التدابير المتخذة للتخفيف من الاختناق القضائي الحاصل هنا وهنالك، فانها ترشح عن مخاطر جسيمة من شأنها زعزعة القضاء كمؤسسة وتحوير وظيفته الاجتماعية بدلا من تعزيزها.

تحسين شكلي للأداء القضائي، على حساب جوهره
أول ما نفهمه من الخطة المعلنة هو أن المجلس عرّف القاضي المتميز بأنه القاضي السريع في انتاج الأحكام بمعزل عن مدى كفاءته أو علمه أو حكمته أو جودة اجتهاده. فالمطلوب من القاضي قبل كل شيء هو الاسراع في قضاياه وزيادة أرقام الأحكام الصادرة عنه. ومن الممكن طبعا تفهم ايلاء السرعة في الحكم أولوية في الظروف الحالية وخصوصا في حال اندراجه ضمن استراتيجية مدروسة لحل إشكالات بطء عمل المحاكم أو ما سمي بالاختناق القضائي (وهذا ما لم يحصل)، لكن ما لا يمكن تفهمه هو أن يدعو المجلس القضاة الى تحقيق من ذلك، ليس من خلال مضاعفة نشاطهم وساعات عملهم، انما من خلال التخلي عن أحد مرتكزات المحاكمة العادلة والوظيفة القضائية، وهو موجب التعليل كلما شكل عائقا أمام زيادة عدد الأحكام. فمن هذه الزاوية، بدا المجلس وكأنه يؤْثر مظهر تحسين العدالة القائم على زيادة أرقام الأحكام على جوهرها القائم على تعزيز حيادية القضاة واستقلاليتهم وأدوراهم الاجتماعية. ولادراك ذلك، يكفي التذكير بوظائف تعليل الأحكام المتعددة، سواء على صعيد ضمانات المحاكمة العادلة أو على صعيد تحسين أداء القضاء أو تعزيز دوره الاجتماعي أو على صعيد تعزيز الشفافية والرقابة العامة على أعمال القضاء. ولا نخطئ اذا قلنا أن من شأن سياسة مماثلة أن تؤدي الى عكس أهدافها المعلنة: فبدل أن تؤدي زيادة الأحكام الى التخفيف من حدة الاختناق القضائي، تؤدي بفعل خلوها من التعليل المقنع الى تأبيد النزاعات من خلال الطعون المقدمة عليها امام المراجع القضائية العليا، فينتقل الاختناق من المحاكم الأدنى درجة الى المحاكم الأعلى درجة، تماما كالذي يعرّض مسافة من الطريق، فيختنق السير مجددا فور قطعه.

وما يزيد هذه السياسة خطورة هو أن من شأن خطة العمل هذه، أن تؤدي، ليس فقط الى الاخلال في أولويات الاصلاح القضائي، انما أيضا الى احداث خلل بنيوي في المؤسسة القضائية نفسها. فالقاضي المطلوب صناعته بموجب هذه السياسة، ليس الذي يجتهد أو ينصر الفئات المهمشة أو المظلومة أو يقوض الآراء النمطية المسبقة أو يغني القوانين او يصححها أو يحقق الانسجام داخل المنظومة القانونية، انما هو قبل كل شيء القاضي الذي يسرع في اصدار الأحكام ولو من دون تعليل. وهو يصبح متميزا عن زملائه بقدر ما يتفوق عليهم في عدد الأحكام الصادرة عنه. ومن هذه الزاوية، يقترن التساؤل عن أولوية الإصلاح المطلوب بتساؤل بات اكثر الحاحا عن صورة القاضي التي نريدها بل عن المحاكمة (عادلة وعقلانية أم مبنية على انطباعات عامة ومتسرعة) وتبعا لذلك عن صورة المحامي التي نريدها (باحث في الفقه والاجتهاد والقانون أم مجرد مسوق لمطالب موكله وحاجاته). وأكثر ما نخشاه هنا هو أن تؤدي سياسة من هذا القبيل الى تحويل القضاء الى أداة ضخمة جوفاء لاستنساخ الأحكام التي تصبح اشبه بنماذج copy pastتعدّل فيها الأسماء والتواريخ مع ممارسة الحد الأدنى من التدقيق في وقائع الدعوى او في كيفية فهم القواعد القانونية أو تطبيقها عليها (وهو عرف آخذ بالتمدد لدى بعض القضاة المنفردين الجزائيين)، على نحو يقرب بينها وبين محاكمات المحكمة العسكرية التي تنتهي الى اجابة من اثنتين: نعم أو لا. وما يزيد الأمر عرضة للنقد هو توجيه هذا الخطاب الى قضاة المحاكم الابتدائية، ومنهم قضاة جدد يتهيأون لبدء مسارهم المهني. ففيما أن هؤلاء هم أحوج من يكون الى تحفيزهم لتنمية قدراتهم ومعارفهم الذاتية وتطوير نوعية أحكامهم أو استنهاضهم من خلال ابراز الدور الاجتماعي للقضاء، يأتي المشرف على مساراتهم المهنية ليخبرهم أنهم جنود ينتظر منهم تسخير كل طاقاتهم لانقاذ الوضع السيئ الذي تسبب به أسلافهم، وأن العمل على تحسين نوعية أحكامهم لا يعدو كونه مضيعة للوقت، يحسب عليهم وليس لهم.

رصد الإنتاجية الكمية، مظهر إصلاح من دون كلفة وسلاح بأكثر من حدّ
من اللافت طبعا أن يسارع مجلس القضاء الأعلى الى تبني انتقادات النواب وأولوياتهم، التي عبروا عنها في جلساتهم التشريعية الأخيرة، من دون أي تردد أو تحفظ. فيصوغ بعد أيام من هذه الجلسات شعار “القاضي المتميز” على نحو يتناسب تماما مع فهم النواب للعمل القضائي. وبالطبع، لم نجد بين أعضاء المجلس من يحاسب السادة النواب الذين يتقاضون أضعاف ما يتقاضاه القضاة بشأن قصورهم الهائل في انتاج القوانين كماً ونوعاً. كما لم نجد من بينهم من يضيئ على الإشكالات القضائية والتي يسأل عنها النواب وقوى النفوذ التي يتبعونها بالدرجة الأولى، بدءا بتدخلاتهم في القضاء من خلال سماسرة معتمدين في قصور العدل المختلفة وانتهاء بتقاعسهم عن المبادرة الى أي اصلاح قضائي.
لكن، نخطئ برأيي اذا فسرنا خطوة المجلس على أنها نتاج تبعيته للطبقة السياسية أو سعيه الى استرضاء النواب فقط. والواقع أن اعتماد زيادة اعداد الأحكام كأولوية يبدو الى حد بعيد متوافقا تماما مع سياسة المجلس وذلك من جوانب عدة:

فاختيار هذا الهدف يسمح له بتعزيز مظهره كصاحب مشروع إصلاحي أكثر من أي أمر آخر لالتقائها مع خطاب سياسي طاغ ومع التأفف الاجتماعي إزاء البطء القضائي،

وهو يسمح له لاحقا بتحقيق ما سيسميه انجازات أكثر من أي مجال آخر. فعدا عن أن زيادة عدد الأحكام هدف ممكن تحقيقه مبدئيا من دون الاصطدام بقوى نافذة وذلك بخلاف أهداف أخرى كوقف التدخلات في القضاء، فان تحقيقه يصبح في منتهى اليسر في حال تضمنت الخطة تحرير القضاة من موجب التعليل، عملا بقاعدة: “حيثيتان او ثلاثة تكفي”،

كما أنه يسمح له في وقت ثالث بتظهير إنجازات خاصة به والمفاخرة بها أكثر من أي هدف آخر قد يسعى اليه. فبخلاف تعزيز نوعية الأحكام والذي يحتاج ابرازه الى جيش من الباحثين، يشكل تطور أعداد الأحكام مادة سهلة للتسويق والابهار. وطبعا، مع تحويل الأحكام القضائية الى “أرقام” للاحصاء، يصبح القضاة أنفسهم بمثابة أرقام لعناصر يعملون على تحريك عجلة مصانع العدالة. فلا يسجل التفوق في صنع الأرقام في رصيدهم، انما في رصيد مدير الإنتاج، أي مجلس القضاء الأعلى،

وختاما، من شأن العمل على تحقيق هذه الأولوية أن تمنحه سلطة توجيهية ورقابية واسعة ويدا طولى على القضاة. يدٌ تستبيح الجوهر باسم المظهر. وهي يدٌ بات واجبا اجتماعيا التدخل لكبحها، صونا لما تبقى من ضمانات المحاكمة العادلة واستقلال القضاء.

نشر هذا المقال في العدد | 19 |تموز/يوليو/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني