الفصل الأخير من مشروع التشكيلات القضائية بقلم رئاسة الجمهورية: داوِني بالتي كانت هي الداء


2020-06-21    |   

الفصل الأخير من مشروع التشكيلات القضائية بقلم رئاسة الجمهورية: داوِني بالتي كانت هي الداء

بتاريخ 9 حزيران، أعلن رئيس الجمهورية ميشال عون رفضه التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية. وإذ نشرت المديرية العامة لرئاسة الجمهورية (فيما بعد “المديرية”) للمرّة الأولى أسباب رفض التوقيع، فإن هذه الأسباب شكّلت مادّة غنيّة تُمكّننا من فهم مقاربة رئاسة الجمهورية للقضاء ودوره الإجتماعي وتاليا من فهم مقاربتها للنظام السياسيّ ككلّ.

وبالتدقيق في هذه الأسباب، يتبيّن أن السبب الأوحد المُنسجم مع معايير استقلال القضاء (منع تخصيص مراكز لطوائف معينة سنداً للمادة 95 من الدستور)، إنما يظهر بمثابة ذريعة يصعب تصديقها لتعارضه مع مجمل مواقف رئاسة الجمهورية السابقة، فيما أن سائر الأسباب ترشح عن رغبة في تشريع ممارسات السلطة التنفيذية في التدخّل في التعيينات القضائية والسائدة منذ 2001. وقبل المضيّ في عرض هذه الأسباب ومناقشتها، يُلحظ أن “المديرية” لم تجِد حرَجاً في التحذير من قيام “حكومة القضاة” على غرار ما حصل في إيطاليا التسعينيات (التي شهدت أوسع ملاحقة لسياسيين على خلفية شبهة الإنخراط في المافيات أو التواطؤ معها) والتي تشكل من منظورها “المحظور الأخطر”.

وعليه، وفيما رأت “المفكرة” أن أولوية الفترة الراهنة تتمثّل في تحرير النيابات العامة من القوى السياسية تمكيناً لها من ملاحقة مافيات الفساد التي انتهت إلى تبديد موارد المجتمع (وهو أمر أخفق مشروع التشكيلات في تحقيقه)، ذهبت “المديرية” في اتجاه معاكس تماما أي نحو إعادة تشريع الممارسات التي تضمن لهذه القوى وضع اليد على القضاء وضمناً النيابات العامة تجنّبا لحكمه، كل ذلك تحت غطاء خطاب مفعم بالتناقض والسفسطائية. وإذ كان يؤمل أن يتعاضد أصحاب الإرادات الحسنة للإرتقاء بالتشكيلات ومعاييرها تبعا لثورة 17 تشرين، نجح مناوئو إستقلال القضاء، سواء داخل مجلس القضاء الأعلى أو داخل “المديرية”، على طول مسارها، في تبديد هذه الفرصة. هذا ما سنناقشه على طول هذا المقال.

1- رئاسة الجمهورية ضد رئاسة الجمهورية: انعطافة في تفسير المادة 95 من الدستور؟

كانت “المفكرة القانونية” أوّل من لفتت النظر إلى وجوب التزام مشروع التشكيلات القضائية بالمادة 95 من الدستور التي تمنع تخصيص أي مركز قضائي أو إداري لأيّ طائفة بعينها. وقد دعت بالنتيجة منذ ما قبل وضع المشروع الأخير، مجلس القضاء الأعلى إلى وجوب الإلتزام بها والعدول تاليا عن اتجاهه السابق في تطييف المراكز القضائية. وتعود حساسيّة المفكرة حيال هذه المسألة إلى النتائج التي كانت توصّلت إليها في دراسة الإعتبارات الطائفية في مشاريع التشكيلات السابقة، والتي أثبتت أن تطييف المراكز القضائية هو المدخل الأساسي لتحويلها من مراكز عدالة إلى مراكز نفوذ. وخير دليل على ذلك هو أن الغالبية الكبرى للمراكز الهامّة المخصصة لطائفة معينة تقع في مناطق نفوذ زعيم هذه الطائفة.

تجاهل مجلس القضاء الأعلى هذه الدعوة وتمسّك عملا بالواقعية بتطييف عدد كبير من المراكز القضائية وإن أعلن ضمن أسبابه الموجبة عن رغبته في تجاوزها في مشروع التشكيلات اللاحق. وقد شكل هذا الأمر أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت المفكرة إلى رفض للتشكيلات التي أتتْ من وجهة نظرها غير دستورية.

واللافت أن “المديرية” عادت وتبنّت، على غرار وزيرة العدل ماري كلود نجم، هذه الحجة وإن وضعتْها في أسفل لائحة أسبابها (البند تاسعا). وإذ وثّق بيانها أنّ مجلس القضاء الأعلى “ثبّت للمرّة الأولى، بشكلٍ خطّي وصريح، مذاهب جميع المراكز القضائيّة في النيابات العامة وقضاء التحقيق ورئاسة جميع الغرف”، فإنها ذهبت إلى حدّ القول ب “أنه لن تكون هناك استقلاليّة للسلطة القضائيّة إن لم يتحرّر القضاء من القيد الطائفيّ بتطبيق دقيق للمادة 95 من الدستور”.

والتذرع بمخالفة هذه المادة، على صحته، إنما يشكل، أقله ظاهريا، إنعطافة في مواقف الرئاسة لتعارضه مع مجمل مواقفها وممارساتها السابقة. فمن الثابت أن رئاسة الجمهورية خالفت طوال الفترة المنقضية من عهدها المادة 95 من خلال تخصيص مراكز إدارية وقضائية لطوائف بعينها في مجمل مراسيم التعيينات الإدارية والقضائية الموقعة منها، وبشكل خاص التشكيلات والمناقلات القضائية لسنة 2017 والتي هندسها مستشار الرئيس الأول سليم جريصاتي والذي ذهب إلى حدّ المفاخرة بإعمال المناصفة التامة فيها.

لا بل أن الرئاسة ذهبت أبعد من ذلك في اتجاه العمل على تعطيل أهم مقتضيات المادة 95. وقد تمثّل هذا السعي بوجه خاص في الكتاب الذي وجهه الرئيس عون في 31 تموز 2019 للمجلس النيابي، والذي أبدى فيه معارضته المبدئية لحفظ حقوق الناجحين (لتولي وظائف من الفئتين الثالثة والرابعة) في المباريات والإمتحانات التي أجراها مجلس الخدمة المدنية، تبعاً لإختلال التوازن الطائفي فيما بينهم. ففيما حصرت المادة 95 صراحة وبوضوح كلي تطبيق المناصفة الطائفية بتعيينات الفئة الأولى وما يعادلها، فإن الرئاسة لم تجدْ حرجا في الدعوة لاستبعاد هذه المادة وإعمال المناصفة الشاملة عملا بمبدأ “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك” المكرس في الفقرة “ي” من مقدمة الدستور. وقد بررت ذلك بقولها حرفيا أن الحفاظ “على ميثاقنا ووفاقنا الوطني وعيشنا المشترك وهي مرتكزات كيانية لوجود للبنان وتسمو على كل اعتبار”.

كما أن الرئاسة وقّعت من دون تحفظ على قانونين أقرهما المجلس النيابي بتمديد مهلة الترشيح لعضوية المجلس الدستوري مرتين على أساس غياب المرشحين من طوائف معينة، وذلك في سنتي 2018 و2019.

فما عدا ما بدا؟ هل أن موقف الرئاسة يشهد تحولا فعليا في اتجاه نبذ الطائفية التي لا استقلال للقضاء بوجودها وفق ما ورد في بيان “المديرية”؟ أم أن الرئاسة تفتقد تماما للرؤية الواضحة في هذا المجال عن قصد أو غير قصد، فتراها تعارض الإلتزام بالمادة 95 حين تناقض مصالحها، لتعود وتتمسّك بها عند تغيّر وجهة هذه المصالح؟ وإذ يصعب إعطاء إجابة جازمة على هذه الأسئلة، نكتفي هنا بالتأكيد مجددا أن موقف “المديرية” يتعارض مع مجمل مواقف الرئاسة السابقة.

2- حجج مناقضة لاستقلال القضاء:

التدخّل في القضاء باسم التعاون بين السلطات

إلى جانب سبب الرفض المشار إليه أعلاه، أدلت المديرية بسلسلة من الأسباب، مؤدّاها عمليّا تمكين السلطة السياسية من وضع اليد على التشكيلات القضائية بما يشكّل تشريعاً للممارسات الحاصلة في هذا الخصوص منذ 2001، والتي أدّت إلى إجهاض العديد من مشاريع التشكيلات بفعل فيتو هذا الرئيس أو الوزير أو ذاك. ومن أهم هذه الأسباب والتي ورد بعضها ضمن الثوابت، الآتية:

أ- حكم القضاة هذا المحظور الأكبر: استقلال القضاء وظيفي فقط

وفق “المديرية”، تقتصر استقلالية القضاة على استقلاليتهم في أداء وظيفتهم، والذي يجدر أن يحصل من دون تدخُّل. بالمقابل، تبقى إستقلالية القضاة في إدارة شؤونهم (ومنها وضع مشروغ التشكيلات) نسبية. وإذ أسندت “المديرية” حجتها على مبدأ فصل السلطات والتوازن والتعاون فيما بينها “والذي يقوم عليه النظام الدستوري اللبناني عملاً بالفقرة (هـ) من مقدّمة الدستور”، فإنها سارعت إلى تجزئة هذا المبدأ. فبعدما سلّمت بأن أداء “الوظيفة القضائية” يخضع لمبدأي الإستقلال وتاليا الفصل بين السلطات، فإنها أخضعت بالمقابل إدارة شؤون القضاة للتوازن والتعاون بين السلطات. وهذا ما نقرؤه بوضوح في كتاب المديرية حيث جاء: “إذا كان من الواجب أن لا يتدخّل رئيس الجمهوريّة، أو أيّ مسؤول آخر في السلطتين الإجرائيّة والتشريعيّة، في عمل القضاء، أيّ حال قيامه بوظيفته، إلا أنّه من واجب رئيس الجمهوريّة دستوريّاً التدخّل بمعرض المناقلات القضائيّة “إذا ما رأى أنّ ثمّة خللاً حاصلاً من شأنه أن يمسّ وحدة السلطة القضائيّة واستقلاليتها في أداء رسالتها، هاتين الوحدة والاستقلاليّة اللتين يتهدّدهما كلّ ظلم أو غبن أو وضع غير سويّ يلحق بأعضاء هذه السلطة من جرّاء مناقلات لا تُراعي المعايير الدستوريّة من جدارة واستحقاق واختصاص وكفاءة، مضافةً إليها المعايير التي وضعها مجلس القضاء الأعلى والتي تحاكي المعايير الدستوريّة، ومنها الإنتاجيّة والأقدميّة والنزاهة”. ونلحظ تاليا الصلاحيات الواسعة التي اعتبرتها “المديرية” مشمولة بتقدير رئيس الجمهورية، والتي من شأنها أن توليه عمليا إمكانية إجهاض التشكيلات القضائية برمتها بالإستناد إلى هذه الحجة أو تلك وتاليا التأثير على التعيينات فيها. وعليه، بدت “المديرية” وكأنها تشترط إعترافها باستقلال القاضي في أدائه إزاء السلطة السياسية، بأن يتم تعيينه بالتعاون معها، وهو أمر عبثي بالنظر إلى انعكاسات ملكة التأثير في تعيين القضاة (والذي غالبا ما يؤدّي إلى تعيين قضاة مقربين من القوى السياسية الحاكمة) على أدائهم واستقلالهم الفعلي. وبذلك، تكون غلبت “التعاون والتوازن” بين السلطات على الفصل فيما بينها بفعل تجزئة هذا المبدأ، فيما أن أصل المبدأ هو اعتبار التعاون والتوازن بين السلطات تابعين للفصل بينها والذي يبقى هو الأساس. 

ولم تكتفِ “المديرية” بتغليب التعاون والتوازن بين السلطات على هذا الوجه، إنما ذهبت إلى حدّ اعتبار أنّ من شأن تقليص صلاحية السلطة السياسية في هذا المضمار أن يؤدي إلى “المحظور الأخطر” وهو المحظور المتمثل ب “التجربة القاسية” التي “عانت منها إيطاليا في التسعينيات، قبل التخلّص منها، والتي أطلق عليها ما عرف بـحكومة القضاة” (العبارات بين القوسين وردت حرفيا في كتاب “المديرية”). وقد بدت “المديرية” من خلال وصف هذا المحظور بأنه “الأخطر” وكأنّها تغلّب مكافحة “حكم القضاة” على محظور استتباع القضاء (الذي نفهم أنه المحظور الأصغر). ولم تتوقف “المديرية” عند هذا الحدّ من المُطلقات والخطابة، بل ذهبت إلى حدّ استحضار فزاعة “الموت” في حال الإخلال بما اعتبرتْه ثابتة دستورية. وهذا ما نقرأه بوضوح من خلال تضمين البيان كلاما جديدا نسبته لرئيس الجمهورية وقدمته ككلام مأثور له مفاده “أن نشوء السلطات الدستورية من خارج إطار الدستور والقانون هو شكل من أشكال موتها تماما كما “أن “الوجود من خارج إطار الحرية هو شكل من أشكال الموت”، (وهو كلام مأثور آخر منسوب أيضا للرئيس عون). وهي قصدت من ذلك أن أي تحرر للتعيينات القضائية من رقابة السلطة السياسية إنما ينتهي إلى العدم، لتعارضه مع أحكام الدستور من وجهة نظرها.

ومن دون الإنجرار إلى محاكمة للنوايا، من البيّن أن المديرية استخدمت أسلوب الخطابة لتصوير “ظاهر الحقيقة” على أنه الحقيقة، بهدف قلب الأولويات المطروحة من البحث عن تعزيز استقلال القضاء إلى البحث عن ضبط القضاء منعاً لتسلّطه. وقد تمّ ذلك من خلال إبهارنا بخطر احتمالي وغير موجود (عمدت المديرية إلى تضخيمه وتصنيفه على أنه الخطر الأكبر) مقابل التعتيم على المخاطر المدمّرة والمتمثّلة بمافيات السياسة والتي ما فتئت تفتك بمفاصل المجتمع برمته وطمسها تماما، وكأنها غير موجودة.

ومؤدّى هذا الأمر عمليا إنكار حق المجتمع بتعزيز مؤسساته لصدّ مخاطر آنية ومحدقة ما فتئت تدمّره بحجّة تحصينه ضدّ مخاطر قد تحصل بعد عقود.

وتبلغ الخطابة أوجّها مع التأكيد على أن تدخُّل أعيان السلطة التنفيذية الذين يتوجّب توقيعهم على المرسوم (وهم على التوالي رئيسا الجمهورية والحكومة ووزراء العدل والمال والدفاع) لا يشكل “تسييسا للمناقلات القضائية أو تدخلا فيها”، بل على العكس من ذلك، يندرج في خانة الضمانات التي يجب أن تتوافر للقضاة عملا بأحكام المادة 20 من الدستور. وقد استعادت “المديرية” الفكرة نفسها من خلال التذكير بأن الرئيس عون أعلن مراراً وفي أكثر من مناسبة، “أنّ أبواب القصر الجمهوريّ مفتوحة دوماً للقضاة للمساندة في هذا السياق (الحفاظ على الإستقلالية) وعلى جميع المستويات.” ويستشفّ من ذلك أن “المديرية” تفترض أن تدخّل بعض أركان السلطة السياسية هو بالضرورة تدخّل إيجابيّ، وأن خير ضمانة لاستقلال القضاء إزاء السلطة السياسية هو إعطاء الكلمة الأخيرة لأركانها في شأن التعيينات. فبذلك، حسبما ورد في بيان “المديرية” حرفيا، “يحافظ القضاء بعزم وتصميم وبكلّ جوارحه على روافد قوّته من وحدة وهيبة ومهابة، رافضاً بالمطلق كلّ محاولات الاستتباع أو الوصاية أو المحاصصة السياسيّة أو السلطويّة أو المناطقيّة أو الطائفيّة أو المذهبيّة، ومُتصدّياً لكلّ ترهيب وترغيب” ويصبح “قادرا على أداء دوره في المحاسبة والمساءلة واسترداد “الأموال المنهوبة والموهوبة في غير موقعها لتعود إلى الدولة والشعب السليب”.

لا نحتاج إلى كثير من المعرفة ولا الفطنة لندرك أن شكل التعاون كما وصفته “المديرية” إنما يؤدي إلى نتيجة معاكسة تماما للهدف المنشود وفق ما جاء في بيانها، وأن مجمل ما جاء في بيانها في هذا الخصوص هو عبثي محض.

ب- مرجعية رئاسة الجمهورية عملا بالميثاقية

سبب رفض آخر ملازم لما تقدم ولا يقلّ خطورة، وهو يتمثّل في التأكيد على مرجعية رئاسة الجمهورية في مسألة التشكيلات القضائية، مع التلميح أن لها قوة ميثاقية. وقد أسندت “المديرية” هذه المرجعية إلى الأمور الآتية:

(1) أن الدستور حفظ للرئاسة صلاحية إستنسابية (وهي إحدى الصلاحيات القليلة والفاعلة التي أبقاها الدستور له، بعد تعديلات 1990) في إصدار المراسيم العادية أي المراسيم التي لا يتخذها مجلس الوزراء، ومنها مرسوم التشكيلات القضائية. فبخلاف المراسيم المتخذة في مجلس الوزراء، والتي تخضع لمهلة زمنيّة (15 يوما) وآليّة خاصة لردّها (من قبل رئيس الجمهورية)، لا يلزم الدستور رئيس الجمهورية بما يتصل بهذه المراسيم بأي قيد زمني أو قيد آخر سوى القيود الدستوريّة والميثاقيّة. وهذا الادّعاء الذي يوحي بأن تحديد سلطة الرئيس في هذا المجال ليست فقط مسألة تقنية تتصل بمكانة السلطة السياسية إزاء السلطة القضائية، إنما هي مسألة ميثاقية تتصل بشروط تقاسم السلطات بين مختلف الطوائف، مع ما يستتبع ذلك لجهة قلب الإشكالية هنا أيضا من إشكالية استقلال القضاء (وهي قضية حقوقية بامتياز) إلى إشكالية حقوق الطوائف وتحديدا المسيحيين (وهي قضية هوية).

وهذه الحجة غير صحيحة لأسباب ثلاثة:

  • أن تحديد كيفية اتخاذ المرسوم يتم بموجب قانون وليس بموجب الدستور، بمعنى أنه يحق للبرلمان أن يحدد كيفية اتخاذ المرسوم من خلال مجلس الوزراء أو بمعزل عنه وأن يعدل هذه الكيفية متى شاء ذلك. ومؤدى هذا الأمر، تجريد هذه الصلاحية من طابعها الميثاقي أو الدستوري طالما أن مداها يتقرر في البرلمان،

  • أن المجلس الدستوري اعتبر في قراره الصادر في 31/1/2002 تيمنا بالمجلس الدستوري الفرنسي بأنه لا حائل دستوري يمنع مجلس الوزراء من اتخاذ مراسيم في المجالات التي تدخل قانونا ضمن نطاق المراسيم العادية، مما يؤدي عمليا إلى إمكانية ربط رئيس الجمهورية بالمهل الدستورية وتجريده من أي سلطة تقديرية،

  • وأخيراً، أن قانون تنظيم القضاء العدلي نصّ على أن مشاريع التشكيلات تصبح فور إقرارها من مجلس القضاء الأعلى وفق المادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي نهائية وملزمة (وهو أمر تفادت المديرية مناقشته أو حتى التطرق إليه وكأنها تخفي الحجج المضادة لطرحها).

(2) سببٌ آخر لتكريس مرجعية الرئيس يتأتى من مستلزمات قسمه والتي توجب عليه التحقّق من تقيُّد مشروع المرسوم بأحكام الدستور قبل توقيعه. وفيما أن لهذه الحجة ما يؤيّدها لجهة حق رئيس الجمهورية برفض توقيع المرسوم في حال شابته مخالفة دستورية فاقعة كمخالفة المادة 95، فإن “المديرية” بدت وكأنّها تعمد إلى توسيع المخالفات التي تدخل ضمن تقدير الرئيس وفق ما سبق بيانه، لتشمل أي خلل في وحدة السلطة القضائية واستقلاليتها واللذين يتهددهما “كلّ ظلم أو غبن أو وضع غير سويّ يلحق بأعضاء هذه السلطة من جرّاء مناقلات لا تراعي المعايير الدستوريّة من جدارة واستحقاق واختصاص وكفاءة، مضافةً إليها المعايير التي وضعها مجلس القضاء الأعلى والتي تحاكي المعايير الدستوريّة، ومنها الإنتاجيّة والأقدميّة والنزاهة”.

وبذلك، تكون “المديرية” قد نصّبت رئيس الجمهورية رقيبا على حسن تطبيق مجمل المعايير المذكورة، والتي تتعدى في حقيقتها مراقبة دستورية التشكيلات، لتصل إلى درجة مراقبة مدى ملاءمتها. وتبلغ السفسطائيّة والخطابة هنا أوجّها من خلال إعلاء شأن بعض الإعتبارات لا بل إعطاءها قيمة دستورية من دون أن نلقى لها أي أساس، لا في الدستور ولا ضمن معايير استقلال القضاء. ومن أهم الأمثلة على هذه الإعتبارات، اعتبار “وحدة السلطة القضائية الذي قدمته “المديرية” على أنه هدف تحرص عليه الرئاسة حرصها على استقلال القضاء، فيما ليس لهذا الهدف أي أساس دستوري أو قانوني أو حتى قيمي. فما معنى وحدة القضاء؟ وما هو أساس التمسك بها؟ وإذ يخلو الكتاب من أي إجابات في هذا الخصوص، يُخشى أن يكون القصد من الحفاظ على “وحدة القضاء” إعمال المحاصصة السياسية داخله. وهذا ما يتحصل في حال تطلّب تحقيق هذه الوحدة إسترضاء المجموعات المؤثرة داخل القضاء (والتي قد تأخذ طابع مجموعات فئوية ذات هوى سياسي معين) لثنيها عن إنشاء جمعيات جديدة للقضاة. ومن الممكن قراءة الإحالة إلى وحدة السلطة القضائية على ضوء إعلان قضاة نيتهم إنشاء جمعية قضائية جديدة (تحت تسمية الرابطة القضائية) إعتراضا على التشكيلات القضائية، وهي حرية يتعين على القضاة ممارستها بمسؤولية وبالإنسجام مع مبدأ استقلالهم من دون أن يكون لرئيس الجمهورية أن يشجعها أو يثني عنها بأية حال من الأحوال.

(3) الأمر الثالث الذي استمدت منه “المديرية” حجة لتأكيد مرجعية الرئيس ومفاده أن قسم اليمين يؤدّيه رئيس مجلس القضاء الأعلى والأعضاء جميعاً أمام رئيس الجمهوريّة من دون سواه. وهذا الأمر بدوره غير صحيح، طالما أن أداء القسم أمام الرئيس يتمّ من منطلق أنه رمز وحدة الوطن، من دون أن يترتب على هذه الرمزية أيّ صلاحيات خاصة.

ت- حق الفيتو للوزراء أيضا

لم تكتفِ “المديرية” بمنح حقّ الفيتو على مشروع التشكيلات لرئيس الجمهورية وحده، بل أعطت حقا مماثلا للوزراء الذين يفترض بهم توقيع المرسوم، وإن ربطت هذه الصلاحية بمسؤولياتهم الدستورية (المادة 66). وهنا أيضا سهت “المديرية”، في سياق تأكيدها أن هذا التوقيع ليس شكليا، عن الطابع الملزم والنهائي للتشكيلات. وقد بدا بالنتيجة أن لكل من هؤلاء بالإضافة إلى رئيس الجمهورية أن ينصّب نفسه قاضيا على حسن إنجاز التشكيلات وعلى مراعاة المعايير المعتمدة من مجلس القضاء الأعلى. ومن شأن هذا الأمر أن يشرّع جميع الممارسات الحاصلة من قبل، والتي كانت هدفت في عمقها إلى ضمان الحصص السياسية الطائفية للقوى التي يمثلها رئيسا الجمهورية والحكومة والوزراء الموقعون داخل القضاء، والتي شكلت تشكيلات 2017 (والتي وصفتها المفكرة بتشكيلات الأحزاب الثلاثة) تطبيقها الأكثر بشاعة.

3- إعادة إحياء أصول إستثنائية لمحاكم إستثنائية:

فضلا عن ذلك، تمسكت “المديرية” بوجوب تطبيق أصول التعيينات الخاصّة بالمحكمة العسكرية، والتي تولي حقّ اقتراح أسماء القضاة فيها لوزيري الدفاع والعدل، وإن بقي الأخذ بالإقتراح وقفا على موافقة مجلس القضاء الأعلى. وقد تمسّكت “المديرية” بأن هذه الأصول التي تحدّدت في قانون المحكمة العسكرية في 1967 ما تزال سارية المفعول وأن تعديل آلية التشكيلات القضائية بموجب قانون تنظيم القضاء العدلي لم يؤدّ إلى إلغائها. وقد أعطت حججا تقنية عدّة في هذا الخصوص.

بمعزل عن قوة هذه الحجج، يبقى أن مؤدّاها هو إعادة إحياء أصول إستثنائية لمحاكم إستثنائية، فيما أن تفسير القوانين الأكثر انسجاما مع التطور القانوني هو تفسيرها على نحو يحدّ من هذه الأصول ويوسّع نطاق تطبيق القواعد والمعايير العامة لمختلف الهيئات القضائية من دون أي تمييز. وهذا تفسير تجيزه مجمل مبادئ استقلال القضاء والفصل بين السلطات، وبخاصة أن ملاك القضاة العدليين في المحكمة العسكرية محدّد بجدول خاص مرفق بقانون تنظيم القضاء العدلي.

خلاصة

عند التدقيق في مضمون بيان “المديرية”، وبمعزل عن الحجج والزينة الخطابية التي تخلّلته (والتي جاز وصفها بالسفسطائيّة)، نتيقّن أنه مجرّد خطاب رمى ليس فقط لتبرير ردّ مشروع التشكيلات المذكور بل أيضا لفرملة أي خطاب تغييري للممارسات المعتمدة منذ عقود في هذا المجال. فبإستثناء الإشارة إلى المادة 95 من الدستور والتي وردت كذريعة يصعب التسليم بصدقيتها في ظل انتهاج الرئاسة التطييف في التعيينات خلافا للمادة 95 طوال فترة عهدها ومن قبله، يهدف البيان إلى تشريع الممارسات الحاصلة في الواقع من دون أي تطلّع إصلاحي أو تغييري. ولعل خير دليل على ذلك قولها أن ثمة قانونا حديثا (وهي تقصد قانون 1983 الصادر منذ أكثر من 37 سنة) حصّن قدرة القضاة على التصدي لأي تدخل في عملهم وعززه. ويستفاد من هذه العبارة أنّ الرئاسة تعتبر أن الإستقلالية تتمتع بضمانات قانونية كافية وأنّ لا حاجة لأي قانون جديد وأنّ الإشكال الأوحد هو الشطط الذي وقع به مجلس القضاء الأعلى، والذي دعته إلى تصويبه من خلال إنجاز مشروع جديد، بعدما حجزت لنفسها ولسائر أركان السلطة التنفيذية الكلمة الأخيرة وحق الفيتو، مع ما يستتبع ذلك من توسيع لهامش التدخلات السياسية. وفي الإتجاه نفسه، لم تتجاهل “المديرية” اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته العالق أمام لجنة الإدارة والعدل وحسب، بل أنها تضمنت مطالعة دستورية حول استقلال القضاء تتعارض مع المعايير الدولية في هذا المجال، في منحى استباقي لمواجهة أي إصلاح قانوني يضيق من صلاحيات السلطة السياسية على صعيد ضمانات استقلال القضاء.

قد يكون مشروع التشكيلات القضائية سيئا لا يؤسف عليه وهو حكما غير دستوري. لكنه من المؤكد أقل سوءا من تشكيلات 2017 التي هندسها مستشار رئيس الجمهورية الأول سليم جريصاتي وهو يضاهيها لجهة الإخلال بالمادة 95 من الدستور. وإذ يبدو المسار الذي تقترحه “المديرية” مشابها لمسار تشكيلات 2017، فإنها تكون كمن يداوي الداء بالتي كانت هي الداء، تقويضا لأي حظوظ بالشفاء. فلنتابع…

مقالات ذات صلة:

12 ملاحظة لتصويب النقاش في شأن التشكيلات القضائية

تطييف المراكز القضائية والإدارية مخالفة فاقعة للدستور: كي لا تتحوّل الدولة إلى إقطاعات

بيان ثان للمفكرة القانونية بشأن التشكيلات القضائية 2020: نرفض تغليب الاعتبارات السياسية على حقوق المواطنين بقضاء عادل

معركة تحرير النيابات العامة من التسييس والتطييف: تشكيلات قضائية ثورية أم أنصاف حلول تعجز عن التغيير؟

 كيف نستفيد من معركة التشكيلات القضائية؟ لا مشروعية لقاضٍ وصَمَه الارتياب المشروع ولا مشروعية لتشكيلات تحصل في الكواليس

 التشكيلات الإصلاحية” التي ليست كذلك: أو تشكيلات هيمنة “الشخص” على النيابات العامة

 بيان “المفكرة القانونية” حول التشكيلات القضائية 2020: من أجل نيابات عامة قادرة على حماية المجتمع ومكافحة الفساد

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني