العشوائيات تحتلّ الواجهة البحرية في الميناء: ابتسم أنت في مدينة الموج والأفق


2019-06-29    |   

العشوائيات تحتلّ الواجهة البحرية في الميناء: ابتسم أنت في مدينة الموج والأفق

قبل 74 عاماً، ولد مصطفى محمود ياسين “هنا، بين عيدان القصب”، كما يقول. وضعته والدته على يدي “الداية” أم أحمد التي كانت تساعد نساء المنطقة ع “الخليفة”. و”هنا” التي يتحدث عنها ياسين، هي حي التنك في مدينة الميناء. اليوم، بعد 74 عاماً، لم يعد مصطفى ابن محمود ياسين فقط، صار رب أسرة لستة شبان بنى لكل منهم بيتاً في الحي نفسه. “هودي ست بيوت لأولادي الستة، داير ما دار بيتي”.

حول البيت، تسرح طيور الإوز والبط والدجاج، منها تبيع العائلة البيض، كأحد مداخيل عيشها. وهنا تتعرف إلى مصادر رزق متواضعة: بعض الرجال يعملون في لملمة نفايات المنازل مقابل خمسة آلاف في الشهر عن كل بيت في غياب شركات جمع النفايات أو عمال البلدية.

يُعتبر حي التنك أفقر العشوائيات الأربع التي تحتلّ الخاصرة الجنوبية لمدينة الميناء في شمال لبنان، وتحديداً لناحية مدخلها البحري للقادم من بيروت. تعيش في حي التنك 1300 عائلة، وفق إحصاء إحدى منظمات الأمم المتحدة، بحسب ما أكدت رئيسة اللجنة الاجتماعية في بلدية الميناء سماح الزيلع، لـ”المفكرة”.

تظهر الأرقام الموثقة عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الميناء والمعروفة بـ “مدينة الموج والأفق”، أن ثمة تنافساً بينها وبين جارتها طرابلس على احتلال المركز الأول فقراً وحرماناً، وتالياً لجهة السكن غير اللائق. فبحسب “دليل الحرمان الحضري” الذي أعده الباحث أديب نعمة لصالح “لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” (الإسكوا) (2015) فإن 80% من سكان الميناء لا يتمتعون بأي ضمان صحي مقابل 76% من سكان طرابلس. كما أن 84% من سكان الميناء لا يملكون أي حساب مصرفي مقابل 78% من سكان طرابلس.

يرى أديب نعمة، المستشار الإقليمي في الإسكوا أن هذه النسب مرتفعة بفعل أوضاع سكان الميناء عامة وقاطني العشوائيات فيها خاصة. عشوائيات تبدو كأحزمة بؤس في الناحية الجنوبية في المدينة، وإن كانت في صلب نسيجها الاجتماعي والديموغرافي. ويلحظ أن هؤلاء وهم الأفقر حالاً لم ينزحوا إليها من الأرياف فقط، بل يرجح أن يكون نصفهم على الأقل مسجّلين على ذمتها في سجلات قيد المدينة.

عشوائيات الميناء

يُعرّف رئيس بلدية الميناء عبد القادر علم الدين العشوائيات بالأماكن التي بنى فيها مواطنون مساكنهم على أملاك الدولة أو أملاك الغير، مثل جزء من عشوائيتي الحارة الجديدة وحي التنك، علما أن الأملاك الخاصة تعود لعائلات أبرزها أبو جودة والرمادي وفتال والجسر وغيرهم. كما ثمة إنشاءات بنيت على أملاك تعود لشاغليها، ولكن من دون رخص بناء، أو خلافاً لمخططات التنظيم المدني، كما هي الحال في “قواص الحمام”.

وتوسعت أبنية العشوائيات كلها بشكل عامودي وأفقي ومن دون ترخيص لتنتهي إجمالاً بسقف تنك أو إترنيت: “ما منّام بالشتا من صوت المطر”، تقول السيدة الخمسينية فتحية التي جاءت حي التنك في التسعينيات من منطقة البقّار خلال إحدى المواجهات التاريخية بين التبانة وجبل محسن: “قالت لي أختي فيه أرض حدي فاضية، تعي عمري بيت وأسكني فيه”، وهذا ما حصل. وهكذا تحولت الأراضي الخالية حينها إلى عشوائيات مكتظة بالسكان. فتحية نفسها أخبرت جارتها عن أرض فارغة و”متروكة” بالقرب منها، فحضرت هي الأخرى وبنت منزلاً بالقرب من جارتها.

ومن بين العشوائيات، العشوائية المسمّاة بـ”المساكن الشعبية”، وهي مساكن بنتها الدولة اللبنانية بداية السبعينيات، قبل اندلاع الحرب الأهلية، بهدف إسكان عمال معرض رشيد كرامي الدولي، وفق ما يقول أبو جمال، أحد قاطني المساكن الشعبية. ومع اندلاع الحرب جاء مواطنون من الميناء بالدرجة الأولى، ومن عكار والضنية والمنية بنسبة أقل، وسكنوا من دون إذن من الدولة في المباني التي كان بعضها جاهزاً، فيما استكملوا على طريقتهم ما لم يجهز منها. وحده أحمد السنبلي قال أنه انتقل مع كثر إلى المساكن الشعبية “حتى ما يجوا الفلسطينيين يقعدوا فيها، كانت البيوت فاضية وجديدة وعلقت الحرب. منتركهم ياخدوها ونحن نتفرج؟”.

نشأة العشوائيات… وتطورها

تبدو عشوائية الحارة الجديدة على نقيض اسمها. “جديدة” لكنها أقدم العشوائيات “عمرها شي مية سنة”، يقول أبو رياض السبعيني الذي ولد فيها “كان جدي هون ونحن سليلته، أخوتي وأنا وأولاد عمومتنا كلنا عمرنا هون”.

يعيد علم الدين تاريخ الحارة الجديدة إلى ما قبل الثلاثينات: “كانت بساتين وكل بستان فيه بيت”. لم يبقَ من البساتين حتى الإسم. تتوزع ملكيات الحارة، وفق بلدية الميناء، إلى “ملك خاص، وملك عام يكرسه الضم والفرز الذي أقرّ بعد نحو عشرين عاماً على بدء إشغال الحارة”.

وفق مهندس بلدية الميناء عامر المنلا الذي شارك في مشروع الضم والفرز بداية الثمانينيّات، أن التخطيط للمشروع بدأ في 1979 بهدف تنظيم الأراضي التي كانت تعرف بالبساتين في طرابلس والميناء وتخطيطها. تخطيط ينسجم مع تصنيف المنطقة في بداية السبعينيّات ما بين سكني وسياحي وتجاري.

وفق معلومات المنلا، فإن عقارات عشوائية الحارة الجديدة خُصصت في مشروع الضم والفرز كحديقة عامة وطرقات. وعليه، “منح السكان أراضي بديلة كتعويض خارج الحارة، ونال كل منهم أرضاً مع سند تمليك تتناسب مع قيمة ما يملكه في الحارة كأرض ومبنى”. ولذا، فإن أهل الحارة قبضوا تعويضاتهم ولكنهم لم يهدموا بيوتهم أو يسلّموها إلى الدولة “ولا الدولة أخلتهم” كما يؤكد المنلا.

أما عشوائية حي التنك، شقيق الحارة كونه يتفرع منها باتجاه البحر، فيسكنه خليط من المسجلين في الميناء وعكار والضنية والمنية مع فلسطينيين وسوريين. أتى بعض الفلسطينيين الحارة والحي بعد حرب مخيم نهر البارد في العام 2007. بالنسبة للمنلا “لم يكن حي التنك موجوداً في نهاية السبعينيّات. كنا نشوف البحر من الحارة الجديدة، اليوم تغيّر الوضع ولم نعد نرى سوى بيوت التنك في المنطقة نفسها”.

ولا يقلّ عمر عشوائية قواص الحمام عن عمر حي التنك والحارة الجديدة، ويُعرف أيضاً بحي الخنازير، وهو بمعظمه يطل على البحر، وتحديداً خلف مقابر الإنكليز والفرنسيين.

يؤكد علم الدين أن الدولة بنت المساكن الشعبية (التي تحولت إلى عشوائية لاحقاً) على أرض تعود لوزارة الإسكان في أوائل السبعينيات. خلال حرب 1975، “جاء مواطنون وسكنوا فيها من الميناء وخارجها واستكملوا الأبنية على طريقتهم. لو انتظروا استكمالها كانت بتكون بيوتا مرتبة ولائقة للسكن” وفق ما يقول، مؤكداً أن هذه المساكن بُنيت لتباع بالتقسيط على عشر سنوات.

وصل عدد بيوت العشوائية المعروفة بـ “المساكن الشعبية” إلى 300 بيت في التسعينيّات، وفق رئيس بلدية الميناء. بينما يقول “أبو حميد”، كما يناديه سكان الحي في المساكن، أن الناس سكنوا 197 شقة في منتصف السبعينيّات، وغالبية الشقق قُسمت اليوم إلى شقتين أو ثلاث لإسكان الأبناء عند زواجهم، أو للإستثمار”.

في السبعينيّات، كانت شقق المساكن الشعبية نموذجية: “طبقتان، تتمتّع الأرضية منهما بحديقة أمامية وأخرى خلفية. حدائق تحوّلَ معظمها مع الوقت إلى بيوت من تنك”، وفق أبو حميد نفسه: “كل واحد عمّر بحديقته بيتاً وأسكن فيه أولاده أو عمد إلى تأجيره للسوريين لدى قدومهم إلى لبنان مع بداية الأزمة السورية”.

وفعلاً، يمكن ملاحظة اختفاء معظم الحدائق من أمام بيوت المساكن الشعبية لصالح البناء سواء كشقق أو محلات، وكلها مسقوفة بالتنك أو الإترنيت. وعليه، فقدت المساكن الشعبية وظيفتها الأساسية في تأمين سكن لائق للعائلات، كما كان مخططاً لها، لتحل محلها بيوت التنك غير الصالحة للسكن وتستبدل الوظيفة هذه بأخرى تؤوي أناساً مهمشين اقتصادياً، فتصبح العشوائيات مدينتهم الحاضنة.

بالإضافة إلى البناء في الحدائق، ارتفعت طبقات إضافية في المساكن، وفق أبو صالح الذي يعمل في الخردة في المنطقة “أنا مثلاً عمّرت فوق بيت أهلي، ورجع إبني عمّر فوق بيتي، وقسمت شقتي إلى اثنتين لكي يسكن إبني الثاني”. يقول أبو صالح أنه يتسلّى “بتنجير السكاكين في ظل البطالة التي تقتل أهل المنطقة… في ناس ما بتطلّع الألف ليرة بالنهار”.

وسط هذه المعطيات نجد أن العشوائيات تتطور أيضاً للتجاوب مع حاجات سكانها، كغيرها من المدن والأحياء، لكن من دون أن يتغير وضعها القانوني. وكغيرها أيضاً، تستقطب وافدين إليها يستأجرون فيها الشقق، ربما لأنها توفر مسكناً ببدل تأجيري أرخص من بقية أحياء المدينة. ويرصد “أبو حميد” تغيراً في بدل الإيجارات الذي ارتفع مع قدوم اللاجئين السوريين، حيث تم تأجير غرفتين ومطبخ وحمام بـ250 دولار على الأقل في مناطق هي الأكثر شعبية. مع الوقت، صار السوريون يتركون الإيجارات المرتفعة، فانخفضت الأخيرة بعض الشيء. “بس بعدها غالية نسبة لوضع العشوائيات يعني أقل شي 200 دولار لغرفتين ومنتفعاتهما”، كما يقول.

وشكلت العشوائيات ملاذاً للراغبين في تحسين أحوال سكنهم: فهم يقطنون فيها بانتظار توفير ما يلزمهم لشراء شقة صغيرة خارجها، كما هو حال أبو رياض “جمعنا شوية مصاري وأخدنا قرض إسكان، واشترينا شقة بالمينا وتركنا بيت الحارة لإبننا البكر يتزوج فيه”. لكن أبو رياض نفسه يعود دائماً إلى الحارة الجديدة “هون الأغراض أرخص والجو مريح، كل الناس بتعرف بعضها وفي طيبة بين الناس”، يقول.

لذا نجد أن العشوائيات ومنذ لحظة نشوء أي منها، لعبت دوراً أساسياً في إيواء فقراء المواطنين الذين يفتقرون لسقف يحضن نزوحهم من الأرياف الشمالية (عكار والضنية) أو الذين لا قدرة لهم على تحمّل كلفة شراء مسكن مرخص من أهالي الميناء وحتى من طرابلس. وهي، أي العشوائيات، وبالرغم من وصمة الفقر و”اللاقانون”، تبقى مكاناً حيوياً يشهد تحولات دائمة ومستمرة. وقد اختلفت هذه الحيوية في توسّع العشوائيات وشكّلت الخطة الأمنية التي أقرت منتصف 2014 مفصلاً أساسياً في تطور العشوائيات. مع اندلاع الإشتباكات بين جبل محسن والتبانة، كان حبل الأمن ينفلت على غاربه. وحلّت الفوضى في معظم أنحاء الفيحاء، فكثرت المخالفات في العشوائيات “بس تبلش الإشتباكات كانت تكتر شاحنات حجار الباطون والرمل، وكل اللي عنده ولد يعمّر له طابق”، وفق ما يوثق أبو كريم الذي بنى شقتين لولديه قبل 2014. ليس التكاثر وحده سبب بناء عشوائيات إضافية “كمان مع الأزمة السورية صارت الناس تعمر لتأجّر”. مع الخطة الأمنية سُحب فتيل ذريعة “الفوضى” ومعها تحجج بعض العناصر الأمنيين بعدم قدرتهم على دخول العشوائيات، كما اتفق زعماء المنطقة على سحب الغطاء عن رؤساء المحاور الذين كانوا يحمون المخالفين مقابل بدل مادي أو بالمحسوبيات والإستزلام. إلا أن هذا الكلام عن توقف المخالفات، يسخر منه أحد الأهالي الذي أنهى بناء بيت جديد قبل نحو شهرين “كله بيمشي، منعتني القوى الأمنية ورجعت زبطت الوضع”. لأبي صالح رأي نقدي في قمع المخالفات “يعاني السكان من البطالة وقلة فرص العمل، حتى العمل اليومي الذي يتنافسون فيه مع السوري لصالح الأخير في الأجر، ومع ذلك تقمعنا الدولة عن تأمين مساكن لأبنائنا من دون أن تمد لنا يد العون، سواء في تأمين فرص عمل أو في إنشاء مصانع ومؤسسات تخلق وظائف، يعني الواحد منا بيموت وما بيقدر يوظف إبنه دركي أو جيشي إذا ما كان مدعوم”. وطبعاً يشكل امتلاك المزيد من الوحدات السكنية هاجساً للحصول على مزيد من التعويضات في حال الإخلاء أو تسوية أوضاع العشوائيات.

ولكن، كما هي الحال في كل لبنان وربما أكثر في العشوائيات، فإن انتظام الوضع يخضع لمعايير الزبائنية. “بالإنتخابات حماني أحد الزعماء لأن كلمتي مسموعة عند أكثر من خمسين مقترعاً”. وكذلك من خلال الرشوة: “كمان بالمصاري بيزبّط حاله الواحد”.

كشف الشتاء الذي امتدّ هذا العام إلى أواخر نيسان 2019 بؤس حياة سكان العشوائيات. لا طرقات ولا تمديدات للمجارير باستثناء عشوائية المساكن الشعبية وجزء من الحارة الجديدة. يمشي الناس هنا قفزاً فيما يحملون صغارهم. ومن يعجز من الأطفال عن القفز يقع في البرك “شفنا أولاد عم تسبح بالمجارير”، تقول رئيسة اللجنة الشعبية في بلدية الميناء سماح الزيلع. هنا يفضل السكان الهواء الطلق على رطوبة منازلهم. ما أن تشرق الشمس حتى يخرجون إلى الزواريب. هنا تجد طفلاً يتناول طعامه وقد تربع على حجر خفان، وهناك يلعب فتية بالكلّة، في مشهد صار نادراً في المدن. أما الكبار، من نساء ورجال فيتحلقون في دوائر يتسامرون.

والعشوائيات أصناف. فالمساكن الشعبية هي أفضل عشوائيات الميناء لجهة ظروف العيش: “عملنا لهم شبكة مجارير وشبكة مياه، لأن الأبنية الأساسية مرخصة كون الدولة هي التي بنتها” وفق رئيس بلدية الميناء. تقديم هذه الخدمات لقاطني المساكن لم يترافق مع تكليفهم بالرسوم البلدية المعتادة “مش عم نكلفهم”، يؤكد علم الدين “لأنهم يسكنون عشوائيات مخالفة”. كما أن علم الدين يبرر تأمين الشبكة الصحية لهم بمعايير “إنسانية” يبدو أنها لا تنطبق على العشوائيات الأخرى. يسخر أحد سكان عشوائية المساكن الشعبية من هذا الأمر: “يكفي أن يتصل أحد زعماء طرابلس ممن ينتخبهم أهالي المنطقة بالجهات المعنية حتى يتم كل شيء، خاصة في موسم الإنتخابات”.

الحارة الجديدة: أقدم العشوائيات

الحارة الجديدة، على نقيض اسمها هي الأقدم بين عشوائيات الميناء. يعيد أبو غالب نشأة الحارة الجديدة إلى “أكثر من مائة سنة”، بينما استُحدث “حي التنك مع الحرب في لبنان” وفق ما يقول. كانت الحارة عبارة عن أراضٍ زراعية يعمل فيها الفلاحون لصالح العائلات الكبيرة “كان جدودنا مستأجرين جزءاً منها من آل الجسر، وفي ملاك غير بيت الجسر أيضاً”. يسكنها اليوم آل الأيوبي والعبوشي، والنظام والغريب. اشتغل جد أبو غالب “بالأراضي الزراعية، يعني وكلاء عند العائلات الأساسية المالكة”. مع الوقت “بنى منازل لأبنائه في الأرض نفسها بعدما اختفى ملاك الأراضي الرئيسيون”. وهكذا فعل غيره ممن لم يشتروا من الملاك مع الوقت. بقيت الأراضي إذاً ملك العائلات الكبرى التي تغيبت عنها، وحضر الفلاحون الذين لا يملكون الأراضي.

مع مشروع الضمّ والفرز، استملكت الدولة طرقات وحديقة عامة بمساحة أربعين ألف متر مربع لصالح بلدية الميناء. مشروع الضم والفرز ما زال على الخرائط في منطقة الحارة الجديدة التي سيذهب منها نحو 20 ألف متر مربع للحديقة العامة، فيما خُصصت بقيتها للطرقات التي يصل عرض بعضها إلى 12 متراً تفصل بين مبانٍ ستشيّد على الجهتين.

يسكن في الحارة الجديدة وفق رئيس بلدية الميناء عائلات من “الميناء وطرابلس وعكار والضنية وسوريون ومجنّسون”. بعض هؤلاء تملّكوا مع الوقت الأراضي التي بنوا عليها منازلهم: “كان جدي مستأجراً رسمياً هون ومات أصحاب الأرض وبعضهم هاجر” يقول أبو غالب. من بيت أبيه فقط “تفرّع خمسة أو ستة بيوت أنا وأخوتي عمّرنا ع جزء من أرض جدي وأعمامي وأولادهم كمان عمروا ع أرض جدي”. تحسّنت حال أبو غالب فانتقل للسكن خارج الحارة الجديدة “بس تركت بيتي هون حتى يسكن فيه إبني”.

إلا أن ما تقدّمه عشوائية الحارة من نسيج اجتماعي متكامل، لا تقدّمه مناطق أخرى في الميناء بالنسبة إلى السكان. أبو غالب ليس سعيداً مع أنه سكن في منطقة “مرتبة” في الميناء. “الناس بالحارة هون بتلم ع بعضها، هونيك ما حدا بيحكي مع حدا أو بيساعده”. يقال أن الحارة الجديدة كما حي التنك والعشوائيات الأخرى “كانت عصيّة على دخول القوى الأمنية”. كلام لا يرغب أبو غالب بتوثيقه “شو بدنا بالماضي، بعد الخطة الأمنية راقت الأوضاع بكل المناطق ومنها الحارة”.

يحن أبو غالب إلى حياة الحارة قديماً. “كانت مقالع وتلال رمل صغيرة، ونلعب عليها وتبرّك بالشتا مي ونلملم قبابيط. والبحر حدنا نروح نسبح بالبحر”.

حي التنك

تعرّض ناس حي التنك لضربة موجعة مع الدعاوى القضائية التي رفعها عليهم مالكو العقارات فيه. “عندما صدرت أحكام بالإخلاء، مُنعت الجمعيات من العمل الإغاثي والإجتماعي في حي التنك”، وفق رئيسة اللجنة الشعبية في بلدية الميناء سماح الزيلع “رغم حاجة المنطقة”.

في حي التنك، تسكن سيدة فرنسية متزوجة من لبناني “تعرفت عليه ببلدي وحبيته”. جاء الحب بالسيدة إلى حي التنك “ما كنت محجبة وكانوا يلاقوا لبسي غريب”، تقول. مع الوقت تحجبت فلورنس الفرنسية وصارت تعين زوجها من الدروس الخصوصية التي تعطيها لأبناء الحي والمنطقة “بعلّمهم فرنساوي”.

تحب “المعلمة”، كما يناديها أولاد الحي، الحياة في حي التنك “تعودت وهون في محبة وكأننا ببيت واحد، والحياة أجمل من المناطق التانية”. عندما عادت مع زوجها من فرنسا، وهبها حماها غرفة في بيته في الحارة الجديدة “بعد سنتين ذهبت لزيارة أهلي وساعدوني حتى اشتريت هذا البيت في حي التنك”، تقول وهي تشير إلى منزلها المؤلف من غرفتي نوم وصالة: “اشتريناه بمليوني ليرة”.

يعتبر طه الثمانيني، الرجل الأكبر سناً الذي ما زال على قيد الحياة في حي التنك. يقول أنه ولد في الحي وتحديداً بين عيدان القصب على الجهة البحرية. “لمين الأرض يا طه؟”، “ما بعرف” يرد الرجل الذي يعجز عن الحديث بسبب مرض أصابه في حنجرته. يقول بصوت مخنوق يخرج من فتحة في العنق “ما شفنا حدا سأل إلا بعد الضم والفرز”. الضم والفرز الذي قسّم المنطقة عقارات وصنفّها ووزع الملكية ما بين خاصة وعامة، مع لحظ وجود حديقة تلامس مساحتها الأربعين ألف متر مربع وتقع على جزء من حي التنك وشقيقته الحارة الجديدة.

كبُر طه وأخوته الخمسة، وابتنى كل من بينهم منزلاً له، ومن كل واحد من بينهم تفرعت منازل لأولادهم: “أنا عندي تلات شباب، عملت لكل واحد بيت”. وهكذا، صار حي التنك يتوسّع بتوسع العائلات، و”الحبل ع الجرار”، يقول في إشارة إلى نية أبنائه بالتوسع أيضاً لإسكان أبنائهم.

مع الحفر الصحية غير المدروسة لمنازل حي التنك وبعض الحارة الجديدة، تختلط بعض مياه الآبار بالمياه الآسنة “مقضايينها مرض بمرض”، وفق ما تقول أم جميل.

الطرقات الغارقة ببرك المياه المتسخة تعج بالجالسين على كراسٍ ينتظرون فرصة عمل من هنا أو هناك “ما في شغل” هو لسان حال الجميع الذين ينتظرون “اللاشيء” كما يقولون “مصيرنا مجهول وحياتنا معلقة مع أولادنا”.

أعداد مجهولة

لا أحد يعرف عديد سكان العشوائيات. حتى “ضباط الإرتباط” بين القوى السياسية والمقترعين الذين يتنبهون فقط لنسبة الناخبين في المنطقة. هنا يختلط حابل الانتخابات ما بين طرابلس والميناء وعكار وجزء صغير من الضنية، وفق خليط شاغلي العشوائيات، ومعهم نسبة من الفلسطينيين والسوريين الذين ازدحموا في المكان في إثر الحرب في بلادهم.

لا تنسجم العشوائيات مع شعار المدينة الذي يستقبل الآتي من بيروت بعد المنعطف نحو الداخل الطرابلسي: “ابتسم أنت في مدينة الموج والأفق”. تأخذ هذه العبارة، المرفوعة فوق الطريق السريعة نحو مدينة الميناء الزائر إلى الجمال المُتخيل للمدن البحرية المستلقية على حوض البحر الأبيض المتوسط.

الميناء نفسها التي تدخل البحر على شكل رأس، يشبه رأس بيروت البحري إلى حد ما، والمتداخلة مع طرابلس إلى حد اعتبارهما مدينة كبرى موحّدة، لا يشي موقعها السياحي وتاريخيّتها بالفقر الذي يتكاثر منذ عشرات السنين على واجهتها البحرية. الواجهة البحرية نفسها المتآكلة بفعل العشوائيات السكنية والأوضاع المزرية لأهلها.

هذه الحال تضرب الميناء في صميم اقتصادها. وفي مقارنة بسيطة بين الواجهة البحرية لبيروت حيث يلامس سعر متر الأرض سقف العشرة آلاف دولار، لا تجد في الناحية الجنوبية للميناء من يشتري قرب العشوائيات بـ 500 دولار للمتر، بينما يصل إلى ألفي دولار في الناحية الشمالية للمدينة نفسها، وفق رئيس البلدية عبد القادر علم الدين.

مساكن بديلة أم تعويضات؟

كان حل المشكلة مطروحاً، وفق رئيسة اللجنة الشعبية في بلدية الميناء سماح الزيلع، عبر وزارة الشؤون الإجتماعية: “قالوا بيبنوا بيوت شعبية وبينقلوا عليها سكان العشوائيات”، ولكن الحديث عن الموضوع توقف، ومعه بناء المساكن الشعبية المزعومة.

يروي رئيس بلدية الميناء أنه بحث وضع حي التنك مع رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري قبيل اغتياله “حكيت دولته وحاولنا تأمين المصريات للتعويض لنخلي الساكنين في الأملاك العامة لننفذ مخطط الضم والفرز. ولكن للأسف، استشهد الرئيس وما كفينا بالموضوع”. يعتبر علم الدين أن حل مشكلة عشوائيات الواجهة البحرية المقضومة من مدينته هي “مسؤولية الدولة، ولا يمكن للبلدية أن تحلها”. والتعويض هنا هو الحل في الحارة الجديدة وحي التنك، كونه لا مجال لتسوية المخالفات وتشريعها.

يقول أحد العاملين في جمعية خيرية تعمل في المنطقة أن أحداً لا يترك بيته طمعاً في التعويضات “بعد إخلاء عشوائية راس الصخر في الميناء، ودفع تعويضات لم يعد أحد يتخلى عن بيته، لا بل تتقاسم البيت عائلتان أو أكثر”.

وتعزز طريقة تعاطي الدولة مع منطقة راس الصخر توقعات شاغلي العشوائيات. فقد سبق ودفعت الدولة اللبنانية “عبر وزارة المهجرين مبالغ تراوحت ما بين عشرة وخمسين مليون ليرة لبنانية لكل وحدة سكنية في عشوائية راس الصخر في 1996 وأخلت سكانها”، وفق ما يقول مهندس بلدية الميناء عامر المنلا. ولكن السكان الذين تم إخلاؤهم من راس الصخر “جاؤوا إلى الحارة الجديدة وبنوا مساكن عشوائية أخرى لهم، بمعنى آخر احتلوا أملاك تانية بدل التي قبضوا عنها تعويضات”، وفق ما قال. وكما الحارة الجديدة وحي التنك، فإن سكان راس الصخر كانوا من أهل الميناء ومن عكار والضنية وبعضهم كان من فقراء طرابلس.

لذا تجد ساكن عشوائية كأبي محمود يحتفظ بمفتاح منزله المؤلف من غرفتين ومنتفعاتها حتى بعد أن اشترى شقة سكنية في المنطقة المصنفة “مرتبة” من الميناء “بخليها لإبني، إلنا تعويض ليش بدنا نخسره؟” يقول بما يشي بانتظار السكان تعويضات تسمح لهم بشراء مساكن بديلة أو بالحصول على شقق في حال نحت الدولة إلى حل المشكلة بتشييد أبنية للسكن الشعبي.

الهشاشة أو العيش على وقع التبليغات القضائية

مع بدء صدور الأحكام القضائية لصالح أصحاب الأملاك الخاصة في حي التنك قبل نحو خمس سنوات، أصدر محافظ الشمال قراراً منع بموجبه عمل المنظمات الإغاثية في الحي. وطبعاً لم تقدم بلدية الميناء أي خدمات لسكانه من منطلق عدم تكليف مخالفين للقانون وتشريع وجود عشوائيات.

ولذا، مع الأحكام القضائية والغرامات المالية التي تتوالى على العديد من سكان حي التنك، لم يعد الأهالي يتجرأون على إصلاح منازلهم خوفاً من إخلائهم. أم جميل واحدة من هؤلاء. تهرب أم جميل من البيت كلما أخبرها سكان مدخل الحي بقدوم غريب قد يكون رجل أمن أو موظفاً في المحكمة “حكموني غيابي بالإخلاء، وين بروح؟” تقول لتبرر تجنبها تبلغ الحكم.

وخوفاً من الإخلاء، تعيش السيدة الستينية مع ابنها في غرفتين ومطبخ مفتوح على الشتاء لا يغطيه سوى سقف تنك فيما لم تستكمل جداره الخلفي “بركي طلعونا من البيت وبدنا نتدين لنكمل بيتنا”. يسكن بالقرب من أم جميل ولداها الآخران “هودي عمّروا حدي، والصغير بيتزوج وبيعيش معي، بس ما عنده شغل حرام، وهو خاطب من سنتين ورح تتركه خطيبته”.

لدى جار أم جميل عبد الرحمن العكاري دستة أوراق من الدعاوى القضائية والغرامات التي دفعها، ومن الأحكام بالإخلاء.

قبل 22 عاماً، وجد العكاري هذا البيت الذي يسكنه اليوم “كان خربة ومهجور، زبّطته وسكنت فيه مع زوجتي”. منذ نحو 15 عاماً تتوالى الدعاوى القضائية عليّ من الرمادي صاحب الأرض”. يقول العكاري أن الرمادي سامحه بالسكن في أرضه “سامحني قدام القاضي ورجع رفع عليّ دعوى ما بعرف ليش”.

يصف العكاري تعاطي القاضي معه بـ”المتفهم والمتسامح”. فالقاضي، كما يقول “بيعرف إننا معترين ومشحرين وما في محل نروح عليه، وعشان هيك أجل ويؤجل جلسات كتير وبقينا سنين بالمحاكمات”. اليوم وبعدما تمكن الرمادي وبعض ملاك الأراضي في حي التنك من الحصول على أحكام بالإخلاء “صار لازم الدولة تحل مشكلتنا”، وفق ما يقول. لا يريد العكاري حلاً على طريقة ما حصل مع جيرانه “ضحكوا عليهم وعطيوهن كل واحد مليونين إلى خمسة ملايين ليرة وأخلوهم وهدموا بيوتهم، بدنا بيت مقابل بيت، المبلغ ما بيكفي لبناء غرفة صغيرة ومن أين نأتي بالأرض لنبني عليها؟”.

استثمار ربطاً بالسوريين

مع الأزمة السورية دخل مفهوم استثمار العشوائية في ذهن بعض سكانها. ولم يعد تطور العشوائيات يقتصر فقط على الحاجة السكنية لأبنائها. يقول مهندس بلدية الميناء عامر منلا أن الأزمة السورية زادت من عشوائية المناطق نظراً إلى استثمار السكان للمباني والمساحات الخالية “صاروا متل تجار البناء، يعمروا ويأجروا”. يروي أنه كان يشرف على ورشة شبكة المجارير في المساكن الشعبية عند الحد مع الحارة الجديدة حين وفجأة “نبت بيت على الرصيف المخصص للمارة”، وهكذا دواليك. بعد شهر عاد إلى المنطقة فلم يجد الرصيف بل صفاً من البيوت المسقوفة إما بالتنك أو الإترنيت.

تضاعف عديد منازل العشوائيات كلها، وسقفت طبعاً بالتنك والإترنيت، مما أوجد مداخيل للسكان الفقراء أساساً: “صار كل واحد في حده فسحة أرض يبني فيها أو يبني فوق بيته ويؤجر كما الحارة الجديدة”، يقول ياسر الناظر. أم جميل السورية، التي فقدت زوجها في الحرب، استأجرت في الحي “ما في ورقة، اتفقنا ع الكلام وبياخدوا منا 250 دولار عن بيت من غرفتين ومطبخ وحمام”.

حرمان الميناء بالأرقام

 

لا تتناسب مؤشرات الفقر في الميناء مع مقدراتها المتاحة أو الممكنة للإستثمار كموقعها على البحر يزنرها من ثلاث جهات باستثناء الجهة الرابعة المتصلة بطرابلس. ولا بقطاع الصيد البحري الذي يُعتبر من الأهم في لبنان، ولا بصيانة المراكب أو الحرفيات كمصدر عيش، ولا حتى بموقعها السياحي وجزرها المقابلة التي يمكن أن تدر مداخيل جيدة على المدينة وأهلها.

ووفق دليل الحرمان الحضري (2015) الذي أعده المستشار الإقليمي أديب نعمة لصالح “الإسكوا”، فإن نسبة الأسر المحرومة في الميناء تصل إلى 63% مقابل متوسط مدينة طرابلس البالغ 57%، فيما تتفوّق الميناء بنقطتين على طرابلس في نسبة الأسر المحرومة جداً وتبلغ فيها 28%.

وتبدو أرقام الميناء صادمة جداً حيث لم يحصل 81% من أبنائها على شهادة ثانوية، ويعيش 60% من سكانها في منزل مرتجل يعيش فيه أكثر من شخصين في غرفة واحدة. وتفتقر 28% من المنازل لأي وسيلة تدفئة أو تبريد. ويعجز 34% من سكانها على الإشتراك بمولّد كهرباء، و80% من أرباب الأسر ليس لديهم أي تأمين صحي. و40% من أهلها مرضوا ولم يتمكنوا من متابعة علاجهم. وولد 26% من أطفالها خلال إجراء الدراسة خارج المستشفى، فيما لا تملك 84% من أسرها حساباً مصرفياً، و65% ليس لديهم سيارة، ولم يزر 88% من بينهم أي مقهى أو يذهبوا في نشاط ترفيهي في الشهر الأخير لإنجاز دراسة دليل الحرمان الحضري.

  • نشر هذا المقال في العدد | 60 |  حزيران 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

 منحة السكن ومحنته

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني