العدالة بعيون من ذاقوا ظلمها ولازالوا يأملون في عدلها.. حوار مع خميس الشماري ومحمد عبو وصالح المنصوري


2017-06-29    |   

العدالة بعيون من ذاقوا ظلمها ولازالوا يأملون في عدلها.. حوار مع خميس الشماري ومحمد عبو وصالح المنصوري

قضت محكمة أمن الدولة سنة 1969 بسجن خميس الشماري الذي كان طالبا جامعيا وناشطا بحركة آفاق تونس اليسارية مدة عامين ونصف لتهم  تتصل بنشاطه النقابي الطلابي والسياسي. بعد أحد عشر عاما تقريبا، اقتيد  “صالح المنصوري” الذي كان يشتغل قاضيا ماليا إلى المحكمة على خلفية نشاطه بحركة الاتجاه الإسلامي، فقضت ذات المحكمة بسجنه مدة عشرة أعوام. وبعد عشرين عاما أخرى، مثل أمام القضاء العدلي وبتهم حقّ عامّ هذه المرة المحامي محمد عبو الذي لم يعرف عنه التزامٌ بخط  إيديولوجي ليصدر في حقه حكم بالسجن لمدة أربعة أعوام في قضيتين منفصلتين سببه الحقيقي نشره لرسائل بالمواقع الالكترونية تشهر بالفساد المالي لأسرة رئيس الجمهورية حينها زين العابدين بن علي. فرّق عامل السن بين الشخصيات الثلاث، إذ ينتمي كل واحد منهم لجيل من الأجيال التي عايشت تجربة الجمهورية الأولى. كما فرق بينهم معيار الإنتماء السياسي، حيث جسّد كل منهم لونا سياسيا. بالمقابل، جمعت بينهم تجربة الخضوع للمحاكمة السياسية كما جمعهم اهتمامهم بالشأن العام قبل الثورة وبعدها بصفة ناشط حقوقي وسياسي. اتجهنا لكل من هذه الشخصيات على حدة لسؤاله عن القضاء واخترنا أن يكون محاورهم قاضيا. فكان أن خرجنا عن خطاب نمطي ساد بعد الثورة، قوامه أن يتحدث القاضي عن القضاء بصفته العارف به وبحاجياته وطرقنا تصورا يكون فيه القاضي من يبحث عن القضاء في تجربة من يعرفونه حقيقة (المحرّر).

أجمع محدثونا الثلاثة على الدور الباهت للقضاء في المحاكمات التي تعرضوا لها. فتذكر خميس الشماري كيف “كان ضمن وفد طلابي تنقل لمكتب عميد كلية العلوم بتونس للتفاوض معه بشأن الإحتجاجات الطلابية وكيف  وجد هناك قوات الأمن في انتظاره فضبطوه بشكل عنيف رغم قدسية مكان الإعتقال”. وإذ يشير الشماري إلى أن هذا التوقيف حصل بحضور وكيل الجمهورية، فإنه يردف “لم أستوعب إلى اليوم أمره، وظل السؤال الذي يلازمني: كيف سمح القاضي بأن أعنّف بحضوره؟”

تعرّض لذات الصدمة من القضاء صالح المنصوري الذي يذكر “أنه تمّ إيقافه يوم 24-07-1981 بتهمة الإنتماء لجمعية غير مرخص بها وترويج أخبار زائفة والإساءة لشخص رئيس الجمهورية”… “لم يتمّ إعلام المجلس الأعلى للقضاء باحتجازي وتمت محاكمتي من دون رفع الحصانة القضائية الجزائية رغم أني كنت قاضيا مباشرا  ليحكم علي بالسجن في  جلسة إعتقدت أنها ستنتهي بالتصريح ببراءتي”.

وذات الخيبة كانت في انتظار محمد عبو الذي يذكر لنا “أنه أعلم قاضي التحقيق بتاريخ 02-03-2005 بكونه يتمسك برفض الإجابة عن الإتهام لعدم ثقته في القضاء. لكن قاضي التحقيق اختار أن يدلّس محضر البحث بأن أملى على الكاتب أنه يطلب التأخير”.  

استخلص خميس الشماري من التجربة “أن القضاء كان تحت قبضة السلطة والقضاة كانوا ينفذون فقط التعليمات القاضية بترتيب أحكام جزائية نافذة، بما جعل دورهم في المحاكمة” باهتا لا يستحق الذكر. فحتى الأسئلة التي يطرحونها تظهر سطحية وهو أمر يجعله يشعر نحوهم “بالشفقة” لأنهم كانوا يرهقون أنفسهم بتمثيل دور العدالة فيما كانوا يقومون فقط بتنفيذ تعليمات محددة دون أن يكون له دور خاص بهم يبرز قناعاتهم”. ذات الفكرة أكدها محمد عبو الذي قال “أن ارتهان القضاء للسلطة التنفيذية عرف أوجه خلال فترة حكم زين العابدين بن علي”، إذ شهدت حينها الساحة القضائية محاكمات وصفها بالتعيسة. واستشهد عبّو في هذا السياق بمحاكمة حمة الهمامي وسمير طعم الله وعبد الجبار المدوري أمام الدائرة الجناحية بالمحكمة الإبتدائية بتونس بتاريخ 02-02-2002   ليذكر أن هؤلاء اعترضوا على حكم غيابي صدر ضدهم سنة 1999 على خلفية اتهامهم بالإنتماء لجمعية غير مرخص فيها. وعوض أن يبتّ حينها القاضي في اعتراضهم شكلا كما يفرض ذلك القانون، اكتفى بالتصريح في الجلسة: “حمة الهمامي .. يقعد الحكم كيما هو”. فكانت الجلسة ومن بعدها الحكم  فضيحة قضائية مدوية  عرت منظومة قضاء التعليمات”. وإن اتفق  خميس الشماري مع محمد عبو في توصيفه لتبعية القضاء للسلطة السياسية خلال فترة حكم الرئيسين بورقيبة وبن علي، فإنه اختلف معه في تفاصيل تصور السلطة للقضاء. فذكر “أن آخر اهتمامات بورقيبة كانت القضاء”. وعزا المشاري الموقف البورقيبي من القضاء لأمرين، أولهما أن بورقيبة كان محاميا وهو يعي بالتالي وبحكم خبرته الوظيفية ما يمكن أن يشكله قضاء مستقل من خطر على سلطته، وثانيهما شخصي ويعود لكون بورقيبة كان ينظر للقضاة نظرة دونية. وهو أمر كشف عنه في خطاب له ذكر فيه أنه “انبهر في مشوار المحاكمات التي تعرض لها بقاضٍ وحيد كان فرنسي الجنسية. أما بقية القضاة فكانوا مجرد أدوات لتنفيذ التعليمات.” ويقدر الشماري “أن بن علي وعلى عكس بورقيبة – اهتم  بتكوين القضاة لكن ذلك كان منصبا لغاية توظيفهم سياسيا لفائدته وأعطى بعض الإعتبار للقضاة وذلك كان بغاية وضع اليد على القضاء لا غير”.

من جهته، وجد صالح المنصوري في “القمع السياسي وغياب استقلالية القضاء قبل الثورة المبرر لقراره بمواصلة النشاط السياسي بحزب حركة الإتجاه الإسلامي رغم أنه كان قاضيا مباشرا وأن القانون يحجر عليه الإنتماء للأحزاب السياسية، ف “الجو الخانق فرض علي ذلك”. وذكر محدّثنا أن “هذا الأمر تغير بعد الثورة. وهذا ما يفسر قراره بعدم الإنتماء للحزب الذي كان ساهم في تأسيسه طيلة الفترة التي عاد وباشر فيها القضاء… فبعد الثورة، لم يعد هناك منع للعمل السياسي وصارت السياسة خيارا بتوفر المسارات الأمر الذي كان مفقودا في السابق”. ولا يقفمحدثنا عند هذا الحد، إنما يذهب إلى حدّ إدانة ما لحظه “في المشهد القضائي بعد الثورة من ظاهرة تتمثل في عدم التزام عدد هام من القضاة بالحياد السياسي، حيث طغت عليهم التوجهات الإيديولوجية وتجاوزوا في ذلك حسبه كلّ الحدود”. وإذ يؤكد المنصوري أن حركة النهضة “سعت للتأسيس لقضاء مستقل وحاولت تحقيق ذلك عبر عدم التدخل في الملفات القضائية”، يرى أن “مجهودها انتهى للفشل” محملاً مسؤولية ذلك للقضاة ولاحتدام الصراع السياسي. فجمعية القضاة التونسيين التي كان يفترض أن تكون درعا يحمي الثورة، طغت عليها وفق المنصوري “الحسابات السياسية وأخطاء التسيير بما أضر بسمعة القضاء والقضاة” ولم تكن أمام حركة النهضة في ظلّ الأجواء السياسية “خيارات كبرى خاصة في التعامل مع ملف القضاء”. لم يكن لخميس الشماري ذات التقييم  لعمل السياسي على القضاء بعد الثورة، إذ قال: “لم نلمس من الحكومات المتعاقبة  سوى شعارات رنانة ومبهمة عن استقلالية القضاء وغيرها، من دون أن يقترن ذلك بأي اهتمام حقيقي بالملف القضائي”. وذات الاتهام للحكومات وجهه محمد عبو الذي ذكر “أن ملف القضاء لم يتمّ فتحه من قبل أي حكومة  وذلك قصدا وبغاية إضعاف القضاء الذي يراد له أن يبقى خاضعا للسلطة ومن ثمة تطويعه لخدمة سياساتها”.

لم نسأل محدثينا هنا وهم يقيمون القضاء بعد الثورة عن الإصلاحات الدستورية والتشريعية وانتظرنا منهم الحديث عنها ولكن أي منهم لم يتعرض لهذه المكتسبات في حديثه عن استقلالية القضاء. وقد بدا واضحا أنهم يتفقون على إعطاء الأهمية في تحقيق الإستقلالية للقاضي.

دعا المنصوري القضاة لالتزام الحياد الذي اعتبره الشرط الاساسي لاستقلاليتهم فقال: “من الضروري أن يبتعد  القاضي عن السياسة وينأى  بنفسه عن الأحزاب السياسية خاصة وأننا اليوم في مرحلة تأسيس للمبادئ الكبرى وأهمها حياد القاضي. وبالتالي، فلا حياد عن مبدأ الحيادية الذي هو عقلية بالأساس نتدرب على اكتسابها” ليضيف  “أن ما يصله من أخبار عن تلاعب  بملفات قضايا لا يجعله مطمئنا”. هذا الموقف يعارضه نسبيا محمد عبو الذي يذكر بأن القضاء أصبح “أكثر استقلالية بعد الثورة”، إلا أنه يؤكد أنها استقلالية نسبية فرضها الواقع السياسي لكنها لم تصل بعد إلى مرتبة الإستقلالية الحقيقية. فالإستقلالية الحقيقية يجب أن يحققها القاضي ببحثه عن سبل تحقيق العدل”. ويدعو هنا عبو القضاة إلى ممارسة الجرأة “بفصل الملفات الكبرى خصوصا منها المتعلقة بالفساد”. بالمقابل، يؤكد خميس الشماري “أن القاضي حالة فكر ولا يمكن لقوانين صقل قاض كما نريده… فلا معنى للقوانين دون تربة خصبة”. ويدعو الشماري إلى إيلاء مزيد من الإهتمام “بتكوين القضاة لما لمسه من نقص في تكوين القضاة الثقافي داعيا لايلاء الجرأة القضائية الأهمية التي تستحق في هذا التكوين. فنحن لا نطلب من القاضي أكثر من الجرأة الكافية لعدم قبول التعليمات”. ويؤكد الشماري أن هذا الأمر “يشترط توفير ضمانات مادية للقضاة ليستشعروا استقلاليتهم”. وهي ضمانات أوضح محمد عبو “أن القضاء ما زال يفتقدها في ظل تردي وضع المحاكم والوضع المادي للقضاة”. لكنه عاد ليؤكد أن غيابها “لا يعفي القضاة من مسؤولية ممارسة الإستقلالية.”

إنتقلنا في حديثنا إلى صورة القاضي فطرحنا على محدثينا السؤال “عنالقاضي والإعلام”. وطلبنا منهم تقييم حضور القضاة الإعلامي. أجاب المنصوري بأنّ مبالغة القضاة في الحديث عن الفساد في الإعلام أدى للمسّ بالثقة العامة للقضاء وكان بالتالي خطابا غير موفق. ذات التقييم السلبي وجدناه عند الشماري الذي اعتبر أن “من قادوا الحضور القضائي في الإعلام لم يتركوا إنطباعا إيجابيا” ملاحظا أنه يعتبر علاقة القضاء بالاعلام معادلة صعبة يجب الحرص على إنجاحها. “فالقاضي لا يجب أن يكثف ظهوره الإعلامي بشكل يكسبه صفات النضالي التحريضي، الشيء الذي يتعارض وصفات القاضي بالأساس”. من جهته، تمسك محمد عبو بأن “القاضي يجب أن يكون حاضرا في المشهد الاعلامي، لكنه اشترط في ذلك احترامه لصفته كقاض”. وعن تقييمه للحضور السابق للقضاة إعلاميا، أكد المنصوري أنه “حضور يشوبه النقص ويترك إنطباعا سلبيا.” وجوابا عن السؤال حول الثقة العامة في القضاء، رأى محمد عبو “أنه وخلال سنة 2011 كان الرأي العام فعلا عنصرا مؤثرا في القضاء لكن ذلك تراجع لاحقا”. ويؤكد هذا الإستنتاج خميس الشماري الذي اعتبر أن عموم الشعب “لم يعد يهتم بإستقلالية القضاء وإن كان حديثهم اليومي يؤكد عدم ثقتهم في القضاء وهو أمر يبرز عند ادعائهم حصول تدخلات في القضايا التي تتعلق بهم”.

وفيما يؤكّد من جهته محمد عب أنّ جانباً من الضغوطات التي يتعرض لها القضاء اليوم ليس من هدفها استقلال القضاء بل خدمة قطاعات مهنية ويقترح بالتالي لدعم استقلالية القضاء “سنّ قوانين تمنع تجمّع المواطنين حول رحاب المحكمة وبقاعة الجلسة بغية التأثير على قرارات القاضي. فالمبالغة في الضغط على القضاء تفضي حتما لإضعافه. فنحن قد نربح معركة قطاعية مقابل خسارة القضاء”. وبمناسبة الحديث عن القطاعية، يختم خميس شماري لقاءنا بتنبيهه القضاة من خطورة الخطاب القطاعي الذييدفعون تجاهه والذي يمكن أن يؤسس لدويلة قضاة بما يتعارض مع انتظارات الثورة من القضاء.

نشر في العدد 8 من مجلة المفكرة القانونية في تونس

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني