العدالة الدستورية في زمن الإختباء


2016-01-26    |   

العدالة الدستورية في زمن الإختباء

بات الكلام عن المجلس الدستوري في لبنان من الأمور التي تدفع إلى التندر. فهو في الحقيقة لا يكتفي بمراكمة المخالفات المتعلقة بعمله وكينونته، بل يصر المرة تلو الأخرى على اتخاذ قرارات مخيبة للآمال وأقل ما يقال فيها انها لا ترقى للمهمة النبيلة التي أناطها الدستور بهذه المؤسسة التي يشكل وجودها ركيزة دولة القانون. ولا بد لنا قبل التعليق على قراره الأخير رقم 1/2016 تاريخ 7/1/2016 حول قانون استعادة الجنسية من تذكير القارئ بمسيرة هذا المجلس، ما قد يساعدنا على تكوين صورة أفضل لفهم الوهن المزمن الذي يضرب قراراته. ومن مآثر مجلسنا الدستوري البارزة، نذكر النقاط التالية:

·        تمنع المجلس عن اجراء القرعة لتحديد الأعضاء الخمسة الذين ستنتهي ولايتهم في أيار 2012 وانتظر حتى تشرين الأول من العام نفسه صدور قانون يلغي مبدأ القرعة.
·        فشل مجلس الدستوري في النظر بقانون تمديد ولاية مجلس النواب الأول نتيجة التدخلات السياسية التي منعته من الانعقاد في جلسة مكتملة النصاب.
·        رد المجلس للطعن المقدم بقانون تمديد ولاية مجلس النواب للمرة الثانية واعتباره أن التمديد رغم مخالفته للدستور أصبح أمرا واقعا (قرار رقم 7 تاريخ 28 تشرين الثاني 2014).
·        انتهاء ولاية جميع أعضاء المجلس الدستوري الحالي في أيار 2015 بعد مضي ست سنوات على انتخابهم أو تعيينهم واستمرارهم عملا بأحكام المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري (قانون رقم 243 تاريخ 7 آب 2000) التي تنص على التالي: “عند انتهاء الولاية، يستمر الاعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين”. وهكذا بعد مجلس نواب أمر الواقع بتنا مع مجلس دستوري أمر الواقع أيضا.

وبغية التعليق على قرار المجلس برد الطعن المقدم ضد قانون استعادة الجنسية الذي صدر في 24 تشرين الثاني 2015، لا بد من من تقسيم البحث إلى ثلاثة محاور نستعرض خلالها المنطق الداخلي الذي اعتمده أعضاء المجلس في قرارهم الأخير.

أولا: التراجع عن مبدأ شمولية اختصاص المجلس الدستوريّ

من المعلوم أن المجلس الدستوري يتمتع بصلاحية شاملة تخوله وضع يده على كامل أحكام القانون المطعون به بحيث لا ينحصر دوره بدراسة النقاط التي أثارتها الجهة الطاعنة، بل له بمجرد اكتمال شروط الطعن اخضاع القانون بمندرجاته كافة لرقابته.

وقد سبق للمجلس الدستوري اللبناني أن تبنى هذا التوجه على غرار المجلس الدستوري الفرنسي[1]في أكثر من قرار له لا سيما القرار رقم 4 تاريخ 29 أيلول 2001 الذي نص حرفيا على حق المجلس بتجاوز مراجعة الطعن ووضع يده “على القانون المطعون فيه بأكمله ولا يقف عند حدود مراجعة الطعن به…”[2].

لا شك أن أهمية هذا التوجه تكمن في توسيع رقابة المجلس الدستوري قدر الإمكان. فنظرا لمحدودية طرق المراجعة في لبنان المحصورة عملا بالمادة [3]19 من الدستور بكل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء وعشرة نواب، كان من الضروري استثمار كل طعن لأقصى حدّ ممكن بغية شمول الرقابة الدستورية أكبر عدد ممكن من الأحكام القانونية.

لكن مجلس الدستوري قرر الانكفاء هذه المرة إذ حصر نفسه بالأسباب التي أدلت بها الجهة الطاعنة لناحية تمييز القانون ضمن فئة الأفراد الذين كانوا من التابعية العثمانية بين من اختار جنسية دولة ما انفصلت عن السلطنة العثمانية وبين من لم يقم بمثل هذا الخيار. وهكذا يكون المجلس وبكل بساطة قد غض النظر عن البند “أ” من القانون المطعون فيه والذي ينص على حق كل شخص باستعادة الجنسية اللبنانية ” إذا كان مدرجا اسمه أو اسم أحد أصوله الذكور لأبيه أو أقاربه الذكور لأبيه حتى الدرجة الثانية”. والتمييز هنا بيّن واضح لا يحتاج إلى عناء كبير في الشرح كون البند المذكور يخرق مبدأ المساواة بين المواطنين عبر إقراره للذكور امتياز منح الجنسية اللبنانية بينما يحرم المرأة اللبنانية من الحق عينه. فكيف أعمل المجلس الدستوري رقابته على السبب الذي أدلى به الطاعنون بينما استنكف عن إعمالها على سبب أفدح وأشد خطراً بكثير؟

ثانيا: مبدأ المساواة

يعتبر مبدأ المساواة من أهم الركائز التي يستند إليها القضاء الدستوري في معرض رقابته على القوانين. وقد أكد المجلس الدستوري على القيمة الدستورية لمبدأ المساواة مرات عديدة بما في ذلك قراره الأخير. لكن المساواة المطلقة والمجردة قد تؤدي إلى نتائج عكسية في حال تم تطبيقها دون مراعاة للواقع. لذلك عمد المجلس الدستوري في إجتهاد ثابت له على غرار الإجتهاد الفرنسي[4]إلى التوضيح بأن تطبيق مبدأ المساواة لا يتم بشكل آلي عند حصول أي نوع من أنواع التمييز بين المواطنين بل هو “يطبق بين من هم في الوضع أو المركز القانوني نفسه، وهو يجيز للمشترع أن يميز في المعاملة بين من هم في أوضاع قانونية مختلفة، كما يسمح له بخرق مبدأ المساواة لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة” ( قرار تاريخ 5/6/2000).

وبالفعل استند المجلس الدستوري في قراره موضوع البحث إلى هذا الاجتهاد الثابت والمستقر بغية رد السبب الذي أورده الطاعنون في مراجعتهم معلنا أن “القانون المطعون في دستوريته لم يفرق بين الأشخاص الواقعين في الوضعية القانونية نفسها انما فرق بين أشخاص في وضعيتين قانونيتين مختلفتين”. وهذا منطق سليم ونحن نسلم للمجلس هذه النطقة إذ الأشخاص الذين اختاروا تابعية دولة انفصلت عن السلطنة العثمانية هم في وضع قانوني مختلف كليا عن أولئك الذين لم يتمكنوا من القيام بمثل هذا الاختيار. لكن المشكلة تكمن في هروب المجلس الدستوري وعدم معالجته لخرق مبدأ المساوة بين المرأة والرجل مكتفياً بتلميح قد تترتب عليه تداعيات خطيرة.

ثالثا: رقابة المجلس على القوانين المحصنة

لا يتناول المجلس الدستوري إذا الخرق الفاضح لمبدأ المساواة بين المواطنين لجهة التمييز بين المرأة والرجل. فقاعدة الأوضاع القانونية المختلفة المشار إليها أعلاه لا يمكن أن تطبق لتسويغ المعاملة المختلفة بين المرأة والرجل. وهذا ما استشعره المجلس إذ قال بأن “القانون المطعون فيه لم يميز على الاطلاق وفق أساس العرق والدين أو الانتماء، بل كرس قاعدة عامة شاملة يستفيد منها اللبنانيون”. لماذا لم يذكر المجلس الدستوري التمييز في الجنس؟ فالمرأة لا تستفيد من هذا القانون الذي حرمها وحرم فروعها من استعادة الجنسية اللبنانية. لذلك لا يصح تعميم القول بأن القانون كرس قاعدة عامة شاملة يستفيد منها اللبنانيون بل هو كرس قاعدة عامة جزئية يستفيد منها فقط الذكور.

إن هذا التغاضي المريب من قبل المجلس الدستوري أشار اليه نائب رئيس المجلس الدستوري طارق زيادة في مخالفته إذ أكد أن القانون يخالف مبدأ المساواة عبر اشتراطه الأصل الذكوري لطالب استعادة الجنسية. لكن الأخطر في قرار المجلس نجده في تلميح سريع قد يبدو للوهلة الأولى غير مهم لكن التدقيق يظهر لنا فداحته. فالمجلس أعلن في إحدى حيثيات القرار بأن الغرض من القانون المطعون فيه “هو إعطاء جميع اللبنانيين الذين لم يختاروا سابقا الجنسية اللبنانية مهلة جديدة للحصول على هذه الجنسية وفقا للقوانين النافذة”. فما هو قصد المجلس الدستوري من وراء هذه الاشارة إلى القوانين النافذة؟

نحن نعلم أن النص القانوني الذي يرعى أحكام الجنسية اللبنانية هو القرار رقم 15 الصادر سنة 1925 زمن الانتداب الفرنسي والذي يرسي تمييزاً واضحاً ضد المرأة إذ يحصر حق منح الجنسية بالذكور. وعندما يعمد المجلس الدستوري إلى الاشارة اليه هو يكرس بشكل ما هذا الخرق الفاضح لمبدأ المساواة الذي يعتير من المبادئ الدستورية الأساسية.

الاشكالية التي يجب طرحها الان: تعتبر القوانين التي صدرت قبل انشاء المجلس الدستوري أو تلك التي صدرت بعد ذلك لكن لم يتم الطعن بها، تعتبر من الناحية القانونية البحتة محصنة كونها ليست أو لم تعد خاضعة لرقابة المجلس الدستوري ولا يمكن المساس بها إلا من قبل السلطة التشريعية نفسها. لكن هل ذلك يعني أنها باتت محصنة إلى الأبد؟ فمن المسلم به أن تعديل القوانين النافذة لا يتم إلا بقانون جديد يقرّه مجلس النواب أي أنّ التعديل في حال تمّ الطعن به، يجب أن يخضع لرقابة المجلس الدستوري وفي حال كان من خرق للدستور يتوجب على هذا الأخير إبطاله دون تردد.

لكن المعضلة ليست هنا بل هي تحديداً في تداعيات قرار المجلس على القانون القديم. فلو فرضنا مثلاً أن المجلس الدستوري أبطل البند المتعلق بالأصل الذكوري لطالب استعادة الجنسية كونه يخالف مبدأ المساواة بين المرأة والرجل ما هو مصير المادة الأولى من القرار رقم 15 (نص يتمتع بقوة القانون)؟ هل تعتبر هذه المادة ملغاة حكما؟ أي هل ينسحب قرار المجلس الدستوري على كل نص مشابه حتى لو وجد في قانون محصن ضد الطعن أم لا؟

إن الاجابة على هذا السؤال يترتب عليها نتائج بالغة الأهمية. لا بد لنا أن نشير أولا أن مجلس شورى الدولة في لبنان سبق له وأن أعلن أن قرارات المجلس الدستوري تتمتع بقيمة مطلقة وهي تشمل ليس فقط النص المطعون فيه والمشوب بانعدام الدستورية بل هي تنسحب على كل النصوص المشابهة إن كانت سابقة له أو لاحقة عليه.

إذا وضعنا اجتهاد مجلس شورى الدولة جانبا، علينا أن نبحث عن الإجابة المنشودة في إجتهاد المجلس الدستوري وفي القانون الدستوري المقارن. وبالفعل سبق للمجلس الدستوري الفرنسي أن عالج قضية مماثلة تتعلق بالقوانين الصادرة[5] التي أصبحت بمنأى عن الطعن. ففي قرار بالغ الأهمية تاريخ 25 كانون الثاني 1985، أعلن المجلس الدستوري الفرنسي اختصاصه بالنظر في دستورية القوانين الصادرة وذلك في حال الطعن بقانون جديد ينطوي على تعديل أو استكمال أو تأثير ما على مجاله شريطة أن لا يكون القانون الجديد مجرد تطبيق للقانون القديم[6].

وقد طبق المجلس إجتهاده هذا بشكل واضح في قراره رقم 104 تاريخ 16 أذار 1999 عندما أعلن أن أحكام قانون صدر سنة 1985 هي مخالفة للدستور وذلك في معرض رقابته على القانون الأساسي (loi organique) المتعلق بمقاطعة كاليدونيا الجديدة.لكن هذا التقدم الكبير يبقى محدوداً كون الأحكام الواردة في قانون صادر لا يحق للمجلس الدستوري إبطالها رغم إعلانه في حيثيات القرار أنها مخالفة للدستور. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى دعوة القضاء العدلي والاداري إلى اعتبار مثل هذه الأحكام بحكم الملغاة أو ربما دعوة السلطة التشريعية إلى الغاء النصوص المشوبة بانعدام الدستورية من تلقاء نفسها.

في مطلق الأحوال، نلاحظ أن المجلس الدستوري في لبنان لم يتبنّ هذا الاجتهاد المتقدم. فقانون استعادة الجنسية ليس مجرد تطبيق[7] لقانون الجنسية الصادر سنة 1925 بل هو يدخل تعديلات مهمة وهو يجب أن يخضع حسب منطق المجلس الدستوري الفرنسي إلى الرقابة الدستورية رغم إنعدام امكانية الطعن المباشر به. ولو قام المجلس الدستوري في لبنان بتنبي الاجتهاد عينه لشكل قراره تعزيزاً مهما لصلاحياته وتوسيعا كبيراً لمجال رقابته الدستورية إضافة إلى القيمة التاريخية لإعلان مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة بشكل صريح لا لبس فيه.

لقد جاء قرار المجلس الدستوري الأخير مقتضباً جداً وفقيراً من حيث الحجج القانونية وهو كرس إنكفاء المجلس على كل الجبهات. فلم يدرس مسألة المساواة بين المرأة والرجل ولم يعلن أن اختصاصه يشمل كل القانون المطعون به بغض النظر عن مراجعة الطعن ولم يشرح حتى مسألة القوانين المحصنة. لقد كنا ننتظر من المجلس حتى لو رفض إعمال رقابته على القوانين المحصنة أن يقدم لنا قراراً متيناً يرتكز على فقه دستوري متماسك بدل الهروب والإيحاء. إن هذا القرار يصحّ وصفه بالاختباء الكبير، فكيف ستستقيم العدالة الدستورية في زمن الاختباء؟سؤال نتوجه به لمجلس الأمر الواقع.

نشر هذا المقال في العدد | 35 |كانون الثاني/يناير/  2016 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
القضاء يخسر معركتين في سبعة أيام


[1] C.C. 96-386 D.C.
[2] نشير على سبيل المثال إلى القرار رقم 1 تاريخ 31/1/2002 الذي أبطل بموجبه المجلس الدستوري المادة 61 من قانون الضريبة على القيمة المضافة علما أن الجهة الطاعنة لم تكن قد أشارت اليها في المراجعة، ما يؤكد بشكل حاسم صلاحية لا بل الزامية مراقبة كامل القانون المطعون فيه.
[3] أما مراجعة رؤساء الطوائف فهي أصلا محصورة في مجال الأحوال الشخصية ومن الصعب تخيل أن تقوم مرجعية طائفية بتقديم طعن للدفاع عن مدنية الدولة والمساواة الحقة بين المواطنين.
[4]C.C. 87-232 D.C. ‘Considérant que le principe d’égalité ne s’oppose ni à ce que le législateur règle de façon différente des situations différentes ni à ce qu’il déroge à l’égalité pour des raisons d’intérêt général pourvu que, dans l’un et l’autre cas, la différence de traitement qui en résulte soit en rapport avec l’objet de la loi qui l’établit’
[5] مراجعة الطعن حسب الدستور الفرنسي يجب أن يتم تقديمها قبل اصدار القانون بينما في لبنان الطعن لا يقدم الا بعد اصداره من قبل رئيس الجمهورية.
[6] C.C. 85-187 D.C.: ‘Considérant que, si la régularité au regard de la Constitution des termes d’une loi promulguée peut être utilement contestée à l’occasion de l’examen de dispositions législatives qui la modifient, la complètent ou affectent son domaine, il ne saurait en être de même lorsqu’il s’agit de la simple mise en application d’une telle loi’.
[7] يتبين من قراءة مخالفة نائب الرئيس طارق زياده أن المجلس ناقش مسألة القوانين المحصنة عندما أشار هذا الأخير إلى فرضية اعتبار القانون المطعون فيه مجرد “تمديد جديد لمهلة اكتساب الجنسية”. كما لا بد لنا من التذكير أن المجلس الدستوري في لبنان وفي معرض رقابته على الانتخابات النيابية رفض النظر بدستورية قانون الانتخاب كونه بات من القوانين المحصنة (loi ecran) التي لم تعد قابلة للطعن. راجع القرار رقم 16 تاريخ 8/12/2000.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني