العدالة الانتقالية والمسارات الموازية


2017-01-18    |   

العدالة الانتقالية والمسارات الموازية

بنهاية الشهر الخامس من سنة 2014، صدر أمر تسمية أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية[1]. وتطبيقا لأحكام الفصل 18 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المحدث للهيئة، فإنه وبمضي أربع سنوات من هذا التاريخ، ينتهي عمل الهيئة ما لم يقرر مجلسها التمديد في ولايته لسنة إضافية. تبعا لذلك، تكون بنهاية سنة 2016 هيئة الحقيقة والكرامة قد ناصفت مدة عملها. خلال تلك المدة، قسمت الهيئة الشارع السياسي التونسي حولها فكانت موضع إتهام بالفساد وسوء الإدارة من جانب منه، فيما كانت في نظر جانب آخر منه مؤسسة من نتاج الثورة يسعى أعداؤها للإطاحة بها خدمة للثورة المضادة.

لم تمنع كثرة الصراعات داخل الهيئة وحولها مجلسها من النجاح في جلسات إستماع الضحايا، التي انعقدت خلال الشهرين الأخيرين من سنة 2016. وقد تعاقب خلالها ضحايا لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان حصلت خلال الفترة الممتدة بين 01-07/1955 و31-12-2013.

بدت الجلسات  في موعدها ومضمونها تتويجاً لعمل الهيئة. وقد حظيت تلك الجلسات بمتابعة تجاوزت حدود تونس؛ كما كانت محل رضاء من أغلبية المجتمع التونسي[2]. ويفترض نظريا تبعا لهذا أن يكون مسار العدالة الانتقالية وفق تصوره الذي صاغه أعضاء المجلس الوطني التأسيسي قد اكتسب مناعة تمنع مستقبلا تأثره بتغيرات المزاج السياسي. في المقابل، جرت في موازاة هذه الجلسات أحداث فائقة الدلالة قد تعكس التطورات التي يتم التحضير لها والتي ينتظر أن تكون مقدمة لتغييرات كبرى في مسار العدالة الإنتقالية، علما أن هذه الأحداث بقيت بالمقارنة مع جلسات الإجتماع ورغم أهميتها على هامش الخطاب العام. ومن أبرز هذه الأحداث ثلاثة:

الحدث الأول: لقاء الغنوشي بالقلال

نقصد هنا اللقاء الذي جمع السيد راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة بالسيد عبد الله القلال  الذي شغل خطة وزير الداخلية إبان صدام السلطة مع التيار الإسلامي سنة 1991، يوما واحدا قبل جلسات الإستماع العلنية. وأهمية هذا اللقاء تتأتى مما يمثله الرجلان: فالأول يمثل الشق الأهم من الضحايا على ضوء المعطيات الإحصائية التي صدرت عن هيئة الحقيقة والكرامة[3] والتي كشفت أن أكثر من ثمانين بالمائة من ضحايا الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يغطيها قانون العدالة الإنتقالية في تصنيفهم السياسي هم من الإسلاميين[4]. أما الثاني فيصلح كممثل نمطي لمن يتهمون بالمسؤولية عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وإلى حصوله قبل يوم واحد من بدء جلسات الإستماع، زادت رمزية اللقاء وضوحا على ضوء الهدف المعلن له والذي هو التباحث في “الوضع السياسي العام في ظل الحاجة الماسة لتدعيم المصالحة بين التونسيين وطي صفحة الأحقاد”[5].

لم يعلن الشيخ كما بات يُصطلح محليا على تسميته عن اللقاء الذي أُجريَ بعيدا عن الصخب الإعلامي الذي يصاحب عادة لقاءاته. وقد ذكرت مصادر مقربة منه[6] بأنه أكد لضيوفه من رموز النظام السابق “تمسك حركة النهضة بمسار العدالة الإنتقالية الذي يجب أن يكون هدفه تطهير جروح الماضي بعيدا عن ثقافة الإنتقام والتشفي”. وأضافت مصادر أخرى لم يكشف الإعلام عن هويتها أنه ذكر لمن استقبلهم “أن الثورة لا تعني إلغاء منجزات دولة الإستقلال والحركة الوطنية، أو تهميش الكفاءات التونسية والطاقات المعطلة، التي اقتصر دورها في الغالب على تنفيذ التعليمات في كنف الإنضباط”[7] وأن خطوته تعاضد مسار العدالة الانتقالية.

وعليه، يتبين أن رئيس الحركة السياسية المعنية سعى خلال هذا اللقاء في بلورة طرحه للمصالحة الشاملة، والتي قد تكون مختلفة في أبعادها عن العدالة الإنتقالية التي ترعاها هيئة الحقيقة والكرامة، وإن تمسك في وضعها ضمن المسار نفسه. ففيما تشكل المحاسبة شرطاً أساسياً وفق قانون العدالة الإنتقالية التي أنشئت الهيئة بموجبه، لا تشترط المصالحة الشاملة بالضرورة المحاسبة المسبقة،.إنما على العكس من ذلك تظهر كمشروع بديل (أو نقيض) تغلّب اعتبارات كشف الحقيقة وجبر الضرر على المحاسبة. وذات المراجعة المفهومية لمسار العدالة الانتقالية أكدها موقف لجنة التشريع العام من مشروع قانون المصالحة الاقتصادية.

الحدث الثاني: لجنة التشريع العام ومشروع قانون المصالحة الاقتصادية

مع بداية الدورة البرلمانية 2016-2017، أعلنت لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب بقرارها بالعدول عن مواصلة العمل على مشروع قانون المصالحة. وقد قطع هذا القرار مع موقفها في الدورة النيابية السابقة حيث عدّت هذا المشروع كأولوية لها[8]. دلّ هذا الموقف عن تراجع الأغلبيّة عن تمسّكها بإفراد المصالحة الاقتصادية مع من يتهمون بالفساد المالي بإجراءات تخرج عن قانون العدالة الإنتقالية الساري المفعول. لكنها، ومن دون مقدمات أو تبرير، عادت اللجنة لتعلن اهتمامها بهذا المشروع، مؤكدة أنها ستخصص  الشهر الأول من سنة 2017 لمواصلة عملها عليه[9].

ويرجح المؤشر الزمني وجود علاقة مفترضة بين عودة الروح لمشروع قانون المصالحة وجلسات الإستماع العلنية والتي تناوب عليها في فصلها الأول من ذكر أنه ضحية لفساد مالي، والتي تم التبشير بكونها ستعرض في بقية فصولها اعترافات لمن يتهمون بالفساد المالي[10]. فكأنما المشرع يسرع من خلال إعادة وضع المشروع ضمن أولوياته إلى سحب ملف الإنتهاكات الإقتصادية من هيئة الحقيقة والكرامة. وقد يكون الموقف العام من الهيئة وشفافية عملها من الركائز التي سيستند إليها لتحجيم دورها.

حدث ثالث: موقف نواب الشعب من هيئة الحقيقة والكرامة

صادق مجلس نواب الشعب التونسي بتاريخ 07-12-2016 على موازنة هيئة الحقيقة والكرامة بأغلبية 127 صوتا مقابل احتفاظ 21 نائبا بأصواتهم وتسجيل 28 نائبا رفضهم. قبل ذلك بيوم واحد، جرت في كواليس المجلس النيابي مشادات كلامية بين نواب ينتمون لحزب نداء تونس وأعضاء من الهيئة، تخللها  اتهامات لرئيستها بسوء التصرف الإداري والمالي. وقد أشّر هذا الأمر إلى أن نجاح الهيئة في جلسات الإستماع العلنية لا يمنع من مواصلة استهدافها. ويجد هذا الإستهداف مبررا له في الوسط الشعبي فيما تشهده الهيئة من أزمات داخلية مظهرها تعدد الإقالات والإستقالات في صفوفها وفيما يتهم به القائمون عليها من سوء تصرف إداري ومالي.

تؤكد مجمل المؤشرات الواقع استعراضها أن المواقف السياسية المهيمنة على الساحة التونسية لا تخفي بحثها عن مسار بديل للعدالة الإنتقالية القائمة. كما تكشف تلك المؤشرات أن المصالحة دون حاجة للعقاب والمحاسبة هي القاسم المشترك للأطروحات البديلة. ويتبين من قراءة خطاب المسارات البديلة للمصالحة أنها مصلحية في مبناها: فهي تسعى لاستثمار أموال من يتهمون بالفساد المالي والاستفادة من كفاءة من يتهمون بالفساد الإداري لتنتهي لطلب الصوت الإنتخابي لمن يتهمون بانتهاكات حقوق الإنسان. وقد تكون فعليا هذه المصالحة قد تحققت على أرض الواقع بشكل صامت بما يكون معه البحث عن غطائها التشريعي تتويجا لمصالحة تمت فعليا دون انتظار لإشارة انطلاقها.

نشر هذا المقال في العدد 7 من مجلة المفكرة القانونية في تونس


[1]الأمر عدد 1872 المؤرخ في 30 ماي 2014 المتعلق بتسميتهم كأعضاء هيئة الحقيقة و الكرامة.
[2] في سبر آراء أجرته مؤسسة “إمرود كونسيلتينق ” بالتعاون مع مؤسسة  دار الصباح التونسية  استحسن 61,2 بالمائة من العينة المستوجبة جلسات الاستماع  العلنية التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة . نشرت نتيجة سبر الآراء في موقع الصباح نيوز بتاريخ 06-12-2016.
[3]  مجدي الورفلي “هيئة الحقيقة والكرامة: 32 ألف ضحية خلال الصدام مع الإسلاميين و3308 خلال ملاحقة اليساريين”، صحيفة المغرب، 14-10-2016.
[4] من جملة 37463 انتهاك جسيم لحقوق الإنسان أحصتها هيئة الحقيقة والكرامة، كان عدد الانتهاكات التي شملت الإسلاميين  32228.
[5] قد يسرع التقارب بين النهضة والدساترة: خفايا لقاء راشد الغنوشي بعبد الله القلال، صحيفة الشروق التونسية، 18-11-2016.
[6] تصريح نور الدين العرباوي لموقع الإخبارية، موقع الإخبارية tn-news.com/portal/v4/275841664
[7] بعيدا عن أنظار الاعلاميين و السياسيين: الغنوشي يلتقي عبد الله القلال، موقع الحياة التونسي، 18-11-2016.
[8] هيثم الزقلي “اللجان التشريعية تنطلق في وضع أولوياتها: لجنة التشريع العام تقرّر إيقاف النقاشات بخصوص مشروع قانون المصالحة”، صحيفة المغرب، 21-10-2016.
[9] “طالبت به عديد الأاحزاب .. مناقشة مشروع قانون المصالحة في هذا الموعد”، الصباح نيوز، 28-11-2016.
[10] تصريح عضو هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي، برنامج ستيديو شمس، إذاعة شمس أف أم، 22-11-2016.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، عدالة انتقالية ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني