الطفل، العنصر المغيّب في قضية الحضانة


2016-12-06    |   

الطفل، العنصر المغيّب في قضية الحضانة
رسم رائد شرف

تقع قوانين الأحوال الشخصيّة في صلب معركة المساواة الجندريّة، لجهة حقوق الميراث والولاية والزواج والطلاق وسواها. وتشكّل مواضيع الطلاق والحضانة أكثر المجالات ترحيباً بابتزاز السلطات الذكوريّة للمرأة، حيث غالباً ما يُستخدم الطفل فيها كأداةٍ إما لليّ إرادة المرأة أو للحصول على “عرض” طلاقٍ أفضل، “أقل كلفة”، أو حتى على تنازلاتٍ تامّة. وقد اعتبر الخطاب النسويّ في المنطقة – عن حقّ – أن الحضانة هي أداةٌ من أدوات فرض السلطة على المرأة، متوقّفاً عند “حقّ الأم بالحضانة”.

ولكن، إلى جانب هذه القراءة، يجوز السؤال حول ما إذا كانت الحضانة حقّاً للأبّ/الأمّ أم واجباً عليهما. نظرية هوهفيلد في الحقوق[1]، تعتبر أن كلمة “حقّ” تصيب معانٍ لا تقلّ عن أربعة: الحق أو المطلب (claim or right)، الواجب (duty)، الإمتياز (privilege)، والحرية (وهي تنفي وجود المطلب) (liberty). من هنا، تتضح مقاربةٌ للحضانة، لا كحقٍّ للأم أو الأب ، وإنما واجب (duty) عليهما. فهي من حقّ (right or claim) الطفل.

من هنا، نرى جدوى وضرورة في صياغة إشكاليّة الحضانة كحقٍّ للطفل، من دون أن ننكر أن التمييز بين الأمّ والأبّ مبنيٌّ على أسسٍ جندريّةٍ ذكوريّةٍ، ومن دون أن نهمل تقاطعية العلاقات داخل الأسرة. فوضع الطفل كأساس معادلة الحضانة، يشكّل دعماً للمطالبة بإصلاح قوانين الأحوال الشخصيّة على أن تراعي مصلحته، مع العلم أن المادة 3 من إتفاقية حقوق الطفل تنصّ على وجوب تطبيق مبدأ “مصلحة الطفل الفضلى” في جميع الأحكام المتعلقة بالأطفال.

متخذاً إذاً حقوق الطفل كإطارٍ نظريّ لتحليل قوانين الحضانة، وبناءً على دراسةٍ واسعةٍ لأكثر من 150 حكمٍ صادرٍ عن محاكم شرعيّةٍ وروحيّةٍ مختلفة، يحلّل هذا المقال القواعد والأحكام التي ترعى الحضانة، ومدى تطابقها مع حقوق الطفل.

1- المعيار العمريّ للحضانة: تمييزٌ على أساس الجنس والدين
تحدّد حضانة الطفل في أغلب الأحيان وفقاً للمعيار العمريّ، فتعرّف قوانين الأحوال الشخصيّة السنّ الذي يحدّ بقاء الطفل في حضانة أمه، على أن ترد في القانون نفسه إستثناءات لهذا المبدأ، ومنها مصلحة الطفل. في القانون الكاثوليكيّ فقط، تحضر مصلحة الطفل كالمعيار الأساسي المستخدم، فيما يرد المعيار العمريّ لتحديد مدة الرضاعة (عمر السنتين)، على أن تقرر الحضانة في ما بعد بحسب مصلحة الطفل. وغالباً ما يفضّل المدافعون عن حقوق الطفل معيار “مصلحة الطفل الفضلى” على المعيار العمريّ، كون الأوّل يضع الطفل ومصلحته في صميم المعادلة، فيما يستند الثاني إلى آياتٍ قرآنيّةٍ وإنجيليّةٍ تاريخيّة.

ويُنتقد المعيار العمريّ لسببين:

  • نظريّاً، إن منح أو حرمان شخصٍ من حقّ معيّن على أساس عمره هو شكلٌ من أشكال التمييز على أساس العمر (age discrimination). وتسري هذه الملاحظة على قوانين عدّة تستخدم المعيار العمريّ، منها تلك المتعلقة بالحقّ بالعمل، الإنتخاب، القيادة، إلخ…[2]. وغالباً ما يتم تبرير إستخدام هذا المعيار على أنه مؤشرٌ لحاجات الطفل البيولوجيّة والنفسيّة. في مسائل الحضانة، يصعب فهم المعادلة المطروحة: الطفل “يحتاج” أن يكون مع أمّه لحين بلوغه سنّ معيّنة، ويستيقظ في صبيحة ميلاده “محتاجاً” لأن يكون مع والده؟ ويضيف نظام التعدّد القانونيّ (legal pluralism) طبقةً أخرى من التعقيد، لوجود تعدّدٍ في “أعمار” الحضانة، وبالتالي تتفاوت “حاجة” الطفل الذكر في لبنان لحضانة والدته بين عمر السنتين (الطائفة الشيعيّة) وعمر 14 سنة (طائفة الروم الأرثوذوكس)، كما تتفاوت “حاجة” الفتاة بين سنّي السبع سنوات و15 سنة. هذه الإختلافات تشير إلى مزيدٍ من الإعتباطية في تحديد الحضانة: فما هي هذه الحاجة لدى الطفل التي تختلف من طائفةٍ إلى أخرى؟
  • عمليّاً، إن تحديد الحضانة بحسب فئاتٍ عمريّة مدوّنةٍ قانوناً يعني أن الأطفال من العمر والجنس والطائفة ذاتها هم مجموعةٌ متجانسةٌ من حيث الإحتياجات النفسيّة والمخاوف والصفات الشخصيّة والجسديّة. في ذلك مبالغةٌ في تقدير أهمية العمر في حياة الطفل، وإهمال تام لعوامل أخرى هي أكثر قابليةً للتأثير على قرار الحضانة. فمن خلال إعتماد المعيار العمريّ، تنظر القوانين إلى الطفل ككائنٍ خارج سياق العلاقات الأسريّة المعقدة. وأغلب المحاكم الدينيّة تعتمد في منح الحضانة المعيار العمريّ معتبرةً أنه “لا داعي لمناقشة سائر اقوال الطرفين”[3]. في هذا الإطار، وجدت جوديث تاكر في دراسة للمحاكم الشرعية في القرنين 17 و18 في فلسطين وسوريا، أن هذه المحاكم كانت تؤمن بضرورة تحديد حضانة الطفل تبعاً لإحتياجات الطفل في كلّ مرحلةٍ من حياته[4]، حتى أن القاضي الشرعيّ نادراً ما يحدّد مراحل التنمية من خلال سنّ الطفل، ونادراً ما كانت مسألة العمر تحضر في جلسات المحكمة أو النقاشات.  بدلاً من ذلك، كان يتم تحديد الحضانة (وحاجات الطفل) على أساس نموه الجسديّ ووضعه النفسيّ والفكريّ واحتياجاته نسبةً إلى نموه، وليس سنّه العدديّ.
الطائفة القانون سن الحضانة للإناث سن الحضانة للذكور
الروم الأورثوذوكس قانون الاحوال الشخصية واصول المحاكمات لدى بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس (المادة 57 ) 15 14
الأرمن الأورثوذوكس قانون الاحوال الشخصية للطائفة الارمنية الارثوذكسية (المادة 130) 9 7
السريان الأورثوذوكس قانون الاحوال الشخصية للسريان الارثوذكس (المادة 61 ) 9 7
الآشوريون قانون الاحوال الشخصية للطائفة الشرقية الاشورية الارثوذكسية (المادة 111) 9 7
الأقباط الأورثوذوكس قانون الأحوال الشخصية وأصول المحاكمات لدى طائفة الأقباط الأرثوذكس في لبنان (المادة 93) 13 11
الإنجيليون (أو البروتستانت) الاحوال الشخصية للطائفة الإنجيلية في سوريا ولبنان (المادة 62) 12 12
الكاثوليك (الموارنة، الروم الكاثوليك، الأرمن الكاثوليك، السريان الكاثوليك، اللاتين، الكلدان)[5] قانون الاحوال الشخصية وأصول المحاكمات لدى الطوائف الكاثوليكية (المواد 119-138 ) 2 2

 

الشيعة (والعلويون) دليل المحاكم الجعفرية[6] 7 2
السنّة نظام أحكام الأسرة (المادة 15) 12 12
الموحّدون الدروز قانون الاحوال الشخصية للطائفة الدرزية (المادة 64

 

9 7

يبيّن هذا الجدول المقارن التفاوت في أعمار الحضانة ما بين الطوائف المختلفة. ويتجلّى فيه حضور المعيار العمريّ كتمييزٍ فاضح بين الأطفال، ليس فقط على أساس الدين وإنما أيضاً على أساس الجنس. فباستثناء القوانين السنيّة والإنجيليّة والكاثوليكيّة حيث مدّة حضانة الأطفال الذكور والإناث متشابهة، تضمن جميع القوانين الأخرى فترةً أطول من حضانة الأم للفتيات. ويعود هذا التمييز إلى إهتمامٍ خاص ببناء الهويات الجندريّة للأطفال: فالفتاة يجب أن تبقى مع أمّها لتتعلم “كيف أن تكون إمرأة”، فيما ينتقل الطفل الذكر إلى منزل أبيه لتعلّم “الرجولة”[7].[6] في المرحلة الأولى من حياة الطفل (أيّ ما دون السنتين)، تبقى الحضانة للأم بقوة الإرضاع، بلا تمييزٍ بين ذكورٍ وإناث. لاحقاً، يصبح الصبي بحاجة والده من أجل أن “يصبح رجلا”، بينما تُعرّف حاجات الفتيات على مرحلتين. الأولى، تحتاج فيها والدتها من أجل تعلم معرفة كيفية التصرّف “مثل الأنثى”. هذه المرحلة تنتهي عمرياً في بعض الطوائف عندما تصبح الفتاة قادرة فيزيولوجياً على الإنجاب. في هذا العمر (وهو يتراوح بين 7 و15 في القوانين)، تصبح الفتاة بحاجةٍ “لحماية الرجل”. فتنقل حضانتها لوالدها.

إذاً، ينبع هذا التمييز من منطلقين: الأوّل، هو بناء الهوية الجندريّة للطفل بشكلٍ يجعله يتشابه مع الوالد(ة) من جنسه(ا)، والثاني “حماية” الطفل، وخاصّة الفتيات. ويحصل تحوّلٌ في المقاربة من النظر إلى رفاهية الطفل وحاجته للرعاية والمحبة خلال سنواته الأولى، إلى الحرص على توفير تنشئة اجتماعية مناسبة لجنسه(ا). الطفل لم يعد إذاً “بريء”. هو وهي صارا من أصحاب “الجنس”. فيصبح قرار الحضانة مدخلاً لتأطير الحياة الأسريّة وتجسيد الأدوار الجندريّة النمطيّة.

2- ما هي الإستثناءات للمعيار العمري؟ ماذا تعني؟
تنصّ جميع قوانين الأحوال الشخصيّة على إستثناءاتٍ لتطبيق المعيار العمريّ، أيّ الحالات أيّ الحالات التي يجب فيها الحكم بالحضانة خلافاً لمعيار السن خلافاً لمعيار السنّ. وتُبرَّر هذه الإستثناءات بوجود حالاتٍ لا يمكن فيها تطبيق معيار السن بحرفيته، لضرره بـ”مصلحة الطفل”.

ويتضح أن قوانين الأحوال الشخصيّة تتضمّن استثناءاتٍ عدّة تتيح نزع الحضانة من الأبّ أو الأمّ خلافاً لقاعدة المعيار العمريّ. وعلى الرغم من اختلاف التعاليم الدينيّة، يبرز تشابهٌ كبيرٌ بين الإستثناءات، ولعلّ أكثرها تكراراً: إهمال الحاضن للتعليم الدينيّ للطفل، زواجه(ا)، عدم أهلية الحاضن، ومصلحة الطفل الفضلى. تضاف إلى إستثناءٍ نجده في معظم التشريعات المسيحيّة، وهو نزع الحضانة من الزوج المخطئ بحسب ظروف الطلاق. وفي حين يُبرَّر الإستثناء بحماية الطفل من صرامة المعيار العمريّ، يدلّ تحليله على ما هو أبعد من ذلك.

  • التعليم الدينيّ للطفل:
    يحتل العامل الدينيّ مساحةً محوريّةً في قضايا الحضانة. فلدى الطوائف الكاثوليكيّة، الأرثوذكسيّة، السريانيّة، والآشوريّة، تسقط حضانة الأم إذا غيّرت دينها أو إذا كانت غير مسيحيّة (في حالة السريان الأرثوذكس). وسبب ذلك مذكورٌ بشكلٍ صريح في المادة 63 من قانون الطائفة السريانيّة الأرثوذكسيّة: “خوفاً على سلامة المعتقدات الدينيّة للطفل”. كذلك، يمكن للمحكمة الكاثوليكيّة إسقاط الحضانة عن الأبّ إذا أهمل التعليم الدينيّ للطفل، كما يجب على المحكمة التأكد من أنها“تضمن دوما تربيته الكاثوليكية”  في تفسيرها لمصلحة الطفل الفضلى. لدى الطوائف المسلمة السنيّة، تحدّ المادة 14 من نظام أحكام الأسرة حضانة الأم غير المسلمة بعمر خمس سنوات لكلٍّ من الفتيات والفتيان، علماً أن حضانة الأمّ المسلمة تمتد لسن 12 سنة. أكثر من ذلك، تتضمن المادة 21 من القانون نفسه تعريفاً لمصلحة الطفل الفضلى “كتوفير البيئة الصالحة لنشأة الصغير نشأة دينية وأخلاقية إسلامية“. وفي حكمٍ صادرٍ عن المحكمة السنيّة في بعبدا في 14/12/2011، أسقطت حضانة الأم بعد ما أقرّت بعدم التزامها باداء الصلوات الخمس، وحيث جاء في الحكم أنه “من المقرر شرعاً أن تكون الحاضنة أهلا لحضانة البنتين وتحفظ لهما دينهما الذي هو أهم من الطعام والشراب وسائر أنواع الغذاء”. وقد صدر حكمٌ مشابهٌ في قضيةٍ تركت فيها الزوجة المنزل الزوجيّ، وقرّرت أن تعيش في منطقة محيطها “غير مسلم”، فاعتبرت المحكمة أن التغيير غير مبرّر ويؤدي لأن تنمو الطفلة  “غريبة عن أهلها وبيئتها وطائفتها وبمنأى عن المراقبة من ذويها[8]. وتجدر الإشارة إلى أنه المحكمة السنيّة، في عددٍ من الأحكام التي راجعناها، أبقت الطفل مع الوالد غير المسلم إذا ثبت أن الطفل يجيد تلاوة آيات من القرآن الكريم ويعرف كيفية الصلاة، أو إذا كانت الأم قد أشهرت إسلامها.
    يعتبر هذا الإستثناء إشكاليّاً لسببين: الأول، أنه ينفي أيّ هامشٍ لحرية معتقد الطفل المنصوص عليها في المادة 14 من إتفاقية حقوق الطفل. والثاني، أنه يقيّد حضانة الوالد(ة) من دينٍ مختلفٍ وكأن في ذلك عقابٌ على أو رادعٌ للزيجات المختلطة. إذاً، من خلال هذا الإستثناء تحمي المحاكم نظرتها لـ”الأسرة المثاليّة”، أيّ الأسرة المكوّنة من زوجين من طائفةٍ واحدة، لا بل أكثر، هي تحمي “الوالدين المؤمنين”. بهذا المعنى، تشكّل قوانين الحضانة فرصةً أمام المحاكم الدينيّة لتعليم مجتمعاتها درساً: الزواج يجب أن يكون من الطائفة الواحدة[9].
  • زواج الحاضن:
    تنصّ جميع قوانين الأحوال الشخصيّة على إسقاط الحضانة عن الأم التي تتزوّج بعد الطلاق. يمتد هذا الإستثناء ليشمل زواج كلا الوالدين لدى طوائف الروم – أرثوذكسيّة والسريانيّة الأرثوذكسيّة والأقباط الأرثودكسيّين.
    يستند هذا الإستثناء على كون مكوث الطفل مع والد(ة) غير بيولوجي(ة) يسري ضد مصلحته. وعلى اعتبار أن ذلك صحيح (وهو مشكّكٌ به طبعاً)، يبقى من غير الواضح كيف يمكن لهذا المعيار أن يعود بالنفع على الطفل في حال فُرض فقط في حالة زواج الأم؟  فهل العيش مع أبّ غير بيولوجيّ يؤدي بضرر على الطفل، على عكس العيش مع أمّ غير بيولوجيّة؟ وتجدر الإِشارة هنا إلى أن المحاكم السنيّة مثلاً، في حال سقطت الحضانة عن الأمّ لزواجها وكان الطفل تحت سنّ الحضانة (أي ما دون 12 سنة)، تنتقل حضانته إلى الجدّة وليس الأبّ. ففي مثل هذه الحالة، يصبح من المستغرب أن يعتبر العيش مع الجدّة أفضل من العيش مع الأمّ المتزوجة. لذا، يبدو هذا الإستثناء وكأنه أداة عقابٍ للأم أيضاً، عند اختيارها الزواج.
  • عدم أهلية الحاضن لتربية الطفل (النشوز):
    إسقاط الحضانة بسبب عدم أهلية الحاضن هو إستثناءٌ يُنظر إليه، في غالبية القوانين أيضاً. وخلافاً للاستثناءات السابقة، ينطوي هذا الإستثناء على تفسيرٍ شخصيّ لعدم الأهلية، وبالتالي، تنتج عنه تفسيرات متباينة. ففي القانون الكاثوليكيّ مثلاً، يسقط حقّ الأم بالحضانة إذا اعتُبر سلوكها غير أخلاقيّ (ناشز). لا يعطي القانون أيّ دقّة في تعريف هذا المعيار. في المقابل، في حالة إسقاط الحضانة عن الأبّ، يتمّ إعطاء أمثلة واضحة ومحدّدة عن سلوكه، كإدمانه الخمر والمخدرات والعنف تجاه الأطفال، أو كونه “سفيهاً” ومبذراً.
    غالباً ما يُستخدم هذا الإستثناء لإسقاط الحضانة عن الأمّ (أو الأبّ) غير التقليديّين أو ذوي التصرّف غير المطابق بالضرورة للتعاليم الدينيّة والمسارات الإجتماعيّة التقليديّة، من دون التفكير بما إذا كان هذا التصرّف يؤثّر فعلاً على مصلحة الولد أم لا. فعلى سبيل المثال، حكمت المحكمة السنيّة بإسقاط حضانة الأم التي تركت منزل الزوجيّة وعاشت مع أطفالها في منطقة غير مسلمة، حيث جاء في الحكم: “نحن لا نعرف أين تمضي الأم وقتها ومن تعاشر، وما المهنة التي تمارسها، مما يجعلها غير أهل لابنتها[10]“. إن تقدير مدى “عدم صلاحية” الأم هو أمر إستنسابيّ،  والدليل على ذلك أنه في قضية أخرى، تجاهلت المحكمة هذا الإدعاء وقضت بإبقاء الأطفال مع والدتهم لحاجتهم لها. كذلك، قضت المحكمة الكاثوليكية في هذا الشأن، حيث جاء صراحة في الحكم: “لا يهم لمحكمتنا سوى تأمين الطمأنينة والاستقرار النفسي والعاطفي الإنساني له دونما أن نتطرق لمسألة تتعلق بأساس النزاع ألا وهي نشوز الزوجة أو عدمه”.[11]

وذهبت محكمةٌ إلى أبعد من ذلك، لمّا انسحب شرط “الأخلاق” هذا على طفلة هي موضوع حضانة الدعوى، فأخضعت المحكمة إبنة الخمسة عشر عاماً لفحص عذريّةٍ، بناءً على طلب والدها على اعتبار أن “سلوكها غير أخلاقيّ”. في هذه الحالة، رأت المحكمة أن الحال ناتجة عن خطأ الأمّ، وأمرت بنقل حضانة الفتاة لأبيها من أجل الحافظ على “شرفها وأخلاقها”[12].
من هنا، يلحّ السؤال حول ما إذا كان حرمان الأطفال من أمهاتهم “غير الأخلاقيّات” هو عقوبة لهنّ، أو تفسيرٌ لمصلحة الطفل يقضي بألا يكون مع “هكذا” أمّ. أجاب أحد القضاة الشرعيّين في المحكمة السنيّة على هذا السؤال معتبراً أنه يجب إعطاء الأولوية لمصلحة الطفل في الحالات التي لا يؤثّر فيها تصرّف الأم عليه، أيّ يمّا يكون الطفل أصغر من أن يفهم أو يتأثر بسلوكها.

تمّ التصدي إذاً لجمود معيار السن من خلال إدخال استثناءات عليه في قوانين الأحوال الشخصيّة. ولكن، كما رأينا، يبقى من غير الواضح مدى تماشي هذه الإستثناءات مع مصلحة الطفل. فهي لا تنطلق بشكلٍ أساسيّ من مصلحة الطفل وإنما من مصلحة الطوائف في “ترويض” من يخضع لسلطتها، و”معاقبة” أو ردع عائلة غير “ملتزمة” أو لا تتماشى مع التعاليم المفروضة، فتصبح إذاً أحكام الحضانة فرصةً لمعاقبة الوالدة والوالد غير المطابقين للمعايير الدينيّة-الإجتماعية السائدة[13].

3- أين مصلحة الطفل؟ 
تتضمّن جميع قوانين الأحوال الشخصيّة مبدأ مصلحة الطفل الفضلى كإستثناء للمعيار العمريّ، باستثناء قانون طائفة الموحّدين الدروز ودليل القضاء الجعفري الذين لا ينصان على هذا المبدأ صراحةً. يعتبر هذا المبدأ أساسياً في المحاكم الكاثوليكيّة (راجع الجدول رقم 1)، وينصّ قانونها على إمكانية التغاضي عن الإستثناءات الموضوعة لإسقاط حضانة الأمّ (مثل عدم الأهلية، اختلاف الدين، أو الزواج) إذا اعتبرت المحكمة أن في ذلك المصلحة الفضلى للطفل.

من الصعب تحديد إجتهادٍ واضحٍ وثابتٍ في تفسير المصلحة الفضلى للطفل لدى جميع المحاكم الدينيّة، مع العلم أن استخدام القاضي لهذه المصلحة يتمّ بشكل إستثنائي ونادر جداً. حتى أننا نجد أحكاماً شبه متناقضة في المحاكم التابعة للطائفة الواحدة، حيث تختلف التفسيرات بين قاضٍ وآخر، أو نتيجة إتباع المحاكم (الشرعيّة منها) لمدارس فقهيّة مختلفة. وتجدر الإشارة هنا إلى إستناد المحاكم إلى تقارير الأخصائيّين النفسيّين والإجتماعيّين في تقدير مصلحة الطفل، عبر تقييم وضعه النفسيّ. إلا أن الإستعانة بتقارير شبيهة ليست تلقائية رغم أهميّتها المحورية، ويبقى التقييم خاضعاً لاستنسابية القاضي أو طلب الفرقاء. كما أن القاضي غير ملزم بمآل التقرير، وبالتالي، يمكنه أن يحكم بخلاف ما جاء فيه. فمثلاً، في حكمٍ صادر عن المحكمة المارونية في زوق مصبح، بيّنت الإخصائية الإجتماعية خوف الطفلة من مشاهدة والدها لرؤيته سابقاً يعنّف أمّها، إلا أن المحكمة أصرّت على ضرورة رؤية الأبّ لطفلته، فارضةً وجود الوالدة مع الطفلة في اللقاءات الأولى.

ينقلنا هذا الحكم إلى الأمر الثاني التي تركّز عليه المحاكم في إطار تفسيرها لمصلحة الولد، وهو التشديد على علاقته بكلا الوالدين. وقد ترجم ذلك من خلال منح الوالد غير الحاضن الحقّ برؤية الطفل، حتى في الحالات التي يكون فيها الطفل قد “صرخ في حالة هستيرية ورفض أن يذهب مع والده”. وتبرّر المحاكم هذه الأحكام عبر ربط علاقة الأطفال وأهلهم بالأدوار النمطيّة للجنسين، فيعتبر الإتصال بالأمّ ضرورياً لتزويد الطفل بالمودة والاهتمام، في حين يجب الإتصال بالوالد ليشكّل نموذجا يحتذي به الولد.

في المحصّلة، تبقى معايير هامة متعلّقة بمصلحة الطفل غائبةً كليّاً عن تقدير المحاكم. أهمّ هذه المعايير هو علاقة الطفل بأشقائه ومصلحتهم القاضية بعدم التشرذم (فقد تقضي المحكمة بحضانة البنت للأم فيما حضانة الذكر للأب)، والأخذ بإرادة الولد حول العيش مع أحد الوالدين، وبشكل أهم، الحضانة المشتركة بين الأبوين.

بناءً على ما تقدّم، إن مصلحة الطفل ليست الأولوية التي ينظر لها عند تحديد الحضانة. وحتى عندما تؤخذ بعين الإعتبار، يكون تفسيرها معتمداً على فهمٍ ضيق لهذه المصلحة بناء لمعايير ذكورية وإجتماعية نمطية.

ما هي الإصلاحات المطلوبة، إذاً؟ ما لا شك فيه هو أن القانون المدنيّ للأحوال الشخصيّة هو الحل الأكثر رواجاً في هذا الإطار. إلا أنه من الضروري، في الوقت الراهن، النظر في دور القضاء المدني في مراقبة الأحكام الصادرة عن المحاكم الطائفية. فمن صلاحية رئيس دائرة التنفيذ رفض تنفيذ حكم صادر عن محكمة طائفية يخالف النظام العام. ومما لا شك فيه هنا أن “مصلحة الطفل الفضلى” تدخل ضمن النظام العام خاصة لورودها ضمن الإتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صادق عليها لبنان. كما أنه من الملحّ إعادة صياغة إشكالية الحضانة كحقٍّ للطفل وواجبٍ للأهل، وبالتالي تحديد الحضانة بحسب مصلحة الطفل. من الضروري التفكير ملياً بحقّ الأطفال بالتعبير عن آرائهم ومنحهم الحدّ الأدنى من إمكانية الخيار في المحاكم. هذا الرأي يأتي ضمن نظرية “حقّ الطفل بالوصول إلى القضاء” التي تأخذ مساحةً راهناً في الأبحاث القانونيّة، خاصة بعد ما كرّستها المادة 12 من إتفاقية حقوق الطفل، والتي تنصّ على حق الطفل بتكوين أرائه الخاصة وعلى وجوب إتاحة المجال أمامه والإستماع إليه في أيّ إجراءٍ قضائيّ يمسّ به، إما مباشرةً أو من خلال ممثلٍ أو هيئة ملائمة.

 نشرت هذه المقالة في العدد |45|تشرين الثاني/نوفمبر 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :

“حروبٌ كبرى حول طفل منسيّ”


[1] Hohfeld, W. and Cook, W. (1964). Fundamental legal conceptions, as applied in judicial reasoning. New Haven: Yale University Press. p.30
[2] Cowden, M. (2012). Capacity, claims and children’s rightsContemp Polit Theory, 11(4). pp.364
[3] عبارة واردة في الأحكام  الصادرة عن محاكم شرعية وروحية مختلفة
[4]  Tucker, J. (1998). In the house of the law. Berkeley: University of California Press, pp.115-121.
[5] سنّ الإرضاع (راجع النص المرفق)
[6] لا يعتبر هذا النص قانوناً  وإنما دليلاً للمحاكم
[7] نرى مثلا في الحكم الصادر عن محكمة بيروت الشرعية السنية في 15/6/2010 الجلة التالية: “القاصر احوج في هذه المرحلة العمرية  الى والده ليتعلم اخلاق الرجال و يتطبع بطباع ذوي الكمال”  
[8] حكم صادر عن المحكمة السنية في البقاع الغربي، 9 نيسان 2003.
[9] في هذا الإطار، راجع: Ghamroun, S. (2011). Legal Pluralism and the Family in Lebanon: Protecting Children between State and Religious Courts. Paper presented at the annual meeting of the Law and Society Association, Westin St. Francis Hotel, San Francisco, CA, May 30, 2011.
[10] حكم صادر عن المحكمة السنية في البقاع الغربي، 9 نيسان 2003
[11] حكم صادر عن المحكمة المارونية في زوق مصبح، 10 شباط 2015. 
[12] حكم صادر عن المحكمة السنية في بيروت،13 نيسان 2010
[13] للمزيد حول معيار مصلحة الطفل الفضلى ,وتنظيم عائلة “ما بعد الطلاق”، راجع: Thery, I. (1989). The Interest of the Child and the Regulation of the Post-Divorce Family. In: C. Smart and S.Sevenhuijsen, ed., Child Custody and the Politics of Gender, 1st ed. New York: Routledge, p.82.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني