السماعات العلنية لضحايا التعذيب: الجلاد حاضر رغم غيابه


2017-01-19    |   

السماعات العلنية لضحايا التعذيب: الجلاد حاضر رغم غيابه

خصصت هيئة الحقيقة والكرامة جلسات الإستماع العلنية الأولى التي عقدتها لضحايا الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وغاب عنها المتهمون بالضلوع في تلك الانتهاكات. لم يكن سبب غياب الجلادين إنكارهم لما نسب لهم، إذ كشفت عضو الهيئة علا بن نجمة أن منهم من اعترف في جلسات الإستماع السرية باقتراف أعمال تعذيب[1]. وهذا الأمر يوحي بأن غياب الجلاد عن ساحة الحدث في حلقاته الأولى لا يعدو كونه جزءاً من تخطيط لجلسات الاستماع، يكون معه حضور الجلاد منتظرا خلال سنة 2017[2] كتصعيد مدروس في نسق الجلسات. غيبت هيئة الحقيقة والكرامة الجلاد عن تحركها الأهم سنة 2016 قصدا لكن الغياب لم يكن كاملا إذ أن الضحايا في حديثهم عن تجربتهم استحضروا جلادهم فرسموا ملامحه التي ظلت تسكنهم.

كان الجلاد في أول تجلياته عون أمن يُمارس سلطته على جسد الضحية فتكشف ممارسته عن شخصيته[3]. كما كان الطبيب الذي لا تمنعه عباءته البيضاء من الإدارة الطبية لجلسات التعذيب. وكان القاضي الذي يحمي التعذيب بتواطئه أو بسلبيته. كما كان السجن والسجان وكذلك العائلة والمجتمع.

الأمني الجلاد: أي ملامح؟

تبدأ رحلة معاناة الضحية منذ يوم الإعتقال حيث يستعرض الأمنيون كل قوتهم، ويعملون على ترهيب المعتقل وكافة أفراد العائلة والأجوار. يحلون بمقر سكنى المطلوب مدججين عددا وعدة. كلمة السر واحدة: بث الرعب في نفوس الجميع، نفس المعتقل ومن حوله.. وفي هذا السياق، تتطابق شهادات الضحايا. تعرض جميعهم لذكر الجانب الاستعراضي المعتمد في الإيقافات. يبدأ الإعتقال حسب أغلب الشهادات بحصار واسع يضرب على محلات السكنى تمهيدا لاقتحام إستعراضي عنيف أشبه ما يكون بمشاهد أفلام الحركة. لكن سريعا ما تتحول “الكتيبة” إلى مجموعة لصوص يستولون على ما يمكنهم الاستيلاء عليه من تجهيزات منزلية وأموال ومصوغ مع بحثهم في ذات المناسبة عما يمكن أن يكون دليل إدانة. وهو أمر أكده سامي البراهمي وغيره ممن تم سماعهم .

تحدثت حميدة عجقني عن لحظة خروجها القسري من منزل عائلتها بضاحية سكرة وتذكرت كيف سأل أشقاؤها أعوان الأمن عن الجهة التي اعتقلت أختهم وأين سيتم التحقيق معها. كما تذكرت كيف كان رد الأمنيين مطمئناً: “سنصطحبها لمركز أمن سكرة لا داعي للإنزعاج. يمكنكم الإلتحاق بها هناك للسؤال عنها”. بمجرد الإبتعاد عن أعين أفراد العائلة والفضوليين، سمعت حميدة أحد الأمنيين يحذر الآخر: “علينا أن نسرع قبل أن يلتحقوا بنا”. طار بها عونا الأمن اللذان كانا يمسكانها جريا على الأقدام في اتجاه الشارع الرئيسي: هناك كانت سيارات مدنية متوقفة في الإنتظار، وبمجرد دفعها داخلها انطلقت بسرعتها القصوى نحو مقر وزارة الداخلية.

لم يختلف بشير العبيدي في شهادته. فقد أكّد أن أعوان الأمن الذين نفذوا “التعليمات باعتقاله” تولوا جره جريا بالشوارع وأمام الكافة مع ضربه وركله ورفسه لما يزيد عن ثلاثمائة متر، وهي المسافة التي تفصل بين محله ومركز الأمن الذي وصله مغمى عليه. لم يجد الأمني حرجا في أن يسرق وفي أن يعنف من يحتجز أمام العلن علاوة على عدم استحيائه من أفراد الأسرة يتنقلون من مقر أمني إلى آخر، يسألون عن إبن اعتقله الأمن ولا يعرفون له مآلاً. ولم يكن هذا سلوكا فرديا بدليل تكرره من شهادة لأخرى، رغم اختلاف الحقبات والجهات والمُعتقِلين والمُعتقَلين.

يكشف تحوّل الأمني العلني لمارق عن القانون عن كون صناعة الجلاد لم تكن بعيدة عن أعين جهات القرار. ويدل هذا الأمر على أن القيادة إستعملت وجهة سلوك أعوانها لتصنع الرعب في وسط من تلاحقهم لاعتبارات تتعلق بنشاط سياسي. فبذلك، يصبح الإعتقال الإستعراضي والتعذيب في الشارع للمعتقل والإهانة لأسرته بمثابة رسالة للمشاهدين تحذر من العقاب الجماعي الذي ينتظر كل من تسوّل له نفسه إتباع طريق المعتقل أو أن يتعاطف معه. عند هذا الحدّ، لا يختلف الأمني في ملامحه الأولية عن أي من بلطجية الشوارع. وربما كان هذا سبب عدم تحرجه كفرد ينتمي لذات الوسط الاجتماعي للضحية من أفعاله العلنية. وبالإنتقال من الفضاء العام إلى الفضاء المغلق أي المقرّ الأمني، تتغير ملامح عون الأمن فيستحيل الفعل البلطجي إلى حصص تعذيب جماعي يبرز فيها الأمني المتفاني في انتهاك فريسته.

يؤكد من أدلوا بشهاداتهم أن شخص الجلاد لم يغب عن أي مقر أمني. كما كشفوا أن التعرية (نزع ثياب المعتقل بالكامل) ممارسة ملازمة لجلسات التعذيب وأن العنف الذي سلط عليهم عرف في أيامه الأولى أقصى درجاته. تحدثت محرزية العابد عن تجربتها فذكرت أنها اختارت أن تصطحب إبنها الرضيع. أضحك اختيارها الأمني الذي قال “هي تظن أن طفلها سيكون شفيعا لها”. انتزع منها الأمني بمجرد وصولها إلى مركز الأمن الرضيع. ظنت أنه سيتولى تسليمه لعائلتها، لكنها يومين بعد ذلك اكتشفت أن الرضيع أودع في مكتب من مكاتب مركز الأمن.

ربما كان الطفل الذي فطم غصبا يبكي جوعا. لكن هذا مجرد تفصيل لأن أمه التي كانت تبكي وجعا لن تسمعه. هي عارية تماما تنقل من غرفة لأخرى، تضرب، تجلد، يتمّ تعليقها. يعترف جسدها للأمني بحملها فيقرر “الأزهر” وهو عون أمن يحب تعذيب النساء أن يمنع ميلاد “يهودي جديد”. ضرب موجه ومركز على البطن أثره سيلان دم غزير. ويستمر الضرب والتعذيب بعد الإجهاض ألقسري ومعه التهديد بالإغتصاب. يحرص الجلاد على استحضار الجنس في جلسات التعذيب. لا يكفيه منظر الجسد العاري ولا تمنعه الدماء واتساخ جسد الضحية من الملامسات الجنسية ومن إبداء رغبته في اغتصابه متى كانت الضحية أنثى أو بالتهديد بإغتصاب زوجته، أمه أو إبنته ان كانت الضحية ذكراً.

يتجاوز الجلاد حدود ما يمكن تخيله فيبحث عن الجمال في جسد امرأة تتألم. تحدثت في هذا الإطار حميدة عن حوار حضرته بين جلادين كان موضوعه “جمال الجسد العاري لإحدى الضحايا”. ويتفانى الجلاد في التعذيب فلا يمنع موت فيصل بركات يوم 08-10-1991 تحت التعذيب بمركز الأمن الوطني بمنزل بوزلفة أعوان ذات المركز من تعذيب رشيد الشماخي حتى الموت بعد ذلك بأسبوعين فقط.

تتطور مشاعية التعذيب وحصص التعذيب في مقر وزارة الداخلية لتستحيل الى مأسسة للتعذيب. تحدث الضحايا بخوف عن مقر الوزارة وعن مدخله الخلفي. تحدث جميعهم عن غرفة العمليات. وفرت الدولة بالغرفة المظلمة والملطخة جدرانها بالدماء كل وسائل التعذيب بداية من السياط والفلقة وانتهاء بتوصيلات الكهرباء. يتخصص هناك الجلاد في التعذيب يمارس مهنته بتفانٍ وفي إطار جدول زمني مضبوط.

يمارس الجلاد في مقر فرقة أمن الدولة كره الضحية بشغف. يكون الجلاد آلة تعذيب مبرمجة يفتخر بعدد من عذبهم. هذه الصورة القاسية تقطع رتابتها شهادات تتحدث عن جلادين يلتحقون بمقرات عملهم في حالة سكر وجلاد آخر يبكي في محضر ضحيته سالم كردون وهو يقول: “أنا لا أحب هذا العمل طلبت منهم إعفائي لكنهم يرفضون”. صورة مهتزة لجلاد يمارس التعذيب بحب. ولكن هذا الحب لا يمنع من بروز عذاب نفسي. ذات الصورة المهتزة لازمت حديث الضحية عن الطبيب الجلاد.

الطبيب جلادا..

لم يمنع قسم أبقراط  جانبا من الأطباء من تسخير علمهم في التعذيب. تحدثت الشهادات عن طبيب وزارة الداخلية الذي كان يشرف طبيا على جلسات التعذيب. كما تحدثت عن الطبيب الشرعي الذي يتفانى في طمس آثار التعذيب لتنتهي عند من يتعمد محاولة إخصاء الموقوف لمنع تواصل نسله.

حميدة عجقني توقفت جلسات تعذيبها يوم قرر طبيب الفرقة ذلك. سالم كردون الطبيب يفحصه ويقرر حاجته لراحة من التعذيب. كل من مرّوا بوزارة الداخلية أكدوا أن الطبيب كان في خدمة الجلاد ينصحه بما يمنع الإنهيار الكامل للمعتقل، حتى يكون لجسده المنهك القدرة على تحمل ما يسلط عليه دون أن يهلك.وأدى حضور الطبيب بساحة التعذيب بسامي البراهمي لأن يصف التعذيب الذي مارسته في حقه الفرقة المختصة بالتعذيب العقلاني في مقارنة بالتعذيب الفوضوي الذي مارسه في حقه الأمنيون في غيرها من الفرق الأمنية.

يتكفل الطبيب الشرعي بضمان سلامة الجلاد إذا ما إنتهى التعذيب لموت الضحية. يحرر الطبيب تقارير تؤكد أن الموت كانت نتيجة حادث مرور أو انتحار وهو أمر أكده شقيق الشهيد فيصل البركاتي الذي قتل تحت التعذيب بمركز الأمن الوطني بقعفور سنه 1987. ويصل الأمر بطبيب السجن لأن يسكب مادة حارقة على العضو الذكري للسجين سامي البراهمي ليمنع تواصل نسله.

لا يمنع الحضور اللافت للطبيب الجلاد من حضور الطبيب الإنسان والمهني. فهو يعالج بقدر جهده جسد المتهم كما أنه يمنع أعوان الأمن من انتهاك حرمة المؤسسة الطبية كما أكد ذلك أكثر من ضحية. كما لم يكن الطبيب وحده محل اتهام بمشاركة الجلاد صفته. فالقاضي بعباءته السوداء كان أيضا في نظر الضحايا جلادا.

القاضي : جلاد بتجليات مختلفة

نجوى الرزقي وحميدة عجقني تمت محاكمتهما وصدرت في شأنهما أحكام بالسجن. رغم ذلك لا تشيران في شهادتهما لحضور القاضي. تحدثتا بشكل عرضي عن محاكمتهما. بدا الأمني في شهادتهما من يصنع الحكم. حضر القاضي في شهادات سامي البراهمي وعبد الله بن صالح وسالم كردون وشقيق فيصل بركاتي فكان قاضي تحقيق عسكري يعنف المتهمين في تجربة عبد الله بن صالح كما كان قاضي تحقيق يأمر السجان بتعذيب سامي البراهمي لأنه رفض الإمضاء على محضر البحث فيما كان قاضي المحكمة العسكرية في شهادة سالم كردون شخصا لا يستمع للمتهمين ولا للمحامين. يدير جلسته كتلميذ يتلو نصا حفظه. وانتهى القاضي في شهادة شقيق فيصل بركاتي إلى شخص من دون صلاحيات، يكتفي بمعاينة جثة ضحية تعذيب دون أن يصدر عنه أي موقف .

فرض توزيع الأدوار بين الجلادين حضورا باهتا للقاضي. ويكشف النظر في تطور الإصطلاح اللغوي في اللهجة التونسية أن المواطن لمس هذا الضعف. إذ يذكر هنا أن مصطلح حاكم بما يختزله من دلالات لغوية كان إلى حدود ثمانينيات القرن العشرين يسند للقضاة بوصفهم من يحكمون. ولكن وبعد هذه الفترة تغير الأمر وبات الحاكم [4]كمصطلح يدل على الأمني دون سواه ليختزل بذلك رجل الأمن لوحده –في الوعي الجمعي- كل مكونات المؤسسة القضائية بدءاً من أعوان الضابطة العدلية، مروراً بهيئات التحقيق وانتهاء بالهيئات الحكمية، بما قد يدل على أن المجتمع تفطن لحقيقة الدور القضائي وأصبح واعياً بواقعه وتبعيته وحدوده. هذا المجتمع الفطن فضحت شهادات الضحايا أنه كان بدوره شريكاً في التعذيب.

المجتمع :جلاد أقسى من كل الجلادين

كان من حضروا جلسات الإستماع يتابعون شهادات الضحايا وكأنهم يكتشفون أمرا غريبا عنهم يصلهم علمه لأول مرة. وكان ذلك ردة فعل من لم يكونوا من ضمن المدعويين لحضور الجلسات وتابعوا أشغالها عن بعد لكنهم حرصوا على تضمين ردود أفعالهم بشبكات التواصل الاجتماعي. كشفت شهادات الضحايا أن تلك الصورة لا تختزل فعلا حقيقة المشهد. فالمجتمع كان كما وصفه سالم كردون سجنا أقسى من السجن الضيق.

أكد السجين السابق أن أقسى ضروب المعاناة تبدأ بالخروج من السجن. فالأهل والأقارب يتحاشون من كان سجينا خوفا من أن ينالهم أذاه. وتتدخل هنا أيضا الدولة بأمنها لتستديم التعذيب وتمعن في التضييق عليه في تنقله وعمله وقوت يومه ونوم ليله. فتفرض على من وصف في السجن بسجين ذي صبغة خاصة مراقبة إدارية خاصة ودائمة تصل في المناسبات الوطنية إلى حد الاحتجاز بمقر الأمن لساعات طويلة .

كشفت شهادات الضحايا عن أن من ينتظرون الآن ظهور الجلاد على خشبة مسرح جلسات الإستماع العلنية ربما ينتظر منهم أن يتقدموا لاعتلاء الخشبة ليعترفوا أن التعذيب لم يكن ممارسة أفراد بقدر ما كان ممارسة تستند لتصور ثقافي وتجد لها حاضنة إجتماعية.

نشر هذا المقال في العدد 7 من مجلة المفكرة القانونية في تونس


[1] في جلسات استماع سرية: “الجلادون” يعترفون بممارسة التعذيب.. وتوجه نحو بث شهاداتهم في القنوات التلفزية – بسام حمدي -30-11-2016  موقع حقائق أون لاين.   
2- الجمعة… استئناف جلسات الاستماع العلنية. و“الجلّاد” سيسجّل حضوره –  الشاهد 15-12-2016.[2]
[3] عرفت اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، التعذيب بأنه “أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا،يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث،على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في انه ارتكبه،هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث – أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها.
[4] كان إلى حدود ثمانينات القرن العشرين يصطلح قانونا على تسمية القضاة بالحاكم فكانت النصوص القانونية تشير الى من يضطلع بوظيفة قاض بأنه حاكم . تم لاحقا وفي اطار مراجعات اصطلاحية تهدف لتهذيب الاستعمال التشريعي للغة العربية تم استبدال مصطلح حاكم بالقاضي ولم يمنع ذلك من استمرار اعتماد عدد من المجلات القانونية لمصطلح حاكم الى الآن . في المقابل، ظل الخطاب الشعبي يصطلح على تسمية القضاة بالحكام في استعارة لدورهم أي اصدار الاحكام. لكن لاحقا تطور اللسان الشعبي وبات يسند صفة حاكم لرجال الأمن في اعتراف غير معلن بكون الدولة يحكمها الأمن .

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني