الرياضة ميدانٌ للاحتجاج: حين تخرج الكرة من الملعب إلى الشارع


2021-03-05    |   

الرياضة ميدانٌ للاحتجاج: حين تخرج الكرة من الملعب إلى الشارع
رسم عثمان سلمي

عرفت البلاد التونسية بعد تحوّلات 2011 جملة من التحرّكات الاحتجاجية الاجتماعية مسّت العديد من الجوانب ممّا ساهم في تبلور وعي مجتمعي جديد قائم على الفعل الجماعي/الفردي سعى من خلاله الأفراد إلى تغيير واقعٍ أو نقد قراراتٍ، ليكون الشارع هو المنبر الذي تعلو فيه أصوات التنديد.

رغم أنّ الصّبغة الاجتماعية والاقتصادية للمطالب التي طبعت أهمّ التحرّكات الاحتجاجية، المتأثّرة بدورها بالخصائص الثقافية والاجتماعية المحلّية للمجتمع وذلك باكتسابها بُعداً طبقياً في معناه الماركسي، إلّا أنّ مضامينها لم تتجاوز الأبعاد الكلاسيكية كالمطالَبة بالتشغيل وإقرار المساواة بين الجهات والبحث عن التنمية. لكن سرعان ما اتّسعت رقعة هذه الاحتجاجات وتنوّعت، لتشمل مواضيع لم يعتدْ المجتمع التونسي علنيّتها رغم انبثاقها منه، كالحركات النسوية والمِثْلية الجنسية والحركات البيئية ومحاربة الفساد وغيرها من القضايا التي تُصنَّف ضمن الحركات الاجتماعية الجديدة اللامادّية.

ترافق تعدُّد المشهد الاحتجاجي وتنوّع قضاياه مع رصد تحرّكات تُعنى بالمجال الرياضي لا يزال صداها متواصلاً إلى اليوم. فقد شهدت البلاد التونسية أواخر سنة 2019 وخلال سنة 2020 أحد أهمّ التحرّكات من هذا النوع، حيث تصدّر كلٌّ من “النادي الأفريقي” و”هلال الشابّة الرياضي” الأحداث التي عاشتها البلاد في السنتين المذكورتين.

وشهدنا، رغم الاختلاف الحاصل على مستوى قضايا كلٍّ من الفريقين، تضافرَ الجهود من أجل إنقاذهما. فقد عمد كلّ طرف إلى بلورة استراتيجيّة خاصّة تُعنى بإيجاد حلّ لمعضلة العقوبات المتتالية ممّا دعا إلى التحام أحبّاء الفريقين بهدف التصدّي للأزمات التي حلّت بناديَيْهِم.

تُحيلنا الظاهرةُ التي نحن بصدد دراستها إلى أهمّيّة رياضة كرة القدم لدى الجماهير التونسية، باعتبارها الرياضة “رقم واحد” منذ تأسيسها. فقد توارثت الأجيال هذا الشغف ليخلَّد في الذاكرة الجماعية للأحبّاء ويتحوّل في ما بعد إلى أحد أهمّ الحركات الاجتماعية.

سنحاول، في هذه المقالة، فهمَ كيفيّة تحوّل كرة القدم من مجرّد وسيلة ترفيهية إلى أحد أهمّ المنابر الاحتجاجية. فإلى أيّ مدى يمكن اعتبار الاحتجاجات في المجال الرياضي حركات اجتماعية؟ وكيف يمكن للجماهير الرياضية أن تغيّر مصيرها عبر مفهوم الفعل الجماعي؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، نحن بصدد الدفاع عن فرضيّة أنّ المجال الرياضي في تونس تجاوز مفهوم الترفيه ليتبنّى جملة من المفاهيم النضالية، ويكونَ مسرحاً لأهمّ الأحداث الاحتجاجية المتشكّلة عبر الفعل الجماعي الذي سنعرضه: من الهبّة إلى الحركة الاجتماعية فالحركة الاحتجاجية. ولفهم هذه الظاهرة أكثر، وَجَبتْ العودة إلى التسلسل التاريخي لهذه الأحداث كونها ليست وليدة اللحظة بل ترجع إلى تأسيس أوّل النوادي الرياضية في تونس.

بناءً عليه، سنتناول في الجزء الأوّل أهمّ الأحداث الاحتجاجية التي أحدثها المشهد الرياضي خصوصاً في كرة القدم، وذلك بالرجوع إلى تاريخيّة الظاهرة وصولاً إلى حركة “الألتراس”. ثمّ نخصّص الجزء الثاني لفهم استراتيجيّة “اللطخات” التي اعتمدها جماهير “النادي الأفريقي” كمحاولة لإنقاذ ناديهم من النزول إلى القسم الثاني من البطولة التونسية، بعد تراكم عقوبات الاتّحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، لتكشف هذه المبادرة عن مفهوم الالتزام لدى الجماهير الرياضية. ثم نتطرّق في الجزء الأخير إلى فكرة المقاومة في المجال الرياضي عبر تحليل أزمة “الهلال الشابّة” بصفتها مثالاً لمقاومة قرار الحلّ الصادر في حقّه من قِبل الجامعة التونسية لكرة القدم.

تاريخيّة الاحتجاج في المجال الرياضي

تعدّدت الأحداث التي جعلت من المجال الرياضي حاضنة لكثير من الحركات الاحتجاجية. يرجع الأمر إلى النشأة الأولى لكرة القدم التونسية التي تزامنت مع تأسيس “الحزب الدستوري الحرّ التونسي”، أوّل الأحزاب التونسية 1919/1920. وليس من باب الصدفة أن تكون كلّ من باب سويقة وباب جديد مكان نشأة النوادي الأولى لكرة القدم، وفي مقدّمتها فريق “الترجّي الرياضي التونسي” (1919) و”النادي الأفريقي” (1920)، خصوصاً أنّ أبرز قادة الحركة الوطنية قد اتّخذوا من العاصمة مقرّاً لهم. ليكون بالتالي الهدف من تأسيسهما المقاومة الرمزية للمحتلّ وتحويل الملعب إلى ساحة قتال افتراضية بين النوادي المسلمة ونوادي المُستعمِرين نظراً لسيطرتهم على رياضة كرة القدم منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبمثابة رهان يتجاوز الرياضة ليصبح ذا دلالات سياسية واضحة. هذا ما جعل من كرة القدم مسرحاً للعديد من الأحداث التي كانت سبباً في بلورة الفكر الاحتجاجي لدى الجماهير الرياضية، فقد كانت الحركة الوطنية حينها مُلِمَّة بجميع المجالات لتضمن نشر وعي المقاومة. وإن كان للرياضة بُعدٌ ترفيهيٌّ فقد صارت، لاحقاً، الساحة الأبرز للتعبئة الجماهيرية، خصوصاً أنّ المُستعمِر قد فرض حصاراً بعد أحداث الجلّاز سنة 1911 ومنع التجمّعات في الفضاء العامّ لتتحوّل المدرّجات العليا (l’enceint) إلى منابر سياسية[1].

لازَمَ الفعل الاحتجاجي كرةَ القدم التونسية حتّى بعد الاستقلال، ليواصل أحبّاء هذه الرياضة استخدام المدرّجات كمنابر للنقد السياسي، سواء كان ذلك في المجال الرياضي أو في الشأن العامّ. ويجدر في هذا الصدد ذِكرُ أحد أبرز الاحتجاجات التي أشعلت العاصمة من شدّة الاحتقان الناجم عن قرار رياضي قضى بتجميد “الترجّي الرياضي التونسي” (شيخ الأندية التونسية) وإيقاف نشر مجلّة “الترجي”، إضافة إلى حلّ خليّة الأحبّاء لتعمّ موجة غضب في صفوف جماهيره. تعود هذه الأحداث إلى تاريخ 13 جوان 1971 وهو موعد مباراة نهائي كأس تونس بين فريقَيْ “باب سويقة” و”النادي الصفاقسي” في ملعب المنزه. وُصِفَتْ المباراة بـ”محرقة المنزه” إثر حالة الغضب التي عمّت صفوف جماهير “الترجّي” الذين عمدوا إلى رشق السياسيين بالمقذوفات احتجاجاً على عدم قبول مطلب تقديم لقاءات البطولة على نهائي الكأس واثقين من “تحاملهم” عليهم. ولم تُحَلّ المسألة إلّا بتدخّل الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وإعلانه رسمياً استئناف “الترجّي الرياضي التونسي” لنشاطه[2]. وخُلّدت هذه الحادثة في العديد من أغاني “الألتراس” فخراً بالعبارة التي استعملها بورقيبة حينها في وصفه للنادي بقوله “الترجّي دولة”.

كان العنف الذي طال العمليّة الاحتجاجية وسيلة ضغط قسرية، ساهمت في إخضاع السلطات لمطالب الجماهير وبخاصّة أنّه فعل جماعي منبثق عن إرادة جماعية للأفراد القائمين بالفعل، حيث يمكن تشبيههم بالهبّة (des émeutes) وتحديداً أنّ أعمال عنف وشغب تخلّلت احتجاجهم. لكن توجّههم إلى الرئيس بورقيبة حوّل الأمر من هبّة “ترجّية” مفادها ظلم الهياكل الرياضية إلى احتجاج موجّه ضدّ قرار “تعسّفي”. ولنا هنا أن نتساءل عمّا إذا كانت هذه الاحتجاجات لتتحوّل لأوّل هبّة شعبية في تونس بعد الاستقلال لو لم يلبّ الرئيس السابق طلبهم؟ وهل أنّ بورقيبة الذي عُرف بنظرته الاستشرافية في السياسة، قد تنبّأ بإمكانيّة تحوُّل هذا الحدث إلى انتفاضة؟ خصوصاً وأنّ ديدييه لابيروني (Didier Lapeyronnie) عرّفها، في سوسيولوجيا الهبّات، بأنّها “الفعل البدائي للانتفاضة” (le fait des primitifs de la révolte)[3].

في نهاية التسعينيّات من القرن الماضي، عرف المشهد الرياضي التونسي تغيّرات خاصّة في كرة القدم التي لا تزال، منذ تأسيسها إلى اليوم، الأكثر شعبية لدى الجماهير الرياضية. فقد تغيّر نمط تلقّي المباريات، إذ تمّ الانتقال من ثقافة المشاهدة إلى ثقافة التشجيع ليُعلَن عن ميلاد “اللاعب الثاني عشر”. فمع تأسيس مجموعات “الألتراس”، شهدت المدرّجات تجلّيات لمعنى النضال في ظلّ قمع النظام السابق وغياب شبه تامّ للتحرّكات السياسية والنقابية ليصبح الملعب المكان الوحيد تقريباً للتعبير. انتقل بالتالي الالتزام من الفضاءات الكلاسيكية إلى المدرّجات. كانت مجموعات “الألتراس” فاعلاً احتجاجياً قبل وبعد ثورة جانفي 2011 التي أطاحت بالنظام القمعي لزين العابدين بن علي باعتمادها على مانيفستو احتجاجي/ملحمي قائم على ثقافة الـ”أندرغراوند” أو الثقافة التحتية حملت في طيّاتها مضامين وتعبيرات ثورية تنبّأت فيها بانهيار منظومة بن علي القمعية على غرار “Révolution قريبة يالي تحب تحكمونا”، وذلك قبل بداية أحداث ديسمبر. إذاً، ساهمت تلك المجموعات من موقعها بشكل ملموس وجليّ في تشكيل حركة اجتماعية رافضة للنظام الاستبدادي ومنادية بالحرية ومُسخِّرة استراتيجيّة فِعلٍ لم تعهدْها السلطة من قبل، قوامُها أشكال احتجاجية جديدة تستمدّ فرادتها من قدرتها على الجمع بين المَحمَل الفنّي والأفكار التحريرية”[4]. على الرغم من الدور الجوهري الذي أدّته مجموعات “الألتراس” في نشر قيم الحرّيّة وتشكيلها لفكر ثوري شبابي تبنّته حركات احتجاجية عدّة بعد 2011 فلم تشارك هذه المجموعات فعلياً ولم تستخدم أسماءها في سيرورة جانفي 2011 بل شارك أعضاؤها بصفة فردية، على خلاف ما حدث في مصر حين لُقّب “الألتراس الأهلاوي” بحماة الثورة نظراً لدورهم التسييري في الميدان.

لطخات “الأفريقي” والتزام جماهيره

عرفت أواخر سنة 2019 ظاهرة رياضية نادرة الحدوث، كان جماهير “النادي الأفريقي” الفاعل الرئيسي فيها، امتازت بالفعل الجماعي الذي جعل ظاهرة “الـلطخات” من خصائص الحركة الاجتماعية الجديدة.

يمكن تعريف مصطلح اللطخات في العامّية التونسية بوقوع الشيء أو سقوطه بقوّة. لكن تغيَّرَ هذا التعريف مع لطخات “الأفريقي” لتكون مثلاً للاستناد لا الوقوع، أو الصدمة التي تقودنا إلى الانبهار، إن صحّ التعبير. ولدى سؤال أحد المسؤولين المنظِّمين لتسيير هذه العملية عن سبب اختيار هذا المصطلح، أجاب أنّه “استلهمه من الانتخابات الرئاسية في ذلك الوقت وكيفيّة صعود قيس سعيد وفوزه بالانتخابات حيث شاع استعمال المصطلح في تونس”[5].

تكوّنت اللطخات من أربع مبادرات مهمّة، جمع خلالها أحبّاء “النادي الأفريقي” ما يقارب الستّة ملايين دينار ساهمت نسبياً في سداد ديون النادي بعد العقوبات التي سُلِّطت عليه من قبل “الفيفا”[6] وتعاظُمِ خطر نزوله إلى القسم الثاني من البطولة الوطنية.

وقد تعدّدت الخطايا المالية للفريق نتيجة عوامل كثيرة ساهمت في انهياره على مختلف الأصعدة، المالية منها والرياضية والإدارية. وتجلّى سوء التسيير الإداري المتعاقب خصوصاً في فترة رئاسة سليم الرياحي[7] بفسخ عقود المدرّبين واللاعبين بدون علمهم، إضافة إلى عدم خلاص الديون في الآجال وغياب أهمّ التقارير المالية. لم تنبع أزمة “النادي الأفريقي” من أخطاء إدارية أو سوء تسيير فحسب إنّما أسبابها أعمق وتتعلّق أساساً بقانون الجمعيّات الذي تعتمده النوادي التونسية في تسيير شؤونها والذي يضع النوادي في تبعيّة تامّة لرؤوس الأموال نظراً إلى غياب الموارد المالية. وهذا ما سهّل دخول سليم الرياحي إلى عالم الرياضة واستغلال جماهير النادي في ألعابه السياسية.

أمام عجز الهياكل الإدارية للفريق عن حلّ الأزمة والغياب التامّ لأهمّ أصحاب الأعمال، الذين تمّ استدعاؤهم من قِبل رئيس الجامعة ضمن مبادرة لتجميع الأموال بعدما بلغت ديونه لدى “الفيفا” وحدَها ما يقارب العشرين مليون دينار، قرّر أنصار النادي التدخّل من أجل إنقاذه والأخذ بزمام الأمور مُطلقِين حملةً شعارُها “إحنا كباراتها” التي تعني أنّ الجمعيّة ملك لجماهيرها.

بدأت الحملة بتكوين فريق من خمسة أشخاص استخدموا استراتيجية تنظيمية مُحكَمة قائمة على الفعل الجماعي الموجّه والشفافية والتواصل والثقة مع جماهير النادي. ووفّرت مجموعات فيسبوك التي أُنشئت وخُصِّصَت لهذه المهمّة، المعلومات المتعلّقة بعمليّة تجميع الأموال وعرض الحصيلة اليومية للتبرّعات. من جهة أخرى، عقدت جامعة كرة القدم جلسة أخرى قرّرت خلالها فتح حساب بنكي مخصّص للأموال المتأتّية من هذه الحملة. وتُحيلنا هذه المبادرة إلى تجربة “سوسيوس” النادي “الرياضي الصفاقسي” التي انطلقت من الفكرة نفسها في 2008 واستطاعت أن تجمع أكثر من 10 آلاف محبّ يدفعون مساهمة شهرية تحقق استثمارات ومداخيل قارّة للنادي للحدّ من تبعيّته لأصحاب الأعمال.

وقد استلهمت الحملة بنيتها التنظيمية من عوالم “الألتراس” من أجل ضمان حسن سير عمليّة الإنقاذ، حيث استُخدِم مصطلح “التدويرة” بمعنى تجميع الأموال من المواطنين وأنصار الفريق في كلّ حيّ تحت إشراف شخص يسمّى “chef secteur” أو رئيس المنطقة لدى هذه المجموعات التي غطّت أغلب مناطق الجمهورية. وتكمن المفارقة هنا في كون حركة “الألتراس”، المرفوضة من قِبل جميع الهياكل الرياضية التي تضافرت جهودها في فترة سابقة من أجل ردعها، كانت هي الملاذ الأخير لجماهير “الأفريقي” موحِّدةً كافّة الفئات الاجتماعية.

إنّ ما جعل من اللطخات ظاهرة فريدة من نوعها، بالإضافة إلى كونها سبباً في التحام جميع الهياكل الرياضية بغية إنقاذ “النادي الأفريقي”، هو حجم التعبئة الجماهرية أو تعبئة الموارد التي كانت السبب الرئيسي في نجاح هذه المبادرة المرتكزة في الواقع على وجود قضيّة نبيلة. فالأفراد ينخرطون في مثل هذه الحركات لأنّهم يراهنون على تحقيق مصالح جماعية. لكن لم يقتصر الأمر على هذا المعطى فحسب، بل مثّل الدافع الانتمائي الذي يُحيلنا إلى مفهوم الهوّيّة الجماعية التي تحوّل الـ”أنا” إلى “نحن”، أساس هذه الهبّة التي تجاوزت أصداؤها الساحة التونسية. فنستنتج عموماً أنّ الشعور بالانتماء يجعل الأفراد يلتزمون بالقضايا وينخرطون فيها. يبيّن كلّ من ديبرا فريدمان (Debra[8] Friedman) ودوغ ماك آدم (Doug McAdam)[9] أنّ الهوّيّة الجماعية هي إعلان عن الانتماء الفردي في علاقة مع الآخر وأنّ الانتماء إلى هوّيّة جماعية هو إعادة بناء الأنا الفردية حول [أنا] أخرى جديدة ذات قيمة.

وعليه، يمكن تصنيف اللطخات على أنّها ظاهرة كلّية جامعة لعديد المتغيّرات الاجتماعية والرياضية والثقافية والقانونية وخصوصاً الرمزية، نظراً إلى عراقة “النادي الأفريقي” وتغلغله في الذاكرة الجمعية لأحبّائه. كما يمكن تصنيفها على أنّها حركة اجتماعية قائمة على الفعل الجماعي الذي تطوّر من مفهوم الالتزام إلى مفاهيم أخرى كالتضامن الذي تمظهر سابقاً في حملات المساعدة لضعيفي الحال.

3-الشابّة تنتفض

صعد “هلال الشابّة الرياضي” إلى القسم الأوّل من الرابطة المحترفة التونسية لكرة القدم سنة 2019، بعد ما يناهز الستين سنة على تأسيسه. ورغم حداثة عهده في القسم فإنّ أداء النادي المتميّز جعل اسمه يشعّ وسط أهمّ الأندية التونسية. لكن مسيرته عرفت منعرجاً حاسماً عندما قرّرت الجامعة التونسية لكرة القدم، في 17 أكتوبر 2020، تعليق نشاط الفريق ومنعه من المشاركة في المسابقات التي تنظّمها الجامعة وهياكلها خلال الموسم الرياضي 2020-2021. وذلك بمقتضى الفصول 25 و29 و31 من قوانينها العامّة نظراً إلى عدم استكمال ملفّ الانخراط.

وترجع حيثيّات تلك العقوبة إلى سبع تدوينات نشرتْها صفحة النادي على فيسبوك، وجّهت فيها نقداً لاذعاً للمسؤولين عن رياضة كرة القدم في تونس. عاقبت الرابطة على إثرها النادي بخطايا مالية كبيرة بلغت 180 ألف دينار ومنعت كاتب عامّ نادي “هلال الشابّة” من الجلوس على دكّة الاحتياط لمدة 39 مباراة وأوقفت رئيس النادي توفيق المكشّر عن كلّ نشاط يتعلّق بكرة القدم لمدّة سنتين. ورغم إحالة الدعوى إلى طور الاستئناف فوجئ مُسيِّرو “هلال الشابّة” لاحقاً بقرار الإيقاف.

أثارت الخطوة التي اتخذتها الجامعة التونسية لكرة القدم، موجة من الغضب في مدينة الشابّة تندّد بالقرارات التعسّفية للمكتب الجامعي التي اعتُبرت تسوية لحسابات شخصية بين رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم وديع الجريء وإدارة “هلال الشابّة”. تحوّل السخط والاحتقان خلال وقت وجيز إلى سلسلة من التحرّكات الاحتجاجية المتمثّلة في غلق الطرقات الرئيسة المؤدّية إلى المدينة وتنظيم وقفة احتجاجية أمام مركز الولاية، إضافة إلى غلق المؤسّسات والمرافق العمومية ليتحوّل هذا الحراك من مجرّد احتجاج إلى إضراب عامّ في الجهة أسفر عن استقالة المجلس البلدي، فق ما أعلن رئيس بلدية الشابّة حسين نصري.

ورغم تصاعد حدّة الحركات الاحتجاجية التي عمّت البلاد خلال تلك الفترة كان التحرّك الذي اعتمدته الشابّة الأبرز، حيث نظّم المحتجّون “حرقة”[10] جماعية ضمّت لاعبي نادي “هلال الشابّة” إضافة إلى المسيّرين وعدد من جماهيره بعد تجاهل المسؤولين طلبات الإدارة إعادة النظر في القرارات التي اتّخذتها الجامعة، لتعقد رئاسة الحكومة لاحقاً اجتماعاً طارئاً مع رئيس النادي توفيق المكشّر.

اعتُبرت “الحرقة” التي نفّذها المحتجّون في الشابّة منعرجاً في مفهومها المتعارف عليه، وذلك عبر تغيير طقوسها، بدءاً بالتوقيت. فقد اختير منتصف النهار موعداً للانطلاق ونُشرت حيثيّاتها عبر تطبيق البثّ المباشر على فيسبوك، كاسرة الطابع السرّي الذي يميّز عمليات الهجرة غير النظامية هذه فاكتسبت، بالإضافة إلى رمزيّتها الاحتجاجية، بُعداً تصعيدياً ردّاً على تجاهل الجهات المسؤولة. وتُحيلنا تحرّكات جماهير الشابّة إلى ما أشار إليه ميشال أوفيرلي[11] (michel offerlé) بعد تقسيمه الاحتجاجات إلى ثلاثة أشكال[12]: العدد (le nombre) الذي يعبّر عن الاحتجاج/الانتفاضة، بمعنى النزول إلى الشارع، والمتمثّل في إغلاق الطرقات والوقفات الاحتجاجية؛ العلم (la science)، أي تواجد كفاءات على دراية بكيفيّة التحكّم بالجماهير المتمثّلة هنا في قيادة إدارة جمعيّة هلال الشابّة للعمليّة الاحتجاجية؛ وأخيراً، الاستناد (vertu) الذي يتمثّل في تقنيّة الفضيحة (la technologie de scandalisation) التي تُستخدَم عند الافتقار للموارد، كإضراب الجوع (الإضراب عن الطعام) وغيره، والتي اتّخذت في حالة مدينة الشابّة شكل “الحرقة” الجماعيّة والعصيان المدني. وهذا ما دفع السلطات المعنيّة إلى التحرّك بغية إنقاذ الموقف، بعد أشهر من التجاهل. وقد اعتمدت معظم الحركات الاحتجاجية هذه التقنيّة خلال تلك الفترة في تونس، مثل احتجاجات الكامور.

سلّطت هذه الحادثة الرياضية الضوء على عدد من الظواهر التي يشهدها المجتمع التونسي كظاهرة “الحرقة” والاحتجاجات ذات الطابع التصعيدي، وأدّت دوراً في إبراز هشاشة النظام المُتَّبَع من قِبل الهياكل الإدارية الرياضية على مستوى التسيير والتصرّف. كما أنّها طرحت تساؤلات عديدة حول مسألة حرّيّة التعبير خصوصاً أنّ التوتّر بدأ إثر التدوينات التي نشرتها الصفحة الرسمية لفريق “هلال الشابّة” منتقدة طريقة التسيير في الجامعة التونسية لكرة القدم. لكنّها، وفي الوقت نفسه، أعادت إحياء الخطاب الجهوي الرياضي لدى المسؤولين في الجامعة ومسيّري النادي المذكور على حدّ سواء. فقد استحضر وديع الجريء في العديد من المناسبات انتماءه إلى الجنوب التونسي لشدّ العصب الجهوي لصالحه، حتى تحوّل الصراع بينه وبين توفيق المكشّر إلى صراع بين الجنوب والساحل. حصل ذلك بعدما استخدم رئيس “جمعية الشابّة” الأسلوب نفسه تنديداً بعدم مساندة “المستقبل الرياضي” في الرجيش لناديه خصوصاً أنّهما ينتميان إلى الولاية نفسها لينتقل هذا الخطاب في مرحلة لاحقة إلى الجماهير الرياضية ويظهر إلى العلن. يعكس هذا التطوّر حالة الوعي الجماعي والتضامن والولاء القبلي الذي يولّد القوّة الجماعية لإثارة نوع من العصبية الخلدونية. وهو ما تأكّد بعد إعلان رئيس نادي “النجم الساحلي” رضا شرف الدين و”الاتّحاد الرياضي بقصور الساف” التابع لولاية المهديّة تضامنهما مع “الشابّة” عبر بيان رسمي يندّد بقرار 17 أكتوبر، بإشارة إلى لحمة الـ”سواحلية”[13]. ولا تزال هذه القضية إلى حدود كتابة هذه الأسطر مفتوحة على جميع الاحتمالات. وتتواصل حالة الاحتقان في صفوف أهالي مدينة الشابّة في ظلّ غياب أيّ تدخّل حكومي لإيجاد حلّ يلبّي مطالب أنصار الجمعية، رغم تراجع حدّة الاحتجاجات تزامناً مع تصاعد حالات الإصابة بفيروس كورونا بعد الفوضى التي شهدتها المنطقة.

عكست قضيّة “هلال الشابّة” مفارقة مُحيِّرة. فالجامعة التونسية لكرة القدم كانت سبباً في تجميع مكوّنات المشهد الرياضي في قضيّة “النادي الأفريقي” مع الفيفا. وساهمت في خلاص جزء من الدين وإقراض الفريق رغم كونها لم تكن مُجبَرة على التدخّل في المسألة. لكنّها تسبّبت بانهيار فريق كان قد منح، بصورة أو بأخرى، نوعاً من الأمل لسكّان مدينة الشابّة ووفّر فضاء ترفيهياً ورياضياً لـ450 طفلاً وأصبح المُتنفَّس الوحيد لأهالي المنطقة وبديلاً عن المؤسّسات التقليدية للتنشئة الاجتماعية.

 

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

  1. Lotfi Zahi , « Aux origines du Club Africain : et du mouvement associatif sportif Tunisien », Tunis, Editions Karem Sharif, 2012, p. 8.
  2. https://www.esperance-de-tunis.net/histoire/
  3. Michel Kokoreff, « Sociologie de l’émeute les dimensions de l’action en question », Déviance et Société, Volume 30, numéro 4, p. 522.
  4. شيماء بن رجب، “الألتراس أشكال التنظّم وأبعاده السياسية والاجتماعية”، كرّاسات المنتدى عدد 2: سوسيولوجيا الفعل الجماعي في تونس منذ 14 جانفي 2011 تعدّد طرق الانخراط وتنوّع أشكال الاحتجاج، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 2019 ص. 91.
  5. شيماء بن رجب، “محاولة مشجّعي النادي الأفريقي إنقاذ ناديهم: مقاربة سوسيولوجية في الالتزام”، كرّاسات المنتدى عدد 3: الالتزام وفكّ الالتزام، تونس، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 2020، ص. 92. http://www.ftdes.net/rapports/cheima.pdf
  6. الاتّحاد الدولي لكرة القدم‏، ويُعرَف اختصاراً باسم فيفا.
  7. سياسي ورجل أعمال ومؤسّس ورئيس حزب الاتّحاد الوطني الحر الذي استقال منه في 2017، معلِّقا نشاطه السياسي والحزبي ليعود إلى الساحة أواخر 2018، في الحزب نفسه الذّي اندمج في “حركة نداء تونس”، ليستقيل مجدّداً في فيفري 2019.عاد الرياحي في أوت 2019، إلى المشهد مجدّداً بتكوين حزب جديد “حركة الوطن الجديد”، خاض به غمار الانتخابات التشريعية التي جرت بعد ذلك بشهرين من دون أن يحقّق أيّ نتائج. والرياحي موجود حالياً في فرنسا، وهو ملاحَق قضائياً بتهم فساد وتبييض أموال.
  8. باحثة في علم الاجتماع في جامعة واشنطن.
  9. أستاذ علم الاجتماع في جامعة ستانفورد.
  10. المصطلح المعتمد في العامّيّة التونسية للإشارة إلى الإبحار خلسة نحو الشواطئ الأوروبية.
  11. باحث فرنسي مختصّ في علم الاجتماع التاريخي وعلم الاجتماع السياسي.
  12. Olivier Fillieule, « Stratégies de la rue, les manifestations en France », Presses de Sciences Po, paris , 1997 , p. 39.
  13. أهل الساحل بالعامّيّة التونسية.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، تونس ، حراكات اجتماعية ، الحق في الصحة والتعليم ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني