الرواتب تتآكل والأسعار نار.. كيف يتدبّر اللبنانيون أمورهم؟


2021-04-02    |   

الرواتب تتآكل والأسعار نار.. كيف يتدبّر اللبنانيون أمورهم؟
الثور المجنّح في سوبرماركت لبناني، رسم من وحي كتاب "ضد القمح" لجيمس سي. سكوت (رسم رائد شرف)

ما هو حال ذوي الدخل المحدود والمتدنّي أمرهم راهناً، في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار وتردّي الأوضاع المعيشية في لبنان؟ سؤال لا بدّ من طرحه مع تراجع قيمة الرواتب، المنخفضة أصلاً، بفعل تدهور سعر الليرة وارتفاع الأسعار. إذا أخذنا الحد الأدنى للأجور البالغ 675 ألفاً، فبعملية حسابية بسيطة نجد أنّه لا يكفي راهناً لشراء عبوة زيت وكيس حليب وبضع كيلوغرامات من الأرز والعدس والحبوب. ولكن الكثير من الأسر في لبنان اليوم كانت تعيش على هذا الأجر قبل الأزمة، فما حالها اليوم؟ كيف تتدبّر أمرها؟ 

حاولنا الإجابة على هذا السؤال من خلال استبيان نشرنا بعض نتائجه السبت في 27 آذار شمل عيّنة من 67 أسرة لبنانية من الشمال والجنوب وبيروت، يتراوح مدخولها بين 600 ألف و6 ملايين ليرة، وتتألّف من أربعة أشخاص كمعدّل وسطي وتتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانية ويعمل فيها شخص أو اثنان.

وقد تضمّن الاستبيان عشرة أسئلة عامّة وزّعت بشكل عشوائي عبر الإنترنت وتمّت تعبئتها أونلاين، وركّزت على مدخول الأسر وعدد أفرادها ومصاريفها وكيفية توزّعها وما إذا كانت تفوق مدخول الأسرة، وما إذا كانت الأسرة تستطيع أن تدّخر أية أموال، وما إذا كانت تجد أيّة سلع مدعومة، ولم ندخل في التفاصيل الأخرى مثل التعليم والتربية والترفيه وإلى ما هنالك من حاجات حياتية. 

بعض الأسئلة كانت الإجابات عليها هي نعم أم لا أو كانت إجابات محددة تختار منها الأسرة وأخرى كانت الإجابة عليها تحتاج إلى كتابة تفاصيل معيّنة.    

وبعد الاطّلاع على جميع الإجابات تمكنّا من معرفة المبالغ التي تنفقها الأسر على حاجاتها الأساسية، كيف توزّعت، وما الذي تعجز الأسر ذات الدخل المنخفض، عن سداده وما هي أولوياتها. 

“خليها ع الله”

من بين الأسر المشاركة في الاستبيان، أسرة مؤلّفة من أربعة أفراد، براتب شهري يبلغ 600 ألف ليرة لبنانية أيّ أقل بقليل من الحد الأدنى للأجور. بحسب إجاباتها تبيّن أنّها تنفق نصف الراتب (300 ألف) على المواد الغذائية والطعام، وهو مبلغ قليل جداً في ظل الغلاء الكبير في الأسعار. وتدفع الأسرة 150 ألف ليرة بدل فواتير وخدمات، بينما الطبابة والاستشفاء والأمور الأخرى فـ”ع الله”، حسب عدد من الإجابات.   

ومن بين الأسر أيضاً أسرة مؤلّفة من أربعة أفراد يبلغ راتب معيلها مليون و250 ألف ليرة، تنفق معظم الراتب على المواد الغذائية والطعام، حتى أنّه في أكثر الأحيان ينفذ الراتب قبل شراء حاجاتها من السلع الغذائية الأساسية، والأسوأ أنّ هذه الأسرة عليها بدل فواتير وخدمات بقيمة 800 ألف شهرياً وتحتاج من أجل للحصول على الطبابة إلى حوالي 500 ألف، وتنفق على التزامات أخرى نحو 900 ألف ليرة شهرياً، ما يعني أنّ هذه الأسرة تكون مديونة بمليونين و200 ألف ليرة شهرياً على الأقل، وهي قيمة قابلة للارتفاع في حال حدوث أي طارئ. 

هاتان الأسرتان، تحاكيان حال أسر كثيرة، تعاني من فقدان رواتبهم قدرتها الشرائية، حيث باتت حياتها أشبه بسعي لتأمين القوت اليومي فقط من دون التفكير في التعليم ولا الطبابة ولا الحصول على مسكن آمن، ولا شراء ثياب. وفي المقابل، تعتمد الدولة الآن سياسة تعويد الناس شيئاً فشيئاً على رفع الدعم قبل رفعه كلّياً، في ظل غياب أيّ خطط مالية اقتصادية اجتماعية تجنّب الناس شرّ الفقر والعوز.  

رواتب بلا قيمة شرائية

يظهر الاستبيان أنّ معظم الأسر اللبنانية تفوق مصاريفها مدخولها الشهري، إذ أجاب ما نسبته 66.67% بـ نعم و5.13% كلا فيما أجاب 28.21% أحياناً. 

وأظهرت النتائج أنّ معظم الأسر تنفق مدخولها على شراء المواد الغذائية والطعام، وقد توزّعت النسب كالتالي، 77.5% ينفقون معظم مدخولهم على الغذاء و17.5% ينفقون الجزء الأكبر من مدخولهم كبدل فواتير وخدمات، 2.5% تنفق الجزء الأكبر من مدخولها على الطبابة ما يشي بوجود حالات مرض في الأسرة، و2.5% ينفقون الجزء الأكبر من المدخول على التزامات أخرى، ربما تكون قروض أو ما شابه. 

فمثلاً، الأسرة (ج) مؤلفة من 5 أفراد يعمل أربعة منهم، ومجموع ما يتقاضونه 4 ملايين ليرة فقط، ينفقون مليون ونصف على المواد الغذائية ومليون ومئة ألف بدل فواتير وخدمات وحوالي مليون ليرة على الطبابة والإستشفاء وعليها إلتزامات تقدر بحوالي 4 ملايين ليرة، وبالتالي تقع العائلة في عجز شهري يقدر بحوالي 3 ملايين و600 ألف ليرة.  

في حين تعجز الأسرة (د) المؤلفة من 7 أفراد ويعمل ثلاثة أفراد منها يتقاضون 4 ملايين ليرة، عن دفع جميع إلتزاماتهم، وهم حتماً يقصرون في مكان ما، إذ يدفعون الجزء الأكبر من المدخول (3 ملايين ليرة) على المواد الغذائية والطعام، ومليون ليرة بدل فواتير وخدمات و500 ألف طبابة وإستشفاء ولديهم إلتزامات أخرى تقدر بـ2 مليون و500 ألف شهرياً، وبالتالي يقعون في عجز شهري بحوالي ثلاثة ملايين ليرة. 

العوز يطرق أبواب الأسر الفقيرة

الأكثر إيلاماً في ما أظهرته نتائج الاستبيان، هو أنّ الأسر التي يقلّ مدخولها عن مليون ليرة، بالكاد تتمكّن من تأمين الغذاء، نظراً لارتفاع أسعار السلع الغذائية الجنوني، والقابل للارتفاع أكثر فأكثر مع تبدّل سعر صرف الدولار. وهذه الأسر تعجز عن تغطية فواتيرها وبدل الخدمات مثل الكهرباء والمياه والموتور، والأسوأ أنّ غالبيّتها باتت الطبابة بالنسبة لها رفاهية ما يعني أنّ أفراد هذه الأسر معرّضون لخطر المرض وحتى الموت في حال ساء وضعهم الصحي من دون أن يتمكّنوا من الحصول على الطبابة. 

ولا يعتبر واقع الأسر التي تتقاضى بين مليون و3 ملايين ليرة أفضل بكثير، فهي أيضاً غالباً ما تفوق مصاريفها مدخولها، وتتمكن من تأمين الغذاء وتسديد الفواتير من دون قدرة على تغطية الطبابة. أما الأعلى دخلاً منها فتتمكّن من تأمين الطبابة والعلاج. أما الأسر التي تتقاضى أكثر من ثلاثة ملايين، فقد أظهر الاستبيان أنه عادة ما يزيد عدد الأفراد العاملين فيها وحتى أفرادها، ويرتفع إنفاقها على الغذاء وترتفع قيمة فواتيرها، وهي تتلقى الطبابة، وعادة ما يكون لديها التزامات أخرى. 

السلع المدعومة “لا وجود لها”

وفي سؤال عن مدى توفّر السلع المدعومة، أجاب 67.5% بأنّهم لا يجدونها في المحال التجارية التي يقصدونها بينما أجاب 7.5% بأنّهم يجدونها، في حين قال 25% إنّهم أحياناً يتوافر بعض السلع التي يتمكّنون من شرائها. 

يذكر أنّ السلع المدعومة هي السلع الأساسية من دواء ومحروقات ودقيق وبعض السلع الغذائية والمستلزمات الطبية. ولكن ثمّة شكاوى كثيرة من أنّ السلع الغذائية المدعومة لا تتوفّر في المحال والمراكز التجارية أغلب الأحيان. وقد شهدنا على تزايد الشجارات داخل المراكز التجارية على المواد الغذائية المدعومة، في الآونة الماضية، وتقارير إعلامية عن إخفاء التجّار كميات كبيرة من السلع في ظل عجز الدولة عن تنفيذ الرقابة.

قراءة في النتائج

جمعية المستهلك: اللبنانيون معرّضون لمشاكل صحية

بحسب نائبة رئيس جمعية المستهلك ندى نعمة فإنّ نتائج الاستبيان دليل على خطورة الواقع المعيشي الّذي يعيشه جزء كبير من اللبنانيين لاسيّما ممن يتقاضون الحد الأدنى للأجور ويعمل في الأسرة شخص أو اثنان. والأخطر في العجز المالي للأسر هو عجزهم عن الحصول على العلاج في حال إصابتهم بأي مرض وهو أمر مرجّح الحصول في ظلّ انتشار جائحة كورونا وعدم تناولهم غذاء صحياً ومتكاملاً، لاسيّما أنّ جزءاً كبيراً من اللبنانيين استغنى مؤخراً عن اللحم والدجاج بسبب ارتفاع أسعارها. 

وتقول نعمة لـ”المفكرة” إنّ “كانت بعض العائلات لا تزال تتمكّن من تدبير أمورها، فبسبب الدعم المادي الذي تحصل عليه من أقرباء في الخارج، ولو بمبالغ بسيطة، تساعدها على سد بعض العجز في فواتيرها وربما في تأمين أبسط المستلزمات الحياتية”.

مارديني: اللبنانيون متضرّرون من غلاء الأسعار

يرى الخبير الاقتصادي باتريك مارديني في حديث لـ”المفكرة”: أنّ هذا الاستبيان أكّد على ما يقوله خبراء الاقتصاد دائماً، إن سياسة  الدعم وتكلفتها 6 مليارات دولار سنوياً، مكلفة وغير فعالة وليست نافعة ولا تصل إلى من هم بحاجة والدليل أن الناس لا تجد أي سلع رخيصة ولا تتمكن من سداد فواتيرها وبالتالي يجب الرجوع عن هذه السياسة والبحث عن سياسات بديلة مثل إعطاء الأموال مباشرة إلى الناس. 

ويضيف أن دراسة أجراها البنك الدولي بالتعاون مع وزارة الإقتصاد في لبنان أظهرت أنّ مليار دولار قادر على تأمين الحاجات الأساسية لكل الشعب اللبناني. 

وتابع قراءته لنتائج الاستبيان بأنّها تدلّ على أنّ اللبنانيين متضرّرون من غلاء الأسعار “بات واضحاً أنّ الهم الأساسي لدى غالبية اللبنانيين هو غلاء الأسعار، على عكس ما يتم الترويج له بالقول إنّ أولوية اللبنانيين في حلّ مشكلة المصارف وتوزيع الخسائر العادل أو عبر طباعة الليرة لإعطاء الناس أموالها”. 

والطريقة الوحيدة لوقف الغلاء الحاصل برأيه هي عبر وقف طباعة الليرة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال تعديل قانون النقد والتسليف بشكل يضع قواعد صارمة على مسألة طباعة الليرة، برأي مارديني الّذي يعتبر أنّه لا يفترض طباعة الليرة إلّا في حال تغطيتها 100% باحتياطات أجنبية.

من هنا يجد مارديني أنّ معالجة مشكلة الغلاء، تبدأ بوضع ضوابط على طباعة الليرة لوقف التضخم الذي يأكل مدخول الشعب اللبناني ويزيد مع الوقت، ووضع قواعد صارمة على مسألة مد اليد على أموال المودعين، بمعنى أنّه لا يحق للمصرف المركزي التصرّف بأموال المودعين وإقراضها للدولة، لافتاً إلى ضرورة حسم الجدل حول أين المشكلة والتركيز على أين الغلاء والبدء بالمعالجة. 

ذاهبون الى الأسوأ

تقول نعمة بدورها: “نحن كجمعية نرى أنّ الوضع سيصبح أكثر سوءاً في المرحلة المقبلة، في حال استمر المسؤولين على النهج نفسه في التعاطي مع الوضع المعيشي المأزوم، حينها سيصبح كامل اللبنانيين وليس فقط من يتقاضى رواتب منخفضة منهم غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وبدل فواتير وسكن وطبابة، علماً أنّ الأمور راهناً تبشّر بأن الأمن الغذائي بات على حافة الإنهيار وهذا ما حذرت منه منظمة الفاو”.  

فقد أشارت منظمة الفاو وبرنامج الأغذية العالمية الأسبوع الماضي، إلى أن لبنان الى جانب اليمن وسوريا والصومال هو من الدول المهددة بانعدام الأمن الغذائي لجزء من سكانها، محذرة من أن تؤدي الأزمة الاقتصاديّة في لبنان إلى ارتفاع مستوى الاضطرابات وأعمال العنف.

وكان وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني أشار في حديث الى وكالة بلومبرغ منتصف الشهر المنصرم، إلى أن لبنان يقوم بتقليص الدعم  على المواد الغذائية والبنزين للمحافظة على ما تبقى من الاحتياطيات بالعملات الأجنبية المتضائلة التي بلغت 16 مليار دولار أميركي لا يمكن استخدام سوى مليار ونصف منها ما يكفي لأشهر قليلة فقط. 

وبالفعل أصدرت وزارة الإقتصاد في 24 آذار الماضي، قراراً جديداً خففت فيه لائحة السلع والمنتجات المدعومة، التي ترى فيها نعمة أنها تتلاءم مع مصلحة التجار ليس أكثر، بدليل أنه يتم دعم لحم الخنزير والمبرد والزبدة والسمك والتعديل هو على قياس التجار، وإلا ماذا يفسر دعم حليب مسحوب الدسم مثلاً؟

والأسوأ أن التوقف عن ضخ الدولارات يعني لجوء التجار الى السوق السوداء لتأمين الدولارات عندها سيرتفع الطلب وتنهار العملة أكثر وترتفع أسعار السلع أكثر فأكثر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حقوق العمال والنقابات ، سياسات عامة ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، البرلمان ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، سلطات إدارية ، جائحة كورونا ، مؤسسات عامة ، قطاع خاص ، تشريعات وقوانين ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني