الرعاية النفسية للمواطنين في تونس: 11 ولاية من دون أي سرير و0,27 طبيب لكل 10 آلاف نسمة


2022-03-30    |   

الرعاية النفسية للمواطنين في تونس: 11 ولاية من دون أي سرير و0,27 طبيب لكل 10 آلاف نسمة

لم تقتصر انعكاسات أزمة الكوفيد على صحة الأفراد فقط، بل كانت تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية أوسع وأشمل. وإن كانت التأثيرات الاقتصادية للجائحة قد حظيت بالتداول لدى الرأي العام، فقد ظلّت الانعكاسات النفسية خصوصا بمنأى عن أي النقاش. وهو ما يتطابق مع طريقة التعامل مع هذه المسألة حتى قبل الأزمة الصحية الطارئة. فلم تكن الصحة النفسية للتونسيين محلّ اهتمام المسؤولين والسياسيين بالبلاد، وهو ما يتجلّى بشكل واضح في غياب سياسات عمومية ذات صلة بهذه المسألة. الدولة لم تكتفِ فقط بتجاهلها رغم أهميتها بل اعتمدت سياسات من شأنها أن تعمّق الأزمة.

معاناة شعب محبط

نشرت مؤسسة فريدريش إيبرت دراسة تحلّل واقع وتصوّرات الشباب المنتمين لثمانية بلدان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد أن أجرت خلال سنتي 2016 و2017، مسحًا تمثيليًا للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عامًا من مصر والبحرين واليمن والأردن ولبنان والمغرب وفلسطين وسوريا وتونس. جاءت الأرقام المتعلقة بالشباب التونسي مختلفة عن البلدان الأخرى ولكنّها تعكس تماما حالة الإحباط السائدة لديهم. فعلى سبيل المثال، أفادت الدراسة بأن 48% من الشباب في تونس يرغبون في الهجرة بينما عبّر 11% عن تردّدهم وهي تعدّ النسب الأعلى التي تمّ تسجيلها بين البلدان التي تمت دراستها. بذلك يُعتبر الشباب التونسي أكثر رغبة في الهجرة بالمقارنة مع الشباب اليمني الذي يعاني ويلات الحرب (21% فقط)، والشباب الفلسطيني الذي يقاوم احتلالا (17%)، والشباب المصري الذي يعاني استبدادا (22%) إضافة إلى الشباب اللبناني بنسبة 26%[1]. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المسح الذي خلُص إلى أن ما يقارب نصف الشباب التونسي يرغب في مغادرة الوطن كان قد تمّ إنجازه قبل الأزمة الصحية المتعلقة بالكوفيد وما كان لها من تبعات على واقع التونسيين، وقبل تأزم الأوضاع السياسية التي أفضت إلى قرارات 25 جويلية. ومن المرجّح أن تكون هذه النسب شهدت ارتفاعا منذ ذلك الحين.

لم تكن هذه الدراسة الوحيدة التي كشفت عن حالة الإحباط واليأس في صفوف المواطنين التونسيين. فقد تواترت الدراسات والتقارير المفضية لنفس الخلاصات والتي تبرز من جهة مدى ارتباط السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة فيما بينها (إن افترضنا وجودها أصلا) وانعكاسها على حياة المواطنين وخصوصا على صحّتهم النفسية. كما تفضح من جهة أخرى حجم تجاهل الدولة لمشاكل مواطنيها واستقالتها من مسؤولياتها المتعلقة أساسا بتوفير الرعاية النفسية لهم. ولعلّ أهمّ الأرقام والدراسات المنشورة، كانت من قبل وزارة الصحة التي أحصت 372 حالة انتحار خلال سنة 2016 بمعدّل أعمار يبلغ 37.2 سنة وبمعدّل 6 حالات انتحار لكل 100.000 ألف ساكن بالنسبة للفئة العمرية 25 – 29 سنة وهي بذلك تقدّر بضعف المعدّل العام لحالات الانتحار في مجمل الشرائح العمرية. طبعا لا يمكن التسليم بدقة هذه الأرقام. فقد أشارت الوزارة في تقريرها بأن هذه البيانات لا تعكس حقيقة الوضع في تونس بشكل دقيق. فقد تعلّقت بها عدة نقائص في علاقة بالتصريح المنقوص حسب الجهات بسبب غياب خدمات الطب الشرعي بها، وغياب نظام المعلومات الخاص بتوثيق أسباب الوفاة وعدم اعتماد معلومات دقيقة عند ملء شهادات الوفاة ووجود عدّة حالات لا يمكن تأكيد الانتحار فيها من عدمه. كلّ هذه الأسباب تفضي وجوبا بأن عدد حالات الانتحار أكثر ارتفاعا ممّا تمّ توثيقه أوّلا وبأن الدولة لا تكترث أصلا بمتابعة أسباب وفاة مواطنيها وهو ما سيتجلّى لاحقا خلال أزمة الكوفيد.

أما بالنسبة للحالة النفسيّة للمواطنين، فيمكن قراءتها من خلال الأرقام المنشورة من قبل وزارة الصحة التي قامت بإحصائها خلال المسح الشامل لسنة 2016 والذي يقدم أهم المؤشرات في علاقة بصحة التونسيين. فبينت هذه الأرقام بأن المعدّل العام لحالات الاكتئاب المعروفة قد قدّر ب4،7% من مجموع المواطنين بنسب مرتفعة أكثر لدى النساء (ما يزيد عن 5%) مقارنة بالرجال وذلك حسب كلّ الفئات العمرية المدروسة. أما بالنسبة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 سنة، فكانت معدلات الاكتئاب لديهم قريبة جدّا للمعدّل العام المسجّل لدى مجمل الشرائح العمرية (4.4%) حسب تقرير لليونيسف. كما ترتفع هذه النسب إلى 16.6% بالنسبة للأطفال الذين يعانون من اضطرابات القلق.

وهنا أيضا، وجب قراءة هذه الأرقام بدقة لما لها من شروط ومحدودية، حيث لا تعكس بشكل قاطع حجم ضحايا الاضطرابات النفسية التي من الأرجح أن تكون أعلى من الاحصائيات المنشورة. فما يفاد به بعبارة حالات “الاكتئاب المعروفة” (Dépression connue) هي تلك الحالات التي تقتضي بأن الشخص المستجوب كان واعيا بحالته النفسية المضطربة وقرّر معاينة طبيب نفسي، وكان يقطن في مكان تتوفّر فيه المؤسسات المختصة (الغير متواجدة طبعا بصفة متساوية بين مختلف الجهات) أو له الإمكانيات المادية للتكفّل بعلاجه، فقام بزيارة الطبيب المختصّ الذي أكّد بدوره الحالة المرضية. بالإضافة إلى أن هذا الشخص قد تجاوز أيضا الوصم الاجتماعي السائد والمتعلق بالأمراض النفسية ليجيب على أسئلة هذا المسح مُفصحا عن مرضه. بالإضافة إلى عدم تجسيدها لواقع الصحة النفسية للمواطنين، لا تقدّم هذه المؤشرات إفادة عن عدد المواطنين الذين يرفضون الاعتراف بمرضهم، أو عن الذين يرفضون متابعة العلاج أو الذين لا يملكون الوعي أو الثقافة الكافية للاهتمام بصحتهم النفسية. كما أن هذه الاحصائيات لا تقدّم أي معلومة عن عدد المرضى الذين أنهوا العلاج أو مرّوا بفترات مرض سابقة لكي نتوصّل لفهم وتقييم الخدمات الصحية المقدمة من قبل الدولة في هذا الشأن. كلّ هذه المؤشرات وإن كانت محدودة الدقّة وغير محيّنة، إلاّ أنّها تعكس مدى اهمال الدولة ومؤسساتها للصحة النفسية للمواطنين وتقاعسها عن الاضطلاع بدورها.

دولة مستقيلة من مسؤولياتها.. كالعادة

تتجلّى مواطن ضعف الدولة في توفير الرعاية والصحة النفسية للمواطنين على عدة مستويات وخصوصا بالنسبة للفئات الأكثر هشاشة التي وجب على الدولة تركيز الاهتمام بهم كالنساء والأطفال. فعلى مستوى عام، يمكن القول بأن الدولة لم توفّر المناخ الملائم ولم تتّبع، إن صحّ التعبير، سياسات وقائية مناسبة. إذ لم توفّر على سبيل المثال فضاءات للترفيه بصفة متساوية بين الجهات، خصوصا فيما يتعلّق بالأطفال. كما عوّلت على فضاءات خاصة تفتح أبوابها لمن يتمتّع بإمكانيات مالية معيّنة، وهو ما يؤدّي إلى حرمان أطفال الطبقات الاجتماعية المفقّرة من حقّهم في الترفيه. لا يقف الأمر على مستوى مشاريع الترفيه فقط، فالتمعّن بالتهيئة العمرانية المتبعة بالعديد من الجهات يُفضي لغياب أي فضاءات عامة خضراء أو حدائق يمكن للمتساكنين ارتيادها والتمتع بها.

من جهة أخرى، لم تضع الدولة التونسية أي سياسات للتعريف بالأمراض النفسية والتوعية حول أهمية علاجها ومخاطرها على صحة المواطنين. وهو ما من شأنه طبعا أن يعمّق من الوصم الاجتماعي السائد ويرفع عدد المرضى ويفاقم خطورة الاضطرابات النفسية.

على مستوى آخر، لم تتبع الدولة أي سياسات لتحسين الخدمات الصحية النفسية المقدمة. فلم توفّر لا المستشفيات ولا الأطباء الضروريين لمعالجة المرضى ولم توفّر التغطية الصحية لبعض الأمراض النفسية الشائعة ولم تحصّن المرضى خصوصا في علاقة بحقوقهم الشغليّة. 

في تقرير لها حول الخارطة الصحية بتونس لسنة 2019، نشرت وزارة الصحة عدة مؤشرات هامة تلخّص الأزمة الهيكلية للصحة النفسية في تونس. فقد أشارت إلى توفير 983 سرير فقط بأقسام الطب النفسي في المستشفيات على مستوى وطني لخدمة ما يفوق 11 مليون مواطن، وهو ما يعادل 0،8 سرير لكل 10.000 ساكن. يتعلّق هذا المؤشر بالمعدلات على المستوى الوطني ويحمل في طياته عدة تفاصيل هامة على المستوى الجهوي. فببساطة لم توفّر الدولة أي سرير للطب النفسي بكل من ولاية تطاوين وقبلي وتوزر وقفصة وسيدي بوزيد وسليانة وباجة وبنزرت وزغوان وتونس وأريانة. أي أنها لم توفّر أي سرير لما يفوق 4 مليون مواطن.

تتفاقم الأزمة بالنسبة للأطباء، فلم توفّر الدولة سوى 0،27 طبيب نفسي لكل 10 ألاف ساكن في المستشفيات العمومية. ومن البديهي أن يخضع توزيع هذه الموارد البشرية الضعيفة لمدى توفّر المستشفيات العمومية والأقسام المخصصة للطب النفسي التي تتفاوت بين الجهات وتُحرم منها فئات عدة غير قادرة على التكفّل بمصاريف العلاج بالعيادات الخاصة فيتطابق التهميش على عدة مستويات.

الدولة تساهم في صناعة مرضاها ولا تعالجهم

يمكننا أن نخلُص إذا إلى أن الدولة تبقى متقاعسة عن توفير أطباء أو أسرة. كما أنها لم تساوِ في توفير هذه الخدمة الضعيفة بصفة عادلة بين مواطنيها. فاستنسخت سياسة التهميش الاقتصادية التي طالما مارستها في حقّ الجهات المحرومة وطبّقتها في مجال السياسات الصحية. عند معاينة التوزع الجغرافي للخدمات الصحية النفسية، يمكننا ملاحظة تطابقها مع خارطتيْ الفقر وتوزيع الخدمات الأخرى. والأهمّ من ذلك، هو تطابق هذا التوزع مع معدلات الاضطراب النفسي. فعلى سبيل المثال، قدّم تقرير يونيسيف الذي سبق ذكره، أنّ نسب حالات الاكتئاب لدى الأطفال تختلف حسب التوزع الجغرافي، فتصل هذه النسب إلى 5،5% بالنسبة للأطفال القاطنين في الريف في حين تبلغ هذه النسبة 3،9% لدى أطفال المدن. كما تختلف حسب الوضعية الاقتصادية والاجتماعية التي يعيش بها الطفل. فترتفع مثلا لدى الأطفال المنقطعين عن الدراسة (5،3%) مقارنة مع الأطفال الذين يزاولون دراستهم (4،3%)، أو لدى الأطفال الذين تعاني أمهاتهم من صعوبات وظيفية واللاتي بدورهنّ يكنّ أكثر عرضة للعنف والاعتداء. الأمر لا يختلف بالنسبة لحالات الانتحار لدى الأطفال، فأكثر الولايات التي شهدت هذه الحوادث سنة 2016 كانتا قفصة وسيدي بوزيد وهما من الولايات الأكثر فقرا في تونس. في دراسة أخرى لظاهرة انتحار الأطفال، قام عدة أطباء نفسيين بنشر نتائج متابعة محاولات الانتحار لأطفال وقعت معالجتهم إثر ذلك في ثلاثة مستشفيات سنة 2013 وخلصوا إلى أنّ 66% من هذه الحالات تعلقت بأطفال ينتمون إلى عائلات يعاني أحد أفرادها من اضطرابات نفسية وأن نصفهم تقريبا تعرضوا لسوء المعاملة وهي من العوامل التي تقع مسؤولية مكافحتها على الدولة. خلُصت دراسة أخرى لأطباء مختصين[2] كانوا قد تابعوا ملفات المنتحرين الذين تلقوا العلاج (ولو لمرة واحدة) بمستشفى الرازي (مستشفى الأمراض النفسية الوحيد بتونس) والتي امتدت على 12 سنة، إلى أنّ 84% من المنتحرين كانوا يعانون من ضعف الرعاية الأسرية والاجتماعية.

باختصار يمكننا القول بأن الدولة لا توفّر سياسات اجتماعية واقتصادية عادلة بين مواطنيها وهي بدورها من العوامل التي تؤثر على سلامة صحتهم النفسية. ليزداد إهمالها وتقصيرها فيما بعد، فلا توفّر لهم خدمات صحية عادلة وذا جودة مما يؤدّي إلى تدهور صحتهم وصحة ذويهم وهو ما ينعكس على حياتهم ومستقبلهم. فتزجّ بهم في حلقة مفرغة من الإهمال والتمييز والإحباط بسبب السياسات العمومية الفاشلة.

وسط هذه الصورة القاتمة، يمكننا أن نجد بعض التجارب المضيئة من بطولات فردية في المؤسسات العمومية أو جماعية تقودها منظمات وجمعيّات تسعى إلى مساعدة بعض المؤسسات الاجتماعية قصد توفير الرعاية للفئات المهمّشة والأكثر عرضة للأمراض النفسية، خاصة منها الأطفال قصد حمايتهم من خطر الانزلاق بهذه الحلقة المفرغة إلى حين استفاقة الدولة واضطلاعها بدورها الأساسي. لكن يبقى التساؤل قائما حول مدى محدودية واستمرارية هذه التجارب في ظل سياق عام خانق وفي ظلّ ظروف سياسية يتجّه المسؤولون فيها للتضييق على المجتمع المدني، الملاذ المتبقّي للضحايا والذي يواصل منفردا في محاولات الإنقاذ.


[1] يرجح أن تكون ازدادت هذه النسبة بعد الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بلبنان، حيث أجري البحث في سنتي 2016 و2017.
[2] Ghachem, Boussetta, Benasr2, Oumaya:  Suicide et pathologie mentale à Tunis : étude rétrospective sur 12 ans à l’hôpital Razi, 2009.
انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، سلطات إدارية ، منظمات دولية ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني