الحكومة والعدالة الانتقالية: إنفاذ القانون، حلّ لمشاكل قديمة وطرق لإشكاليّات جديدة


2021-03-05    |   

الحكومة والعدالة الانتقالية: إنفاذ القانون، حلّ لمشاكل قديمة وطرق لإشكاليّات جديدة

في 2020، منح مجلس نوّاب الشعب التونسي ثقته لحكومتين. اختار رئيس الحكومة الأولى إلياس الفخفاخ لها اسم “حكومة الوضوح واستعادة الثقة”، وكانت سياسية يساندها حزام برلماني قيل حينها إنّه يمثّل الخط الثوري. وقد انتهت مدّة عمل هذه الحكومة بعد خمسة أشهر فقط من بدايتها بسبب خلافات بين الأحزاب المكوِّنة لها وشُبهة تضارب المصالح التي لاحقت رئيسها وأجبرته على الاستقالة. أمّا الحكومة الثانية فكانت في توصيفها حكومة تكنوقراط ولم يكن لديها برنامج عمل مسبَق الإعداد ولا التزام سياسي غير التنسيق مع حزامها النيابي. ورغم تمايز الحكومتين في خطَّيْهما وتوجُّهَيْهِما ساد الحديث عن تطابق في تعاطيهما مع استحقاقات ملفّ العدالة الانتقالية وتمسّكهما بإنفاذها، وهو تعاطٍ يقطع مع لامبالاة الحكومات السابقة. وعليه، يُذكر لحكومة الفخفاخ أنّها نشرت التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة في الجريدة الرسمية، فيما يُذكر للحكومة الثانية أنّها تولّت فتح صندوق الكرامة وإيجاد مخرج يسمح لاحقاً بنشر قوائم شهداء الثورة وجرحاها.

نشر تقرير هيئة الحقيقة والكرامة النهائي

يوجب الفصل 67 من قانون العدالة الانتقالية على هيئة الحقيقة صياغة تقرير يتضمّن أهمّ أعمالها[1] من تاريخ إنشائها حتّى انتهاء مهامّها وأن تقدمّه إلى رئيس الجمهوريّة ورئيس المجلس المكلَّف بالتشريع ورئيس الحكومة، ويُلزم الأخيرَ بنشره في الجريدة الرسمية. وفي هذا الإطار سلّمت رئيسة الهيئة سهام بن سدرين تقرير هيئتها النهائي إلى رئيس الجمهوريّة في تاريخ 30 ديسمبر 2018، وبعد ثلاثة أشهر، سلّمته إلى بقيّة الرئاسات ونشرته على موقعها الرسمي، غير أنّه لم يوجَّه للنشر. عرفت سنة 2020 في بدايتها حراكاً حقوقياً هامّاً قاده ائتلاف كبير بين جمعيّات المجتمع المدني، كان مطلبه الأساسي نشر التقرير الذي عُدّ عنوان التزام السلطة بإنفاذ قانون العدالة الانتقالية ومدخلاً إلى تنفيذ توصيات الهيئة، أدّى بالحكومة إلى نشر التقرير في 24 جوان 2020.

فتح حساب صندوق الكرامة وردّ الاعتبار

ينصّ الفصل 41 من قانون العدالة الانتقالية على إحداث صندوق الكرامة وردّ الاعتبار الذي سيتولّى مسؤوليّة تنفيذ برنامج التعويض الفردي الشامل والجماعي لضحايا الاستبداد. وتولّى المشرّع بموجب الفصل 93 من قانون الماليّة لسنة 2014[2] استحداث حساب خاصّ في موازنة الدولة لهذا الصندوق[3].

أصدرت رئاسة الحكومة التونسية، لاحقاً، الأمر الحكومي[4] المحدِّث له والمحدِّد لمصادر تمويله[5]. في المقابل، وبسبب ما أُثير من جدل مجتمعي حول الحقّ في التعويض لضحايا الحقبة الاستبدادية والحديث عن عدم قدرة الموازنة العامّة على تحمّل هذا العبء، تعطّل فتح الحساب الجاري للصندوق وتركيز الإدارة المشرفة على عمله ما فرض حراكاً قادته الجمعيّات المدافِعة عن حقوق الضحايا انتهى بفرض فتح الحساب في الأسبوع الأخير من سنة 2020.

نشر قوائم شهداء الثورة وجرحاها

يعرّف الفصل السادس من المرسوم عدد 97 لسنة 2011[6] “شهداء الثورة ومصابيها” بأنّهم “الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم من أجل تحقيق الثورة ونجاحها واستشهدوا أو أُصيبوا بسقوط بدني من جرّاء ذلك ابتداء من 17 ديسمبر 2010 إلى 19 فيفري 2011”. وأسند مسؤولية إعداد القائمة النهائية التي تحصيهم إلى لجنة لدى الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحرّياّت الأساسية[7] تسمّى “لجنة شهداء الثورة”[8]. وقد بدأت هذه اللجنة، فعليّاً، عملها في 23 جويلية 2013.

في نهاية سنة 2015، وجّه رئيس تلك اللجنة توفيق بودربالة إلى الحكومة ما ذكر أنّه قائمة “شهداء الثورة” طالباً منها نشرها في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية. إلّا أنّ الحكومة رفضت ذلك وتمسّكت بضرورة أن تشمل القائمة “مصابي الثورة” وطلبت من اللجنة ضمان أن تكون القائمة التي تصدر عنها نهائية ولا خلاف عليها. عاودت، إثر ذلك، اللجنة العمل لتعلن في 02 أفريل 2018 اختتام عملها وترفع تقريرها النهائي إلى الرؤساء الثلاثة، أي رؤساء الجمهوريّة والحكومة ومجلس نوّاب الشعب. كما وجّهت قائمة أسماء شهداء الثورة ومصابيها التي أعدّتها إلى رئاسة الحكومة طلباً لنشرها في الجريدة الرسمية. وهنا رفضت الحكومة النشر مرّة أخرى، وبرّرت موقفها بكون “اللجنة” لم تُطلع المعنيين، أي أهل الشهداء ومَن قدّموا ملفّاتهم بصفتهم جرحى ثورة، والرأي العامّ على نتائج عملها في أيّ مرحلة منه ولم تحترم بالتالي حقّ هؤلاء في الاعتراض على القائمة التي تطلب نشرها. وعليه برّرت الحكومة رفضها نشر القائمة بأنّها غير نهائية وقابلة للاعتراض والمراجعة وأنّه لا يمكن الاستناد إليها لترتيب الحقوق أو كتابة التاريخ الوطني[9]. وكان موقف الحكومة في هذا الخصوص مبرَّراً موضوعياً، خصوصاً في ظلّ تأكُّد وجود منازعات جدّية حول الأسماء التي أُسقطت منها. وقد اعتمدت الحكومة الحالية في نهاية 2020 الاجتهاد التالي مَخرجاً لإنهاء هذه الأزمة: تُنشر القائمة، بصورة أوّلية، على صفحات التواصل الاجتماعي يعقب ذلك تلقّي اعتراضات عليها ثمّ تُنشر في الجريدة الرسمية قبل 20 مارس 2021.

إشكاليّات ما بعد إنفاذ القانون: الصمت الرسمي عن الأسئلة المحرجة

بمجرّد نشر التقرير الختامي لهيئة الحقيقة، تبيّن أنّه أضفى صبغة رسمية على جميع حجج المجموعة الاستثماريّة ABCI في نزاعها مع الدولة التونسية الذي تتعهّد به لجنة التحكيم التابعة للبنك الدولي. في حين لم يكن هذا الموقف مُدرجاً في النسخة الأصلية التي توصّلت إليها رئاسة الجمهوريّة، كما أنّ جانباً من أعضاء هيئة الحقيقة ينكرون اطّلاعهم عليه أو مصادقتهم على مضمونه، فقد بات التقرير كوثيقة محلَّ سؤالٍ في ما يتعلّق بما تضمّنه من معطيات ومنهجيّة تحريره.

في السياق ذاته، يطرح فتح حساب الكرامة السؤال حول كيفيّة توفير موارده المالية. وتبدو هنا الحكومة عاجزة عن تقديم جواب عن هذا السؤال خصوصاً أنّها لا زالت تتمسّك برفض تنفيذ مقرّرات التحكيم والمصالَحة التي صدرت عن الهيئة ولا تملك موارد ذاتية يمكن أن ترصدها لتوفير تعويضات الضحايا.

خلاصة

يتبيّن ممّا سلف أنّ أداء الحكومة في 2020 تميّز بما عُدّ توجّهاً نحو إنفاذ قانون العدالة الانتقالية. وهو اختيار يساهم اليوم في تطوير النقاش العامّ حول العدالة الانتقالية بعيداً عن فكرة الصراع بين أنصارها ومعارضيها.

 

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

  1. ينصّ الفصل 67 من القانون الأساسي للعدالة الانتقالية على تضمّن التقرير : الحقائق التي توصّلت إليها بعد التثبّت والتحقيق،
    تحديد المسؤوليّات،ـ الأسباب التي أدّت إلى الانتهاكات المشمولة بهذا القانون والتوصيات الكفيلة بعدم تكرارها في المستقبل، التدابير الواجب اتّخاذها للتشجيع على المصالحة الوطنية وحماية حقوق الأفراد وعلى الأخصّ حقوق النساء والأطفال والفئات ذات الاحتياجات الخاصّة والفئات الهشّة، التوصيات والمقترحات والإجراءات التي تعزّز البناء الديمقراطي وتساهم في بناء دولة القانون، التوصيات والاقتراحات المتعلّقة بالإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية والقضائية والإعلامية والتربوية والثقافية وغيرها التي تراها لتجنّب العودة إلى القمع والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان وسوء التصرّف في المال العام.
  2. ينص الفصل 93 من القانون عدد 54 لسنة 2013 مؤرخ في 30 ديسمبر 2013 يتعلق بقانون المالية لسنة 2014 على أنّه “أحدث حساب خاص يطلق عليه اسم “صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد ” يتولّى المساهمة في التعويض لضحايا الاستبداد في إطار العدالة الانتقالية. وتضبط طرق تنظيم الصندوق وتسييره وتمويله بأمر”.
  3. قسمت هذه الخطوة في حينها الساحة السياسية التونسية بين أنصار حركة النهضة الذين رحّبوا بها واعتبروها مؤشّراً على قرب تعويضهم والمعارضة التي اعتبرت أنّها تؤشّر على كون تلك الحركة تعاملت مع ميزانيّة الدولة للعام 2014 كأنها “غنيمة يقدّمونها لمنتسبيهم من ضحايا استبداد النظام السابق” كما قال حرفياً إياد الدهماني عضو المكتب التنفيذي للحزب الجمهوري. وهي بحسب قول عضو المجلس الوطني التأسيسي سامية عبّو “رسالة سيّئة من حركة النهضة سياسياً وقانونياً وأخلاقياً حيث قُدِّم هذا المقترح بدون العودة إلى وزارة الماليّة أو حتّى استشارة لجنة الماليّة في المجلس التأسيسي التي يترأّسها نائب من حركة النهضة” . “تعويض ضحايا الاستبداد يثير خلافات عميقة بين إسلاميي تونس ومعارضيهم“، محمّد بن رجب، موقع إيلاف، 04 جانفي 2014.
  4. أمر حكومي عدد 211 لسنة 2018 مؤرَّخ في 28 فيفري 2018 يتعلّق بضبط طرق تنظيم صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد وتسييره وتمويله.
  5. تتكوّن مصادر الصندوق، حسب الفصل الثاني من الأمر الحكومي عدد 211، من: “نسبة من الأموال الراجعة لميزانية الدولة والمتأتّية من تنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة عن لجنة التحكيم والمصالحة المحدثة بمقتضى الفصل 45 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرَّخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلّق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها وتضبط هذه النسبة بقرار من رئيس الحكومة،-الهبات والتبرّعات والعطايا غير المشروطة،- كل المصادر الأخرى التي يمكن رصدها لفائدة الصندوق طبقاً للتشاريع الجاري بها العمل”.
  6. مرسـوم عدد 97 لسنة 2011 مؤرخ في 24 أكتوبر 2011 يتعلق بالتعويض لشهداء ثورة 14 جانفي 2011 ومصابيها
  7. هيئة مُحدَثة بمقتضى القانون عدد 37 لسنة 2008 الذي عرّفها بالفصل الأوّل منه بأنّها ” هيئة وطنية تتمتّع بالشخصية القانونية والاستقلال المالي تهدف إلى النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها وترسيخ قيمها ونشر ثقافتها والإسهام في ضمان ممارستها”.
  8. تتركّب اللجنة من رئيس وثمانية أعضاء يُعيَّنون بقرار من الوزير الأوّل كالآتي:- رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحرّيّات الأساسية: رئيس.- ممثّل عن الوزارة الأولى: عضو.- ممثل عن وزارة الدفاع الوطني: عضو.
    – ممثّل عن وزارة الداخلية: عضو.

    – ممثّلان عن وزارة الشؤون الاجتماعية: عضوان.

    – ممثّل عن وزارة الماليّة: عضو.

    – ممثّل عن وزارة الصحة العمومية: عضو.

    – ممثّل عن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان: عضو.

  9. قالت آمنة المستوري، المكلَّفة بملفّ المقاومين والشهداء وجرحى الثورة والعمليّات الإرهابية برئاسة الحكومة، في تصريح لإذاعة “شمس أف أم” في 20 جانفي 2019 إنّ: “الفصل 6 من المرسوم عدد 97 لسنة 2011 المؤرَّخ في 24 أكتوبر 2011 المتعلّق بالتعويض لشهداء ثورة الحرّيّة والكرامة ضبط مشمولات لجنة شهداء الثورة و مصابيها، وبذلك لا يمكن أن تكون هناك قائمة نهائية إلا بعد نشر قائمة أوّلية والبتّ في الطعون وفي الاعتراضات”. وأضافت “القائمة النهائية لشهداء وجرحى الثورة تمثّل جزء من تاريخ تونس، لذلك لا يمكن نشرها بالرائد الرسمي ثمّ إضافة تغييرات عليها. لذلك يجب أن تكون نهائية والأحكام باتّة فيها، مؤكّدة أنّ هناك جدلاً حول موعد تسليم القائمة وهو غير معلوم إلى حد الآن”. آمنة المستوري: قائمة شهداء وجرحى الثورة ليست نهائية وموعد تسليمها غير معلوم، موقع شمس أف أم، 20 جانفي 2019.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، تونس ، حراكات اجتماعية ، عدالة انتقالية ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني