الحقّ بالمحاكمة العادلة رهن الصراع السياسيّ: تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية نموذجاً


2015-12-09    |   

الحقّ بالمحاكمة العادلة رهن الصراع السياسيّ: تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية نموذجاً

مع تزايد إحالة المتظاهرين إلى المحكمة العسكرية، كان من المرتقب أن تتعالى الأصوات الداعية إلى إعادة النظر بصلاحيات هذه المحكمة، وخصوصاً لجهة منع محاكمة المدنيّين أمامها. فهي محكمة استثنائية صالحة للنظر في مجمل القضايا التي يكون فيها أحد عناصر القوى المسلحة وما شابهها مدع عليه بجرم جزائي (بما فيها تعنيف زوجته أو حادث سيارة) أو ضحية جرم جزائي. فضلا عن ذلك، تخضع المحاكمات فيها لأصول استثنائية، أبرزها اختيار غالبية قضاتها في درجاتها المختلفة من بين الضباط وغياب الموجب بتعليل الأحكام فضلاً عن تجريد الضحيّة من حقّ المثول أمامها. ورغم تحوّل هذه المحكمة إلى أداة امتيازية لصالح عناصر القوى المسلحة والأجهزة الأمنية، فإن المواقف منها تبقى إلى حدّ كبير وقفاً على مصالح الفئات السياسية المتنازعة، من دون إيلاء أي اعتبار لحقوق المتقاضين بالمحاكمة العادلة.

وفي هذا الإطار، من المفيد استعادة التجاذب السياسي الحاصل حول تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية والذي شكّل في مراحل عدة منه نموذجاً لكيفية تعامل الطبقة الحاكمة مع المطالب أو القضايا الحقوقية. اللافت أن الفريق (فريق رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري) الذي كان رافضاً لأي توسيع لصلاجيات النيابة العامة التمييزية، سرعان ما أصبح مع تعيين القاضي سعيد ميرزا نائبا عاما تمييزيا، الفريق الأكثر استفادة من توسع هذه الصلاحيات. الفريق الآخر (فريق رئيس الجمهورية السابق اميل لحود) كان عليه بالمقابل أن يتحمل وزر ما صنعته يداه. فلنقرأ مع الباحثة جويل بطرس تفاصيل هذا التجاذب: درس بليغ في السياسة والقانون، درس لا بد أن يكون مفيدا في معركة حصر صلاحيات المحكمة العسكرية (المحرر).   

كان لإقرار قانون تعديل أصول المحاكمات الجزائية في تموز 2001 أن يمرّ كغيره من القوانين على الرغم من رده من قبل رئيس الجمهورية إميل لحود. إلا أن ما شهده شهر آب 2001 من مواجهات بين قوى معارضة للنظام وأجهزته الأمنية قلب الاوراق وسمح، مرة أخرى، للسياسة بالتدخل في أصول التشريع.

وفي التفاصيل، شهد شهر آب 2001 أوسع حملة اعتقالات سياسية نفذها الجيش بحق ناشطين ينتمون إلى تيارات وأحزاب سياسية معارضة كالتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وحزب الوطنيين الأحرار والكتائب. كانت البلاد آنذاك منقسمة بين فريق مؤيد لرئيس الجمهورية إميل لحود وللوجود السوري في لبنان وفريق ثان معارض للنظام ويطالب بالإنسحاب السوري من لبنان[1].دخلت البلاد في حالة غليان غير مسبوقة واستفادت المعارضة من الجو المشحون للتصعيد في وجه رئيس الجمهورية والمحيطين به لاسيما النائب العام التمييزي القاضي عدنان عضوم وقيادة الجيش ومخابراتها. وفي خضمّ المواجهات، قرر لحود ردّ قانون تعديل أصول المحاكمات الجزائية للمرة الثانية أمام مجلس النواب بعد أن كان هذا الاخير رفض الاخذ بأسباب ردّه المرة الأولى. نعود في هذه المقالة إلى “الرحلة” التي قطعها هذا القانون منذ طرحه للتصويت للمرة الأولى أمام مجلس النواب في آذار 2001. نتناول أسباب ردّ لحود ورفض المجلس النيابي الأخذ بها وتحوّله “المفاجئ” بعد حوادث 7 آب الى مؤيد للتعديلات التي أدخلها رئيس الجمهورية. كما نتطرق الى الطعن الذي قدمه النائب بطرس حرب بالقانون وردّه من قبل المجلس الدستوري.

طرح القانون أول مرة على التصويت

أنجزت لجنة الادارة والعدل برئاسة النائب مخايل الضاهر درس تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية في 19 شباط 2001 وأحالته على الهيئة العامة لمجلس النواب لدرسه وإقراره[2]. وكان القانون قد بقيَ موضوع درس لمدة خمس سنوات وقد أعدّت حوله ثلاث دراسات في عهد المجالس النيابية السابقة والمجلس الحالي. وكانت اللجنة شكلت لجنة فرعية لدرس اقتراح القانون، اجتمعت في الفترة الممتدة بين 29 تشرين الثاني 2000 و6 شباط 2001. رأس الضاهر اللجنة التي تشكلت من النواب: نزيه منصور، بطرس حرب، نقولا فتوش، وليد عيدو وايلي عون. أقرّ مجلس النواب في جلسته المنعقدة في 29 آذار 2001 مشروع قانون تعديل أصول المحاكمات الجزائية المعمول به منذ العام 1948. طرح الاقتراح بمادة وحيدة فأقرّ معدلاً. رأى معظم النواب أن هذا القانون يكرّس صون حقوق الانسان. وأنّ من أهم “إنجازاته” أنه ميّز “بين مهمات الضابطة العدلية في الجرائم المشهودة وغير المشهودة. فأصبح التحقيق في هذه الاخيرة مقونناً بعدما كان يجري على هامش القانون مع التشديد على حرمة المنزل. ووضع القانون قيوداً وضوابط لمهمات الضابطة العدلية بحيث جعلها مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالنيابة العامة حرصاً على حقوق الناس وحريتهم.[3]” ونذكر هنا أهمّ الأسباب الموجبة التي وردت في تعديل القانون:

–       تنظيم العمل ببلاغ البحث والتحري الذي يصدره النائب العام وتحديد مدته منعاً لإساءة استعماله.
–       تحديد مدة احتجاز المشتبه فيه، في الجريمة المشهودة، بـ 24 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة، لمدة مماثلة، إذا استلزمها التحقيق.
–       تنظيم دور الضابطة العدلية في استقصاء الجرائم غير المشهودة.
–       منع احتجاز المشتبه به الا إذا كانت العقوبة سنة حبس على الأقل.
–       النص على أن كل تفتيش يجريه الضابط العدلي في أحد المنازل، خلافاً للأصول التي يحددها القانون للنائب العام في الجناية المشهودة يكون باطلاً.

ردّ لحود الاول

ردّ لحود القانون الى مجلس النواب في 27 نيسان 2001 الذي بدوره أحاله مجدداً الى لجنة الادارة والعدل. وجاء في أسباب الرد:

“ورد في السبب الأول ان الفقرة 6 من المادة 24 نصت على أن بلاغ البحث والتحري يسقط حكما بعد عشرة أيام من تاريخ صدوره، وهذا من شأنه أن يفسح في المجال أمام المجرمين للإختفاء ومغادرة البلاد دون أن يكون هناك أي مذكرة أو ابلاغ بالبحث والتحري. لذلك ينبغي الإبقاء على مفاعيل هذا النص وعدم تقييده بأي مهلة عندما يتعلق الأمر ببعض الجرائم المهمة كالجرائم الواقعة على أمن الدولة.
ورد في السبب الثاني ما يتعلق بتحديد مدة احتجاز المشتبه فيه بـ 24 ساعة قابلة للتمديد مدة مماثلة، ويعتبر أن هذه المدة قصيرة جداً بحيث لا تفي بأغراض التحقيق، ولا تمكن قضاة الإدعاء أو الضابطة العدلية من كشف الجرائم لا سيما منها المعقدة، وأن ترك المشتبه فيه، يمكنه من إخفاء معالم الجريمة أو الفرار من وجه العدالة أو إغراء الشهود أو تهديدهم ويستشهدون بالقانون الفرنسي الذي حدد مدة الاحتجاز في الجرائم المهمة بأربعة ايام.
السبب الثالث ورد فيه أن القانون الجديد نص على حضور المحامي إلى جانب المشتبه فيه في مرحلة التحقيق الأولي، الأمر الذي يحول دون كشف الجرائم فضلا عن وجود تناقض في القانون لجهة مثول المحامي أمام النيابة العامة وعدم مثوله أمام الضابطة العدلية.
السبب الرابع ورد فيه أن مدة التوقيف الاحتياطي المحددة في المادة 108 لكل من الجنحة والجناية غير كافية، وأنه يجب ترك تحديدها لقاضي التحقيق وأن القانون الفرنسي جددها في القضايا الجنحية بأربعة أشهر قابلة للتمديد مدة مماثلة، ويمكن أن تمدد حتى السنتين إذا كان الفاعل من اصحاب السوابق. أما في القضايا الجنائية، فإن مدتها سنة يمكن تمديدها بقرار معلل لمدة ستة أشهر ولمرات عدة متتالية.
السبب الخامس ورد فيه أنه لا يجوز اخلاء سبيل مدعى عليه بجنحة حكما مهما كانت مدة عقوبتها دون قرار من قاضي التحقيق.
السبب السادس يتعلق بإخلاء سبيل المدعى عليه الموقوف بكفالة او بدونها، ويبنى على اخلاء سبيل دون كفالة نتائج منها الضرر الذي يلحق بالمدعي الشخصي ويعرقل سير العدالة.
السببان السابع والثامن يتعلقان بصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز، وقد ورد فيهما أن إنقاص صلاحية النائب العام التمييزي يمنعه من إجراء تحقيق في جريمة ما وفي القضايا المحالة عليه من الادارات والمؤسسات العامة ونزع الصلاحية المنصوص عليها في المادة 14 من المرسوم الاشتراعي رقم 22/85 وإيلاء محكمة الاستئناف بدلا منه اختصاص بت الخلاف على الملاحقة الجزائية في حال عدم التوافق بين مرجعين أحدهما قضائي والآخر غير قضائي[4].”

لم تأخذ لجنة الادارة والعدل بأسباب لحود. وعلى إثر انتهاء الجلسة، صرّح الضاهر بأنه “ليس من حق رئيس الجمهورية أن يرد القانون مرة ثانية، انما يحق له ان يردّه مرة واحدة فقط…وأن اسباب الرد لا تدخل ضمن الروحية الشاملة في القانون.[5]

القانون “الحضاري” الذي لم يصمد

في 26 تموز 2001، أسقط مجلس النواب رد لحود، دون الأخذ بأسبابه[6]، وصوّت مجدداً على القانون بغالبية 81 نائباً، فيما صوت نائبان فقط هما ميشال المر وانطوان حداد ضد القانون[7]. صرّح المر أن “قناعاته تؤكد بأنّ القانون يشلّ 50% من عمل القضاء الجزائي” فيما أعلن حداد “أننا لسنا في كندا لنقرّ مثل هذا القانون.[8]

سألت النّهار يومها إن كان “التصويت على المرسوم رقم 5328 المتعلق بإعادة القانون الرامي الى تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية إلى مجلس النواب لإعادة النظر فيه استفتاء على “شعبية” رئيس الجمهورية اميل لحود؟[9]” فيما رأى فارس خشان في السفير أن القانون القديم أضحى سيئاً بفعل الممارسات الخاطئة وأنه يشبه الجديد بشكل كبير[10]. اعتبر خشان أن القانون “لولا مواد قليلة جداً كان من جهة مجرد خطوة تصحيحية لبعض الممارسات الخاطئة، ولكان، من جهة ثانية، مجرد مكرس لعادات قضائية استنبطها العرف والاجتهاد.[11]” وبالتالي، أوحى الصحافي أن البلبلة المثارة حول ردّ لحود في غير محلها خاصة أن القانون الجديد لا يختلف كثيراً عن القديم.

لقيت بنود عديدة في القانون تأييد معظم الأوساط التشريعية والقضائية والإعلامية التي أجمعت على أهمية ما توصّل اليه المشترع في تقديم قانون عصريّ للمحاكمات الجزائيّة. اعتبر البعض أنّ ما جرى يشكل “نقلة نوعية وإنجازاً كبيراً في تاريخ القضاء اللبناني وفي مجال حقوق الإنسان.” فمن شأن هذا القانون تعزيز دور القضاء ودفع القضاة للبت سريعاً بالدعاوى ما يوجب على الحكومة القيام بتعيينات قضائية اضافية “بنسبة ضعفي العدد الموجود حالياً، وهو لا يتجاوز 320 قاضياً.”
لكن هذا لم يمنع البعض الآخر من وصف القانون بأنه “جرعة حضارية زائدة عن اللزوم في لبنان، من شأنها أن تنعكس سلباً على الدور الأمني.”

علاوة على ذلك، فإن تقصير مهل التحقيق تقيّد المحقق الذي لن يجد الوقت الكافي لإكمال مهمته[12].
ومن هذه البنود:

–       أسقطت المادة 24 بلاغ البحث والتحري حكماً بعد مرور عشرة أيام من تاريخ صدوره إلا إذا قرر النائب العام الإستئنافي تمديد المهلة 30 يوماً على أن يسقط بعد ذلك حكماً.
–       حددت المادة 32 مهلة التوقيف الاحتياطي للمشتبه به على ذمة التحقيق بـ 24 ساعة فقط[13].
–       حددت مدة التوقيف في الجنحة حسب المادة 108 بشهرين وفي الجناية بستة أشهر. وتكون مدة التوقيف في الحالتين قابلة للتمديد مرة واحدة[14]. لكن هذه المدة لا تنطبق على جنايات القتل والمخدرات والاعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل وحالة الموقوف المحكوم عليه سابقاً بعقوبة جنائية.

المجلس النيابي يعود لإقرار التعديلات التي طالب بها لحود

وما أن أقرّ القانون حتى بدأ اللغط حول أحقية ردّه مرة ثانية من قبل لحود. انبرت “المصادر النيابية والدستورية” تشرح أن التعديلات “جاءت من ضمن ملاحظات رئيس الجمهورية، ولا يحق له بالتالي استخدام حقه الدستوري بالردّ، وفقاً للمادة 57 من الدستور، التي تتيح لرئيس الجمهورية ردّ القوانين مرة واحدة، خصوصاً بعدما صوّت المجلس على القانون المعاد بالأغلبية المطلقة. ومن هنا فإن رئيس الجمهورية مضطر دستورياً لإصدار القانون ضمن المهل الدستورية المحددة.[15]

نشر القانون الجديد الذي حمل رقم 328 في 2 آب 2001 وفق الاصول الدستورية. ولكن لم تطل “فرحة” إقرار قانون اصول المحاكمات الجزائية بنسخته “الحضارية” طويلاً. فتقدم عشرة نواب[16] باقتراح قانون لتعديل القانون المذكور الذي لم يكن قد مضى على إقراره أكثر من أسبوعين والذي كان قد صوّت عليه غالبية النواب في المجلس النيابي الذي تبيّن أنه “لم يحترم هذه المرة التشريع.” نشير هنا الى أنه باستثناء النائب حداد، فإن جميع النواب الموقعين على اقتراح التعديل كانوا قد صوتوا ضد المواد التي رأوا فجأة ضرورة تغييرها. ففيما اعتبرته النهار “أكبر مخالفة لأصول التشريع والقانون،” صوّت 71 نائباً في 13 آب 2001 على تعديل القانون الذي اعطي صفة المكرر المعجل، فيما عارض 7 نواب[17] وامتنع نائب[18] عن التصويت وانسحب من الجلسة نواب آخرون[19] من بينهم النائب وليد جنبلاط وكتلته. كما تغيّب عدد من النواب عن حضور الجلسة بعذر[20].

خرج طباره من الجلسة بعد جدل حاد مع بري على خلفية عدم أحقية الاقتراح بالتمتع بصفة المكرر المعجل. وهدد النائبان نسيب لحود وبطرس حرب باللجوء إلى المجلس الدستوري. وشنّ جنبلاط وكتلته هجوماً عنيفاً على التعديل “الذي يعتبر مفتاحاً ليس لعسكرة القضاء فحسب بل لجعل البلد في يد “المرقطين” الذين سحبوا يد السياسيين عن القضاء والادارة ليتمكنوا هم من وضعها.[21]

تعديل القانون في الاعلام: النهار والسفير نموذجاً

لم يكن الهجوم الذي شنه النواب المعارضون لرئيس الجمهورية الوحيد من نوعه بخصوص إقرار قانون تعديل المحاكمات الجزائية. فقد نال الرئيس حصته أيضاً من جانب الاعلام ولا سيما النهار. فقد علّق جبران تويني كاتباً: “على مستوى صراع الرئاسات، استعادت الرئاسة الأولى هيبتها، وخصوصاً بعدما حصل داخل مجلس الوزراء ومجلس النواب. ففي مجلس الوزراء شلّت كلياً صلاحيات رئيس الحكومة الذي لم يتمكن من ممارسة هذه الصلاحيات في وجه الأجهزة الأمنية لا قبل ولا بعد، هذه الأجهزة التي كانت تخوض معركة أخرى…وصلت إلى ذروتها مع إقرار قانون أصول المحاكمات معركة من نوع المعارك التي نعيشها في الأنظمة التوتاليتارية حيث لا مكان للرأي العام وحيث أنّ كل معارض خائن. أما مجلس النواب رسب وأعطى الحق لكلّ من قال ويقول أنّ هذا المجلس ليس سيد نفسه ولا يمثل الشعب ولا يتكلم باسمه بل يرضخ لكلمة سرّ تعطى من الخارج ولا يمكن أحداً أن يتجاوزها.[22]

من ناحيتها، رأت السفير أن أسباب تعديل القانون هي بحت سياسية ويجب ان تقرأ من هذا المنظار فقط.
” وفي هذا السياق، كتب أحمد زين “من هنا يقول المراقبون أنّ حساب الربح والخسارة من جراء تعديل القانون يجب أن يقاس بالميزان السياسي أولاً وأخيراً، وبعيداً عن مفاعيل التعديل القانونية التي إذا ما قرئت بدقة فإنها لا تبدو قادرة على تغيير جوهر القانون ونية المشترع العامة التي توّخاها منه.[23]

حرب يقرر تقديم طعن بالتعديل

قرر النائب بطرس حرب تقديم طعن بتعديل أصول المحاكمات الجزائية وارتكز في طعنه على مادتين من الدستور: المادة 38 والمادة 57. فالأولى تنص على أن “كل اقتراح قانون لم ينل موافقة المجلس لا يمكن أن يطرح ثانية للبحث في العقد نفسه.” والقانون الحالي كان قد أقرّ في العقد نفسه، وتحديداً بعد 12 يوماً من اقرار اقتراح القانون في 26 تموز 2001. وتنص المادة 57 على التالي: “لرئيس الجمهورية، بعد اطلاع مجلس الوزراء، حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لإصداره ولا يجوز ان يرفض طلبه. وعندما يستعمل الرئيس حقه في هذا يصبح في حل من اصدار القانون الى ان يوافق عليه المجلس بعد مناقشة اخرى في شأنه، واقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الاعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً. وفي حال انقضاء المهلة من دون اصدار القانون او اعادته يعتبر القانون نافذاً حكماً ووجب نشره.[24]

28 نائباً بينهم 4 وزراء[25] قدموا مرجعة الطعن الى المجلس الدستوري. حملت هذه الاخيرة بعد تسجيلها الرقم 3/2001 تاريخ 1 ايلول 2001. كان الجميع مدركاً أنّ المجلس الدستوري سوف يردّ الطعن لأنه وحسب “مصادر” للسفير، “بنيَ على معطيات معظمها غير دقيق، بصرف النظر عن المواقف السياسية المرحلية التي يمكن ان يقاس عليها هذا الطعن، وهو أمر لا يمكن للمجلس الدستوري أن يأخذه بأيّ اعتبار.[26]
وبالفعل، ردّ المجلس الدستوري الطعن في 29 أيلول 2001 في قرار حمل الرقم 4/2001 وقضى بقبول مراجعة الطعن بالشكل. وبردّ مراجعة الطعن في الأساس بكلّ أسبابها واعتبار القانون المطعون به مطابقاً كليّاً للدستور، إذ لم يرَ فيه “ما يمسّ الحقوق والمواثيق المصونة في الدستور.[27]
ا
عتبر الدكتور عصام سليمان (رئيس المجلس الدستوري حالياً) في تعليقه على قرار المجلس في جريدة النهار أن هذا الاخير شرح أسباب رد الطعن بطريقة واضحة، قسمّها سليمان الى جزأين. في الجزء الاول “اعتبر انه يحق لمجلس النواب أن يضع القوانين ويعدّلها، ساعة يشاء، في ضوء ما يرى فيه المصلحة العامة وحقوق المواطنين، وأن المجلس الدستوري لا ينظر في ملاءمة التشريع بل في دستوريته، لذلك رأى أن القانون المطعون فيه لا يمس مبدأ الاستقرار التشريعي، وأن هذا المبدأ لا يتمتع بالحماية الدستورية.” أما في الجزء الثاني، فقد رأى المجلس الدستوري أن “مضمون القانون المطعون فيه لا يمس بالحقوق والمبادئ والمواثيق المصونة في الدستور، وقد برز ذلك بمبدأ فصل السلطات أو استقلال السلطة القضائية، ومبدأ وحدة القضاء العدلي ودور القضاء في حماية الحريات الفردية. وهي حجج كافية لمبدأ رد الطعن.[28]

خالف المحامي سليم العازار رأي سليمان في مقالة في النهار أيضاً معتبراً أن المجلس الدستوري بقراره رد الطعن “ضيّع فرصة ذهبية لإثبات وجوده للملأ وفرض احترامه، والتحصّن ضد عوادي الدهر وصولا الى تركيز دعائم الديمقراطية الصحيحة في لبنان. فقد هالنا القرار وكأنه لائحة أجهد محامٍ نفسه في تدريجها، على أمل إقناع المحكمة بما هو مصمم مسبقاً على الوصول إليه، ألا وهو كسب الدعوى. وهالنا كثرة الاعتماد غلى الآراء الفقهية والاجتهادات الفرنسية، وأكثرها لا يمت بصلة الى موضوع المراجعة، أو أنه يؤدي الى تأييدها بدلاً من دحضها.[29]

لم يحظ قرار رد الطعن المقدم الى المجلس الدستوري بالضجة الرسمية والاعلامية التي نالها قرار ردّ القانون من قبل رئيس الجمهورية. وكأن أسباب سخط النواب والأوساط الحقوقية كانت موجهة فقط ضدّ شخص لحود بغض النظر عن التعديلات المطروحة. ولعلّ أبرز ما يثبت ذلك كان تعليق حرب على بدء العمل بالقانون المعدل الذي حصل في 8 تشرين الثاني 2001. وأوّل مفاعيله كان إسقاط بلاغات البحث والتحري والتقدم بطلبات لتخلية موقوفين في قضايا جنائية أمام محاكم الجنايات ومحكمة التمييز الجزائية. وقد علق حرب قائلاً: “أن لبنان يدخل مرحلة جديدة من تكريس حقوق الانسان وحرياته عبر بدء تطبيق هذا القانون والذي خضنا معركة كبيرة من أجل إنجازه. ورغم ما واكبه من تجاوزات وإعادة نظر في بعض الإنجازات التي كانت قد تحققت فيه، فإنّ المحتوى الذي بقي عليه يشكل انجازاً كبيراً وتطوراً مهماً على صعيد القانون الجزائي والأصول الجزائية في لبنان والتي هي الضامن الأساسي لحقوق المتضامنين ولا سيما المدعى عليهم.[30]

نشر هذا المقال في العدد | 33 |تشرين الثاني/نوفمبر/  2016 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
تشريع الأمر الواقع


[1]– اتت هذه الاعتقالات على خلفية زيارة البطريرك نصرالله صفير الى الشوف لعقد مصالحة “تاريخية” مع النائب وليد جنبلاط. فاثناء جولة صفير، حضر لحود الى احدى اللقاءات في الكحالة وما لبث ان تعرّض هناك الى حملة انتقادات واسعة من ناشطين اعترضوا على زيارته. لم يتأخر رد لحود سريعاً اذ كلفت مخابرات الجيش باجراء حملة اعتقالات واسعة في 7 آب بحق ناشطين في هذه التيارات. وتفاقم الوضع بعدما اعتدت الاجهزة الامنية في التاسع من آب على متظاهرين امام قصر العدل طالبوا بالافراج عن المعتقلين.
[2]– القضاة الذين حضروا الجلسة: عفيف شمس الدين، جورج غنطوس، رئيس مجلس القضاء الاعلى منير حنين، نقيب المحامين في بيروت ميشال ليان وفي الشمال جورج موراني.
[3]– ريتا شرارة، الهيئة العامة اقرّت ستة قوانين في ثلاث ساعات، جريدة النهار، 29 آذار 2001.
[4]– اميل خوري. استعجال بت القانون قبل الشروع في مناقشة الموازنة. جريدة النهار، 28 نيسان 2001
[5]– الادارة اسقطت اسباب الرد الرئاسي واقرّت المحاكمات الجزائية مجدداً. جريدة النهار، 15 ايار 2001
[6]– ما عدا بعض التعديلات الطفيفة التي ادخلت على المادتين 24 و108 (فيما يتعلق ببلاغ البحث والتحري ومدة التوقيف الاحتياطي في مادة الجنح).
[7]– النهار تذكر ان المر وحداد وجهاد الصمد صوتوا ضد القانون
[8]– نبيل هيثم. مجلس النواب لم يأخذ بأسباب رد “اصول المحاكمات” فأصر على القانون بتعديلات طفيفة. جريدة السفير، 26 تموز 2001
[9]– ريتا شرارة. المجلس يقرّ قانون اصول المحاكمات مسقطاً رد لحود. جريدة النهار، 27 تموز 2001
[10]– فارس خشان. الممارسة والتواطؤ حوّلا النص القديم الى مخلوق مشوّه. جريدة السفير، 30 تموز 2001
[11]– فارس خشان. الهواجس الامنية خيّمت على القانون. جريدة السفير، 1 آب 2001
[12]– قانون المحاكمات، نقلة نوعية ام جرعة زائدة؟ جريدة السفير، 26 تموز 2001
[13]– كان قانون اصول المحاكمات الجزائية الصادر عام 1948 قد حدد المدة نفسها. الا ان مجلس النواب قام بتعديلها عام 1992 واصبحت 72 ساعة قبل هذا التعديل الاخير.
[14]– ريتا شرارة. المرجع المذكور اعلاه
[15]– قانون المحاكمات: نقلة نوعية ام جرعة زائدة؟ المرجع المذكور اعلاه
[16]– علي حسن خليل، عمار الموسوي، عبدالله قصير، انطوان حداد، روبير غانم، محمد علي الميس، ياسين جابر، جهاد الصمد، فايز غصن وسليم سعادة.
[17]– نايلة معوض، فارس سعيد، مصباح الاحدب، نسيب لحود، بطرس حرب، جورج قصارجي والبير مخيبر.
[18]– وزير الدولة ميشال فرعون
[19]– بيار الجميل، انطوان غانم، احمد فتفت ونعمة الله ابي نصر.
[20]– ياسين جابر، مخايل ضاهر، فيصل الداود، عبد الرحيم مراد، حسين الحسيني وعصام فارس.
[21]– فارس خشان. رئيس الحكومة: لسنا مقتنعين…لكن الظروف السياسية اقوى. جريدة السفير،
[22]– جبران تويني. على هامش رسالتين من مقيم ومغترب؛ لننقذ لبنان معاً. جريدة النهار
[23]– احمد زين. الرابح والخاسر في تعديل اصول المحاكمات الجزائية. جريدة السفير
[24]– حرب يعدّ طعناً بتعديل اصول المحاكمات الجزائية يرتكز على مادتين وبوقعه 10 نواب على الاقل. جريدة النهار، 15 آب 2001
[25]– انطوان اندراوس، نبيل البستاني، منصور غانم البون، بيار الجميل، احمد الحجار، باسم السبع، فؤاد السعد، غازي العريضي، فارس بويز، علاء الدين ترو، وليد جنبلاط، بطرس حرب، بيار حلو، مروان حمادة، صلاح حنين، فارس سعيد، ايمن شقير، اكرم شهيّب، نعمة طعمة، ايلي عون، انطوان غانم، احمد فتفت، عبدالله فرحات، جورج قصارجي، البير مخيبر، نايلة معوض، فريد مكاري، جورج نعمه.
[26]– احمد زين. حيثيات الطعن ترجح ردّ الاول وقبول الثاني. جريدة السفير، 5 ايلول 2001
[27]– المجلس الدستوري ردّ الطعن بقانون اصول المحاكمات الجزائية “لعدم مسّه بالدستور.” جريدة النهار، 2 تشرين الاول 2001
[28]– عصام سليمان. تعليق على آخر قرارين للمجلس الدستوري. جريدة النهار، 17 تشرين الاول 2001
[29]– المحامي سليم العازار. المجلس الدستوري ليس آلة صمّاء لتسجيل الالاعيب والتحايل على الدستور. جريدة النهار، 17 تشرين الاول 2001
[30]– كلوديت سركيس. حرب: تطبيقه يدخل لبنان مرحلة جديدة في تكريس حقوق الانسان. جريدة النهار، 8 تشرين الثاني 2001
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني