الحراك الحقوقي في تونس – 2017


2018-02-21    |   

الحراك الحقوقي في تونس – 2017

سجلّت انجازات حقوقية مهمة في تونس سنة 2017، بالرغم من هشاشة “ديموقراطيتها” الناشئة والتجاذبات بين التيارات الإيديولوجية المختلفة التى سادت البلاد منذ انتخاب المجلس الوطني التأسيسي عام 2011. ولكن استطاعت منظمات المجتمع المدني التونسي أن تبرهن عن وعيها وقدرتها على إيجاد دينامية بينها وبين المنظومة الحاكمة مكنتها من المشاركة في اتخاذ القرار إلى جانب المراقبة والمحاسبة. برزت هذه الدينامية بشكل مثير للاهتمام منذ أواخر سنة 2015. فقد استطاعت هذه المنظمات منذ ذلك الحين توجيه اهتمام المشرّع التونسي نحو القضايا الحقوقية المتعلقة ليس فقط بالحريات العامة بل بالفردية منها أيضاً، مانعةً أن تؤدي الخلافات السياسية والخطاب المحافظ إلى شلّ التقدم الحقوقي في البلاد. اللافت في هذه السنة أنها كانت بمثابة سنة ل “قطف ثمار” المسار النضالي الحقوقي الذي دام قرابة ثلاث سنوات، بالرغم من أن المشهد السياسي لسنة 2017 كان مليئا بالتناقضات. فمن جهة، أنجز المشرع التونسي عدداً من القوانين الهامة ذات الأبعاد الحقوقية الواضحة. من أهم هذه القوانين، قانون عدد 10 لعام 2017 الذى رمى إلى حماية المبلغين في قضايا الفساد وقانون القضاء على جميع أشكال العنف ضد النساء. ضربت المنظومة الحاكمة هذا التقدم بعرض الحائط بعدة ممارسات أعادت مشاهد من النظام السابق. فتمرير قانون المصالحة والتلميح بإعادة طرح قانون جزر الاعتداء عبّرا عن نية واضحة للسلطة العامة ببسط سيطرتها من جديد. وقد تسبب كل ذلك في عودة الاحتجاجات الشعبية بقوة من خلال عدة حملات واضحة المطالب والأهداف والتي، بالرغم من عدم تمكنها من استيلاد حشد شعبي فعلي حولها، إلا أنها تمكنت من تحقيق التغيير المرجو والتصدي لبوادر إرجاع ممارسات النظام القديم.

في هذا المقال، سيتم عرض وتحليل الدينامية الحقوقية في تونس من خلال التطرق إلى عمل منظمات المجتمع المدني على المستويات السياسي والتشريعي والاجتماعي. طُرِحَت أسئلة عدة على بعض الجمعيات والشخصيات التى تعنى بالقضايا الحقوقية، أبرزها أ. انتصار العرفاوي، المستشارة القانونية لدى منظمة “أنا يقظ”، ود. وحيد فرشيشي، رئيس الجمعية التونسية للحريات الفردية، والمحامي السابق في جمعية محامون بلا حدود أ. عزيز صمود، الأستاذة الجامعية وعضوة لجنة المساواة والحريات الفردية د. سلوى الحمروني، المحامي منير بعتور رئيس جمعية شمس، وأ. آمنة القلالي مديرة مكتب هيومن رايتس وتش – تونس، أ. تركية بن خضر نائبة رئيسة رابطة الناخبات التونسيات، أ. أحلام بالحاج منسقة لجنة مناهضة العنف في جمعية النساء الديموقراطيات، أ جابر واجه منسق الإئتلاف من أجل الحريات الفردية في الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان، الأستاذة الجامعية منية قاري عضوة لجنة تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية، أ. يسرى فراوس ممثلة الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان في تونس. وإذ تم الاتصال بجمعيات أخرى كمبادرة سجين 52 والجمعية التونسية لمكافحة السيدا، وغيرها من الجمعيات التى أحببنا أن تشاركنا آراءها وأعمالها الحقوقية، فلم ننجح في مقابلة المسؤولين عنها ضمن الوقت المتاح لإنجاز هذا العمل. شملت هذه اللقاءات مجموعة المطالب الحقوقية المرفوعة، استراتيجية العمل والوسائل المستخدمة لتحقيق المطالب المأمولة، مع التركيز على التطورات الحاصلة في سنة 2017.

وقبل المضي في عرض نتائج هذه التحقيقات، نشير إلى أنَّ هذا التقرير غير نهائي وستعمل “المفكرة” على استكماله وجعله أكثر شمولية للعمل الحقوقي في تونس على ضوء المعلومات التي قد نحصل عليها لاحقا أو الملاحظات التي قد نتلقاها مع الأشخاص المعنيين.

حقوق المرأة: مفصلية المساواة في الإرث

سنة 2017 كانت سنة المرأة التونسية بامتياز. الشعارات في هذا الخصوص كانت قد رفعت منذ عام 2015. عدّة ائتلافات تشكّلت في إثر هذه المطالب وجنت ثمار عملها في 2017. فالائتلاف من أجل إلغاء المناشير المتعلقة بزواج التونسية خاض مسارا طويلا من النقاشات وجلسات استماع مع المعنيين، وقد تكلل بدعوة الرئيس الباجي قايد السبسي في 13 أوت 2017 لتنحية المنشور المؤرخ في 5 نوفمبر 1973 والذي كان منع طوال عقود التونسية المسلمة من حرية اختيار شريكها. أكدت أ. منية قاري للمفكرة القانونية أن هناك حالات تم فيها توثيق زواج تونسية من أجنبي بعد تنحية المرسوم. في نفس النسق، التفاعل الجمعياتي مع لجنة المساواة والحريات الفردية التى استحدثت بموجب خطاب الرئيس الباجي السبسي في 13 أوت 2017، كان ملفتا للنظر، حيث أنَّ عددا كبيرا من المنظمات والنشطاء والأكاديميين اجتمعوا مع اللجنة في جلسات نقاش، عارضين لأعمالهم ومقترحاتهم. أهم هذه الاجتماعات انعقد في 31 أوكتوبر 2017، وضمّ حوالي 40 حقوقيا، منهم ممثلين عن منظمات مدنية، للتباحث في بعض المواضيع. وقد أرسلت جمعيات أخرى للجنة تقارير تضمنت كافة التعديلات القانونية التى تقترحها. نذكر من هذه الجمعيات رابطة الناخبات التونسيات التى لعبت دورا كبيرا في إدخال مفهوم العنف السياسي كنوع من أنواع العنف الموجه للنساء في قانون حماية المراة من العنف الصادر في 26 يوليو 2017.

من جهة أخرى، شكل “التحالف الوطني ضد العنف المسلط على النساء ظاهرة مثيرة للإهتمام في تاريخ تونس ما بعد الثورة”، وفق أ. يسرى فراوس. تشكَّل هذا التحالف في 2015 واستطاع خلال سنتين تحقيق الانتشار الجغرافي والتعبئة المجتمعية المطلوبة من خلال عدة مؤتمرات ولقاءات صحفية عقدت في جهات عدة في تونس. وقد تمكَّن هذا التحالف من تحديد المحتوى المطلوب للقانون على أن يكون شاملاً ومتلائماً مع دستور 2014 وكافة الاتفاقيات الدولية. كما أصدر التحالف العديد من الأدلة التوجيهية التي تساعد السلطات التونسية على تحديد محتوى القانون، كدليل أصدرته الشبكة الأورو-متوسطية لحقوق الإنسان حول مفهوم القانون الشامل ومقتضياته. بالإضافة إلى الدليل الصادر عن الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات والفيدرالية الدوالية لحقوق الانسان متضمناً 100 إجراء للقضاء على العنف ضد النساء. تابع هذا التحالف عن قرب جلسات مناقشة فصول القانون، مقدماً مقترحات حينية تساعد المشرّع على إقرار الفصول بما يضمن تحقيق شمولية القانون. نجح التحالف في 2017 أن يتحصل على نص قانون يعد مكسبا تاريخيا لتونس. وتتجه استراتيجية التحالف اليوم إلى متابعة تنفيذ القانون بفاعلية.

في الواقع، الجمعيات النسوية في تونس أثبتت تاريخياً قدرتها على حمل قضاياها. ولكن المعوقات ما زالت كثيرة في طريق نضالها. العمل على نشر الوعي الحقوقي الذي من شأنه تعزيز وتفعيل تطبيق قانون حماية المرأة من العنف ما زال، إلى اليوم، ضعيفاً في تونس. يقابل ذلك، خدمات تعتبر أساسية تقدمها الجمعيات النسوية من خلال مراكز الإنصات والتوجيه للنساء ضحايا العنف نفسياً واجتماعيا. ولكن، كما قالت السيدة أحلام بالحاج، “الجمعيات النسوية تحملت على مدار سنين مسؤوليات توفق محدودية إمكانياتها. اليوم من خلال قانون حماية المرأة من العنف، سنطالب الدولة بأن تتحمل جزءا من هذه المسوؤليات.”

أمّا لجهة المساعدة القانونية والقضائية، فإن أغلب الجمعيات النسوية تقدّم خدمات توجيهية للنساء المعنّفات. في حالات قليلة، تعمد هذه الجمعيات إلى مرافقة النساء المعنفات إلى المحاكم. وهذا ما قد يحدث في حالات خاصة في حال عدم قدرة المعنفة على تتبّع قضيتها، أو في القضايا التى فيها اختراق قانوني واضح ويمكن أن تكون عبرة ومثالا لنشر الوعي وتحقيق الضغط المطلوب على السلطات. ومن هذه الحالات، قضية “كاهنة حسين” التي تتابعها جمعية النساء الديموقراطيات عن قرب، والتي ما تزال حتى اليوم، ورغم انقضاء سبع سنوات على سقوط هذه الفتاة من أعلى نزل “الهناء الدولي”، عالقة في أروقة المحاكم.

أما على صعيد رصد الانتهاكات، فهنا ترى يسرى فراوس أن الجمعيات النسوية كما سائر الجمعيات الحقوقية في تونس تنشط بشكل خاص “عند وجود مناسبة دولية لتقديم تقاريرها. فمثلاً قدّمت أكثر من 23 جمعية تونسية تقريراً موازياً لمجلس حقوق الانسان في إطار الاستعراض الدوري الشامل لتونس. ولكن ليس هناك تقليد دوري أو سنوي تصدر فيه كل جمعية وطنية تقريراً يرصد بشكل شامل وموسّع مجمل الانتهاكات. “قلة التمويلات هو أحد الأسباب التى تحول دون العمل على رصد سليم للانتهاكات”.

الفساد في تونس أصبح ثقافة … أي خطاب لمكافحته؟ 

كان لمكافحة الفساد نصيب كبير من عمل الجمعيات الحقوقي في 2017. تصدت المنظمات التى تعنى بمكافحة الفساد  لمحاولات السلطة بتمرير قوانين تهدد الحريات وتساعد على تبييض الفساد، ومنها قانون المصالحة وقانون جزر الإعتداء على الأمنيين. إلى جانب البيانات المشتركة العديدة التى توجهت بها هذه الجمعيات إلى السلطة مطالبة بسحب قانون المصالحة، شارك أعضاء هذه المنظمات والفاعلون فيها بصفتهم المدنية بكثافة في الاحتجاجات المدنية التى نظمتها حملة “مانيش مسامح” والتى اشتدت حدتها في مطلع 2017. في هذا الصدد، صرحت أ. إنتصار العرفاوي، المستشارة القانونية في جمعية “أنا يقظ”، للمفكرة ب “أن حملة “مانيش مسامح” عملت على ابتكار وسائل جديدة لتحقيق الحشد الشعبي المطلوب. فقد تمّ استخدام الأغاني الكروية والتي تستخدم عادة في مباريات كرة القدم. أدى ذلك إلى استقطاب العامة، الشباب خصوصاً، للمشاركة في الاحتجاجات بأعداد كبيرة. استطاعت هذه الاحتجاجات أن تكون السبب الأبرز الذي غير الكثير من معالم هذا القانون. حيث تحول من كونه قانوناً شاملاً للمصالحة الاقتصادية والإدارية ليصبح قانوناً يقتصر على المصالحة الإدارية فقط. “قالت النائبة يمينة الزغلامي” أن حملة “مانيش مسامح” كانت سببا رئيسيا في التراجع عن مشروع قانون المصالحة الأولي”، حسبما أفادت العرفاوي.

من جهة أخرى، تعمل المنظمات التونسية التى تُعنى بالفساد ضمن أسلوب متقدّم ونوعي فيما يخصّ الوسائل المستخدمة لنشر الوعي الحقوقي. بالنسبة لجمعية “أنا يقظ”، قامت هذه الجمعية في أفريل 2017، بمبادرة أسمتها “برلمانيون ضد الفساد”، حيث صادق بعض ممثلي الأحزاب على اتفاقية مشتركة تهدف إلى تعزيز التعاون بين منظمات المجتمع المدني والبرلمان بصفته السلطة التشريعية في البلاد في مكافحة ظاهرة الفساد. “شهر ضد الفساد” هي مبادرة أخرى من قبل “أنا يقظ” انطلقت في 9 ديسمبر 2017 وامتدت حتى 14 جانفي 2018، للمرة الخامسة على التوالي. شمل هذا الشهر نشاطات مكثّفة عدة، منها موسيقية، وثقافية، وتربوية، نُظمَّت في العديد من الجهات في تونس. كما تعددت خلفيات المشاركين، فكانت تضم الطلبة، المدرسين، موظفين عموميين، فنانين، الخ. تمحورت النشاطات حول ثقافة مكافحة الفساد الذي استشرى في تونس خصوصاً في السنوات الأخيرة. كما تضمن احتفالا تكريميا للمبلغين على الفساد، كخطوة رائدة لتشجيع المواطن على أن يحذو حذو هؤلاء المبلّغين. في الواقع، أدخلت منظمة “أنا يقظ” مفهوم المكافأة للمبلغين منذ تقديمها مشروع قانون النفاذ إلى المعلومة لمجلس نواب الشعب في 2016. وهذا ما تم إقراره فعلاً في القانون بضغط من الجمعية التي شاركت في جلسات الإستماع والنقاش داخل المجلس فيما يخص هذا القانون.

في ظل اقتراب موعد الانتخابات البلدية، بادرت “أنا يقظ” إلى إطلاق مشروع هو عبارة عن دورات تكوينية متخصصة تهدف إلى إرساء مقومات الحوكمة الرشيدة على المستوى البلدي. وقد استهدف المشروع شبكة من الجمعيات متمركزة في جهات مختلفة في تونس. في هذا المشروع، تتخذ “أنا يقظ” دورا إشرافيا على هذه الجمعيات التى ستعمل بنفسها على مراقبة مسار إجراء الانتخابات في جهاتها. قالت انتصار العرفاوي “دعم “أنا يقظ” للجمعيات التى تعمل في الجهات يجعلنا أكثر قدرة على تشكيل جبهة ممتدة في كل تونس لمواجهة الفساد.”

بالنسبة للعمل على النفاذ للمعلومة، نلقى “مرصد بلدية”، و”مرصد ميزانية” المستحدثين في 2014، بالإضافة الى “مرصد مجلس” الذي انطلق مع أعمال المجلس الوطني التأسيسي. كلها مشاريع بادرت إليها جمعية “بوصلة” في سنة 2014، واستمرت حتى هذه اللحظة بفعالية كبيرة مكّنت المواطن التونسي من النفاذ إلى المعلومة والإطّلاع على كل المجريات السياسية التى تمسّ صلب الواقع الاجتماعي والاقتصادي المعاش. هذا الرصد أثبت أهمية مراقبة المجتمع المدني لعمل المجلس التشريعي والتأثير الذي يمكن أن تحدثه هذه الرقابة. هذا ما أكدته النائبة في مجلس نواب الشعب التونسي يمينة الزغلامي للمفكرة القانونية، حيث قالت أنَّ “عمل الشباب في منظمات المجتمع المدني كمراقبين له تأثير كبير على فعالية عمل المجلس التشريعي. هناك العديد من النواب أصبحوا يهابون جمعية بوصلة التى تعدّ جمعية كبيرة وقوية اليوم في تونس.”

كما تصدر “بوصلة” في تقارير دورية إحصاءات وأرقاما تمكّن من التوثيق والضغط السياسي بما فيه زيادة القدرة للنفاذ إلى المعلومة. تعمل أنا يقظ في نفس الاتجاه. فقد أصدرت هذه الأخيرة في 29 سبتمبر 2017، تقريراً هاماً يتضمن قائمة سوداء وقائمة بيضاء للإدارات ومدى تفاعلها مع حق النفاذ للمعلومة. تتضمن تجربة “أنا يقظ” في التعامل مع مؤسسات الدولة فيما يخص المطالب بمقتضى القانون عدد 22 لسنة 2016، المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة، ناهيك عن البيانات المشتركة التى عادةً ما تصدرها “انا يقظ”، بالتعاون مع الجمعيات التى تعنى بنفس قضاياها، لتعزيز موقفها من أي قضية مثارة أو تعدّ من قبل الدولة.

فيما يخص التقاضي، قالت انتصار العرفاوي “انتقلنا من مرحلة الإشارة إلى الفساد إلى مرحلة أخذ الفاسدين الى القضاء. أصبحنا نرفع قضايا ونتابعها دولياً ومحلياً”. القضية الأكثر إثارة للإهتمام في 2017، والتى رفعتها جمعية “أنا يقظ”، بموجب قانون النفاذ للمعلومة المقر مؤخراً، كانت سابقة من نوعها، حيث تقدّمت المنظمة ضدّ المحكمة الإدارية لدى المحكمة الإدارية وذلك لرفضها تمكين المنظمة من نسخ ورقية من التقارير السنوية للمحكمة من سنة 2010 إلى سنة 2014. ما زالت هذه القضية سارية التحقيق، على أن تصدر “أنا يقظ” تقريرها السنوي الشامل لكل القضايا المرفوعة والرصد والتوثيق لعام 2017 مع نهاية شهر جانفي 2018.

مجتمع الميم: مطالبات جذرية يقابلها إجراءات جزئية

بعد السياسة الإحترازية التى عملت بها في بداية 2011، خوفاً من الخطاب المحافظ السائد في البلاد، انتقلت المنظمات الحقوقية التى تعنى بقضايا مجتمع الميم، إلى تبني خطاب حقوقي علني، جذري بشكل عام وواضح المطالب. “الهدف الأساسي ليس فقط تنحية الفصل 230 الذي يجرّم المثلية الجنسية، بل تنقيح مجمل القوانين التي يمكن أن تستخدم لتجريم المثلية ومنها القوانين المتعلقة بالأخلاق الحميدة مثلاً” أوضح د. وحيد فرشيشي. تشكّلت كل من جمعية دمج، وشمس، وموجودين، وشوف وكلمتي في 2016 ضمن التحالف التونسي من أجل حقوق المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي وعابري ومؤكدي الهوية الجندرية. وبمساعدة الائتلاف من أجل الحريات، تمكنوا من خوض سبل عمل ذات أبعاد دولية لتحقيق مطالبهم. ففي سبتمبر 2016، قدَّم هذا التحالف تقريراً موازياً خاصاً بمجتمع الميم إلى مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، شاملاً للانتهاكات التى تتعرض لها هذه الفئة في تونس من حدّ للحريات وتمييز قانوني واجتماعي واقتصادي، كخطوة تعد الأولى من نوعها في العالم العربي. أكدت أ. فراوس أن “هذا التقرير أحرج الدولة التونسية في جنيف. فقد كثرت بنتيجته الأسئلة الموجّهة إليها من قبل الدول الكبرى في مجلس حقوق الإنسان.” أدى ذلك الضغط إلى قبول الدولة التونسية توصية دولة “لوكسمبورغ” بخصوص التوقف عن إجراء الفحوصات الشرجيّة. ويُشار هنا إلى وجود خطاب مزدوج: فبعد قبول تونس هذه التوصية الموجهة من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته السادسة والثلاثين، صرَّح الوزير مهدي بن غربية بأن المنع يسري فقط على الفحوصات “القصرية” معلنا النية في إيقافها خلال أربع سنوات. “سنعمل في الائتلاف من أجل الحريات الفردية في استراتيجية 2018 على مطالبة الدولة التونسية بتحمل مسؤولية قبولها للتوصية”، كما أكّد د. وحيد فرشيشي. في الإطار نفسه، يلحظ أن عمادة الأطباء نبّهت في بلاغ صدر في 03-04-2017 الأطباء الذين يتم تسخيرهم قضائياً لإجراء الفحوصات الشرجية لحقهم في رفض ذلك، معتبرة أنّ هذه الممارسات هي انتهاك لكرامة الإنسان وحرمة جسده. وبهدف تقوية مفاعيل هذا التعميم، نظمت جمعية شمس وقفة احتجاجية في 2 ماي 2017 أمام عمادة الأطباء لمطالبتها بمنع منظوريها من ممارسة الفحوصات الشرجية.

هذا من جانب العمل على التأثير السياسي وتغيير السياسات. أمّا من ناحية العمل الميداني، شهد عام 2017 تطوراً على صعيد الوسائل المستخدمة من قبل الجمعيات التى تعنى بمجتمع الميم لنشر الوعي الحقوقي المطلوب لقضاياهم. فمن جهة، أطلقت جمعية شمس “شمس راد”، والتى هي أول إذاعة خاصة بقضايا مجتمع الميم في تونس والعالم العربي. ورغم أن هذا الإطلاق أحدث صدمة وبلبلة كبيرتين تخللهما تهديد للشبان العاملين فيها، إلا أن القيمين على الجمعية يرون أن هذه الخطوة كسرت الكثير من ال”التابوهات” ولفتت أنظار المنظومة الحاكمة والمجتمع على حد سواء إلى قضايا هذه الفئة. “شمس ماغ” هي وسيلة أخرى استحدثتها جمعية شمس في 2017. وهي صحيفة تصدر دورياً عن الجمعية شاملة لأخبار مجتمع الميم من تونس والعالم العربي، شارحة القضايا الحقوقية والتوعية الجنسية، فيما يخص هذه الفئة. بعد عمل دام أشهراً في 2017، انطلق أيضاً في 15 يناير من السنة الجديدة مهرجان الأفلام الكويرية التى تنظمه جمعية “موجودين” للمرة الأولى، عارضة من خلاله أفلاما من تونس إلى جانب أفلام من مختلف العالم العربي وأفريقيا. تناولت الأفلام أوضاع هذه الفئة والمصاعب التى تعاني منها في بلدانها.

رغم التقدم الحاصل في الخطاب العام وفي الوسائل المستخدمة في هذا الخصوص، يشير أ. منير بعتور،  أن “هذه الوسائل لم تثبت فعاليتها بعد. فالإرادة السياسية ما زالت تقصي هذه الفئات. فقد رفضت الدولة التونسية التوصية الموجهة لها من قبل مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة بخصوص إلغاء فصل 230 الذي يجرّم المثلية. بالإضافة إلى أن التقبل الاجتماعي لهذه الفئات ما زال ضئيلاً، حيث أنّ عددا كبيرا من المثليين والمثليات يعانون من نبذ اجتماعي واقتصادي خطير.” يضاف إلى ذلك، الإمكانيات المحدودة لدى هذه الجمعيات والتى تحول دون قدرتها على الانتشار الجغرافي. الأمر الذي يشكل عائقاً أمام نشر الوعي، ورصد الانتهاكات، وتقديم المساعدات الاجتماعية والقانونية الضرورية للضحايا. ويسجل في هذا الإطار أن بعض الجمعيات كجمعية دمج استطاعت توسيع نطاق عملها، ليشمل سوسة، صفاقس، وتوزر.

وعلى صعيد الخدمات الاجتماعية والقانونية ورصد الحالات، يؤكد جابر واجه، منسّق الائتلاف من أجل الحريات الفردية، “أنَّ الائتلاف عمل في 2017 على تمكين المنظمات التى تعنى بمجتمع الميم فيما يخص رصد الانتهاك ومساعدة المنتَهَكين، عبر استحداث شبكات إصغاء مستعدة لتلقي شكاوى أو تبليغ عن انتهاك أو تقديم دعم نفسي أو توجيه طبي أو قانوني.” ولكن، يلحظ أن هذه الجمعيات ما تزال غير قادرة على توثيق الانتهاكات بشكل فعّال يمكّنها مستقبلاً من دراسة تغير نسبة الانتهاكات أو الوعي الحقوقي أو حتى دراسة الوسائل المختارة لتحقيق هذا الوعي، بل يقتصر هدف الرصد على لفت انتباه السلطة بطريقة آنية فقط. فمثلاً، رصدت جمعية شمس منذ تاريخ قبول الدولة التونسية التوصية القاضية بتوقيف هذه الفحوصات حتى نهاية عام 2017، وفق ما صرح به رئيسها، عشرين حالة تم فيها انتهاك حرمة الجسد من خلال الفحوصات. أمّا جمعية عدلي فوثّقت خلال نفس الفترة خمس حالات تم فيها تطبيق الفحوصات الشرجية على قاصرين لم يبلغوا الثامنة عشرة وفق د. الفرشيشي. وإذ عبرت الجمعيتان عن خشيتهما من أن تكون الحالات التي تم توثيقها أقلّ من الحالات التى تعرّضت للانتهاكات، فإن جمعية عدلي اعتبرت أن تقديم دليل على حصول “بعض” الانتهاكات يكفي لمواجهة السلطة والضغط عليها من أجل تنقيح أو إلغاء قانون 230 الذي يجرّم المثلية.

أمّا على صعيد تقديم مساعدة قضائية، هناك بعض القضايا التى ترفع وتتابع من خلال المحامين المتطوعين لدى هذه الجمعيات أو مدفوعي الأجر الموَكَلين من قبلهم. ولكن نظراً لمحدودية الإمكانيات المادية والإنتشار الجغرافي، فعدد القضايا يبقى محدوداً. ويشار إلى أنه غالباً ما تجد هذه الجمعيات صعوبة في التشبيك مع متطوعين أو محامين مستعدين لمتابعة هذا النوع من القضايا في الجهات والولايات. بالإضافة إلى أنًّ نسبة المبلغين عن هذه الإنتهاكات مازالت محدودة خارج تونس. ناهيك عن أن نتائج التقاضي تبقى محدودة حسب بعتور، حيث “أنَّ أغلب بل وربما كل القضايا التى تم رفعها من قبل جمعية شمس بخصوص اتهامات المثلية الجنسية انتهت بعقوبات سجن تصل إلى 3 سنوات”، حسبما صرّح المحامي منير بعتور. بالإضافة إلى أنَّه  في أغلب الأحيان يقتصر تدخّل المحامين على حماية المتهمين من التعرض لأي تعذيب ومحاولة تخفيف الأحكام الصادرة في حقهم من سنوات إلى أشهر. مع الإشارة الى أن الوعي الحقوقي لدى القضاة وأغلب المحامين بالموضوعات المرتبطة بالحريات الفردية، والمثلية الجنسية خصوصاً، ما زال معدوما، حسبما أكد أغلب الحقوقيين والناشطين الذين تمت محاورتهم لكتابة هذا التقرير.

“الزطلة”: مشروع قانون ينتهي بتنقيح بسيط للقانون

أخذ قانون 52 المتعلق بالمخدرات حصة من عمل الائتلاف من أجل الحريات الفردية. ويشار إلى أن هذا القانون كان يفرض عقوبة سجنية لا تقل عن سنة حبس لمستهلكي المخدرات، مما أدى إلى أرقام عالية من المدانين المسجونين لإخلالهم به. فقد شارك الائتلاف على ثلاث مراحل في جلسات استماع في مجلس نواب الشعب التونسي لمناقشة هذا القانون. دفعت مطالبة التحالف المتكررة المشرّع إلى تنقيح هذا القانون في 8 ماي 2017 في اتجاه منح القاضي صلاحيات تقديرية يتمكّن من خلالها الاجتهاد في قضايا المستهلكين؛ وقد أدى ذلك عموما إلى إصدار قرارات بوقف تنفيذ العقوبة. وقد أفاد جابر واجه منسّق الائتلاف من أجل الحريات الفردية أنه سيواصل الإئتلاف العمل للضغط على المشرّع التونسي لتبني قانون شامل يسقط الملاحقة عن المستهلكين. يبقى أن قلة من الجمعيات تعنى بقضايا مستهلكي المخدرات وتقدم لهم مساعدات صحية واجتماعية. ونلحظ أن “الجمعية التونسية لمقاومة الأمراض المنقولة جنسياً والسيدا” هي الجمعية الوحيدة التى أتى على ذكرها النشطاء الحقوقيون على أنها تنشط في هذا المجال. مع العلم أن هناك نقصا خطيرا في مراكز الرعاية الصحية للمدمنين في تونس تجعل من هذه الظاهرة مهدداً اجتماعياً.

وسائل العمل: تخصص، ائتلافات، وتنافس…

مما تقدم، أمكن القول أنَّ العمل الحقوقي في تونس أحرز تطورا في مجالات عدة في 2017، ليس فقط في مضمون الخطاب إنما أيضا في  وسائل العمل. وقد أخذ هذا التطور أشكالا عدة، أبرزها التخصص وقيام الائتلافات وإن بقيت التنافسية قائمة وبقوة.

ففي السنوات الأخيرة، خصوصاً في فترة ما بعد وضع دستور 2014، شهدنا تغيراً على صعيد المنظمات التى تعنى بالقضايا الحقوقية. فقد أصبحت هذه المنظمات أكثر “تخصصاً”. فكل منظمة صوَّبت رؤيتها وحددت نطاق اهتمامها بما يفيد قضية معيّنة من القضايا الحقوقية العديدة التى لم تحسم بعد في تونس. كما شهدنا قيام عدد من الائتلافات والتحالفات بين منظمات المجتمع المدني والتى شكلت الدعامة الأساسية والقوة الضاغطة وراء اتخاذ الدولة التونسية بعض الإجراءات القانونية تجاه بعض المسائل الحقوقية والتى شهدنا ذروتها في عام 2017. ومن أهم هذه الإئتلافات، الائتلاف من أجل الحريات الفردية، الذي أتينا على ذكره مرات عديدة في هذا التقرير، والذي تم تأسيسه في جانفي 2016، بعدما انضمت إليه مجموعة من الجمعيات التونسية العريقة والتاريخية وهو يشمل حاليا 36 منظمة حقوقية. ونذكر منها أيضاً الإئتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الاعدام،  ائتلاف المجتمع المدني لمكافحة الفساد، الإئتلاف من أجل العدالة الإنتقالية.

اللافت أن هذه الائتلافات المدنية تضم جنبا إلى جنب جمعيات تاريخية وحديثة، وطنية ودولية. ولكن التضامن فيما بينها يقتصر أحياناً كثيرة على المواقف فقط. بالإضافة إلى أنَّ التفاعل فيما بينها وقتي ومجتزأ، كل ذلك في موازاة سواد التنافسية في عمل هذه الجمعيات، ليس فقط بين الجمعيات المحلية، بل أيضاً بين تلك المحلية والدولية. فنقل المعرفة بين الجمعيات المحلية والدولية ما زال يتم عموما بطريقة عامودية، تجعل الدولية منها في مستوى “المعلّم” بدلاً من المعاون. بالإضافة إلى أن الجمعيات العريقة في تونس والتى أثبتت نفسها تاريخياً في العمل الحقوقي تتردد في مدّ يد العون للجمعيات الحديثة الناشئة في البلاد. كما تتنافس تلك المنظمات العريقة مع الدولية ناسبة لنفسها الأحقية الوطنية والخبراتية في العمل الحقوقي.

وعلى صعيد التعاون مع مؤسسات الدولة، يسجل أن العديد من الجمعيات الحقوقية تتفاعل مع اللجان المؤقتة، سواء كانت لجانا منشأة من السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية. فكما سبق وذكرنا، تفاعلت المنظمات بشكل كثيف مع لجنة المساواة والحريات الفردية التي أنشأها رئيس الجمهورية. بالإضافة إلى تفاعلهم مع لجنة تنقيح المجلة الجزائية ولجنة تنقيح الإجراءات الجزائية التابعتين لوزارة العدل. وفي هذا المجال، يوضح د. وحيد فرشيشي أنه “بالرغم من أنَّ هذه اللجان خاصة، وليس لها أي تواصل مع المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني، غير أننا كنشطاء حقوقيين وأكاديميين حاولنا خلق شبكة تواصل بيننا وبينهم بطريقة غير رسمية. حيث أننا من خلال معرفتنا الشخصية برؤساء وأعضاء هذه اللجان استطعنا أن نتابع ما توصلوا إليه. يتم ايضاً من خلال هذه الشبكة  توصيل ما تريده المنظمات الحقوقية من تغييرات على صعيد القانون الجزائي.” وهذا ما أثنت عليه أحلام بالحاج خلال حوارنا معها.

نشر في العدد 10 من مجلة المفكرة القانونية في تونس

يندرج هذا الائتلاف ضمن الائتلاف من أجل الحريات الفردية

 منهم جمعية بوصلة، جمعية “انا يقظ” وجمعية “راج”

 نائبة في مجلس نواب الشعب التونسي

وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان

 راجع مقالة “عمادة الأطباء التونسيين تدين الفحوص الشرجية وتدعو للإمتناع عن إجرائها مستقبلا”، موقع المفكرة القانونية

 الجمعيات التى تعمل على قانون 52 من ضمن الائتلاف من أجل الحريات الفردية هي  الجمعية التونسية للحريات الفردية، ومحامون بلا حدود، والرابطة التونسية لدفاع عن حقوق الانسان، والفدرالية الدولية لحقوق الانسان، والجمعية التونسية لمكافحة السديا، الى جانب مبادرة سجين 52 والممثلة بشخص الاستاذ غازي المرابط.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني